محتوى مترجم
المصدر
aeon.co
التاريخ
2017/08/14
الكاتب
زيا ميرالي

عادةً لا يُلام الفيزيائيون على استخدام حسّ الفكاهة الفاضح في كتاباتهم العلمية، لكن في 1991 هذا ما حدث بالضبط لعالم الكوزمولوجيا «أندريه ليند» بجامعة ستانفورد. كان قد قدّم مسودةً لمقالة تحت عنوان «الفن الصعب لخلق الكون» لجريدة Nuclear Physics B. تكلم فيها باختصار عن إمكانية خلق كون في المعمل: كون جديد بالكامل ربما تنبعث منه ذات يوم نجومُه وكواكبه وحياته الذكية.

قرب الختام، اقترح ليند على ما يبدو اقتراحًا وقحًا مضمونه أن كوننا نفسه ربما شكّله «صانع فيزيائي» فضائي. اعترض المقيّمون للورقة على هذه «النكتة القذرة»؛ فقد خشوا من أن يشعر المتدينون بالإهانة بسبب استهداف العلماء لسرقةِ إنجازِ صنعِ الكون من بين يديّ الرب. غيّر ليند عنوان الورقة وفقرة الخلاصة لكنه تمسك بإصرار بالسطر القائل إن كوننا قد يكون صنيعةَ عالمٍ فضائي. أخبرني: «لستُ أكيدًا تمامًا من أن هذه مجرد نكتة».

ليست القضية فيمن قد يشعر بالإهانة من التخليق الكوني، لكن ما الذي سيحدث إذا كان ممكنًا حقًا؟

وبعد ربع قرن، أصبحت فكرة صنع الكون –«التخليق الكوني Cosmogenesis» كما ألقبّها – تبدو أقل فكاهة مما كانت أبدًا. لقد سافرتُ العالم متحدثًا مع الفيزيائيين المتعاملين بجدية مع هذه الفكرة، وقد رسموا حتى مخططات تقريبية لكيفية تحقيق البشرية لها ذات يوم. ربما كان لمقيّمي ليند الحق في القلق، لكنهم كانوا يطرحون الأسئلة الخطأ. ليست القضية فيمن قد يشعر بالإهانة من التخليق الكوني، لكن ما الذي سيحدث إذا كان ممكنًا حقًا؟، كيف سنتعامل مع التداعيات اللاهوتية؟، ما المسؤوليات الأخلاقية التي ستبرز مع تولي البشر غير المعصومين لدور خالقي الكون؟.

تنازع علماءُ الفيزياءِ النظريةِ لسنوات على أسئلةٍ ذات صلة كجزء من أبحاثهم عن كيفية بدء كوننا. في الثمانينيات، عالم الكوزمولوجيا «أليكس فيلنكين» بجامعة تافتس في ماساتشوستس، اقترح تقنيةً قد تكون قوانين ميكانيكا الكم استطاعت من خلالها توليد عالم متضخم من حالة لم يكن فيها زمان ولا مكان ولا مادة.

هناك مبدأ ثابت في نظرية الكم عن أن أزواج الجسيمات بإمكانها البزوغ عفويًا ولحظيًا من الفضاء الفارغ. خطا فيلنكين بهذه الفكرة خطوة أبعد،محاججًا بأن قواعد الكم تستطيع أيضًا السماح لفقاعة صغيرة من الفضاء ذاته أن تنبثق إلى الوجود من لا شيء، مع قوة دافعة لها كي تتضخم إلى مقاييس فلكية. هكذا قد تكون قوانين الفيزياء وحدها قذفت بكوننا إلى الوجود. بالنسبة لـ«فيلنكين»، وضعت هذه النتيجة نهاية للسؤال عمَّا جاء قبل الانفجار العظيم: لا شيء. تصالح كثير من علماء الكوزمولوجيا مع فكرةِ كونٍ بلا محرّك أول، إلهي أو من أيّ نوع آخر.

ومن وجهة النظر الفلسفية المقابلة، التقيت دون بيدج، فيزيائي ومسيحي إنجيلي بجامعة ألبيرتا في كندا،مشهور بتعاونه المبكر مع «ستيفن هوكينج» في أبحاث عن طبيعة الثقوب السوداء. بالنسبة لـ بيدج، النقطة البارزة هي أن الرب خلق الكون ex nihilo، من لا شيء إطلاقًا.

على الجانب المعارض، نوع التخليق الكونيّ الذي تخيله ليند يستلزم أن يطهو الفيزيائيون كونهم في معمل عالي التقنية، مستخدمين شبيهًا بمصادم الهدرونات الكبير قرب جينيف The Large Hadron Collider لكن أقوى بكثير جدًا. سيستلزم الأمر أيضًا وجود بذرة جسيمية تدعى «أحادي القطب المغناطيسي monopole» (تفترض وجودها بعض النماذج الفيزيائية، لكن لم يُعثر عليها بعد).

الفكرة هي أنه إذا تمكنّا من نقل ما يكفي من الطاقة إلى أحاديّ القطب، فسيبدأ في التضخم. لكن بدلاً من أن يكبر حجمه بداخل كوننا، سيثني أحاديُّ القطبِ المتمددُ الزمكانَ بداخل المسارع ليخلق نفقَ ثقبٍ دوديٍّ بالغَ الصغرَ يؤدي إلى منطقة منفصلة من الفضاء. بداخل معملنا سنتمكن من رؤية فم الثقب الدودي فقط؛ سيبدو لنا كثقب أسود صغير، صغير جدًا وبالتالي غير مؤذٍ على الإطلاق. لكن إن استطعنا السفر إلى داخل ذلك الثقب الدودي، فسنعبر خلال بوابة إلى كونٍ وليدٍ متسارع التمدد، قد قمنا لتونا بخلقه. (فيديو يوضح هذه العملية ويقدم مزيدًا من التفاصيل).

يعرض بيدج إلى أنه لا سبب يدعونا للاعتقاد بأنه حتى أكثر الصنّاع الفيزيائيين تطورًا بمقدوره استحضار عالم من لا شيء إطلاقًا. أمّا مفهوم ليند عن التخليق الكوني، فمع جراءته، لا يزال تكنولوجيًا بالأساس. بالتالي، لا يرى فيه بيدج تهديدًا يُذكر لإيمانه. إذن، باعتبار هذه القضية، لن يزعج التخليق الكوني بالضرورة وجهات النظر اللاهوتية القائمة.

لكن بتقليب المشكلة، بدأت أتساءل: ما هي تداعيات مجرد تفكير البشر في أنه ذات يوم يمكن صنع كون تسكنه حياة ذكية؟ كما أستعرض في كتابي (انفجار عظيم في غرفة صغيرة A Big Bang in a Little Room 2017). تقترح النظرية الحالية أنه بمجرد خلقنا لعالم جديد، فلن تكون لدينا قدرة كافية للتحكم في تطوره أو المعاناة المحتملة لأيٍّ من قاطنيه. ألن يجعلنا هذا آلهة غير مسؤولة ومهملة؟. طرحتُ السؤال على إدواردو غيندلمان، فيزيائي بجامعة بن جوريون بإسرائيل، وقد كان واحدًا من المهندسين المصممين لنموذج التخليق الكوني سابقًا في الثمانينيات.

حاليًا، يعمل غيندلمان في بحثٍ بإمكانه تقريب صنع الكون الوليد من مدى التحقق العمليّ. كنت مندهشًا لاكتشاف أن القضايا الأخلاقية لم تسبب له أيّ إزعاج. يشبّه غيندلمان العلماء المتفكرين في مسؤوليتهم عن صنع كون وليد بوالدين وقت اتخاذ قرار ما إذا كانا سينجبان أطفالاً أم لا، وهما يعرفان أنهما حتمًا يأتيان بهم إلى حياة ملؤها الوجع كما البهجة.

الفيزيائيون الآخرون أشد حذرًا. «نوبويوكي ساكاي» من جامعة ياماغوتشي في اليابان، أحد المنظّرين الذين قدموا المقترح القائل إن أحاديّ القطب قد يصلح كبذرة للكون الوليد، اعترف أن التخليق الكوني قضية شائكة، علينا «القلق» بشأنها كمجتمع في المستقبل. لكنه أحلّ نفسه من أيّ شواغل أخلاقية حاليًا. ومع أنه يجري العمليات الحسابية التي يمكن أن تتيح التخليق الكوني، يشير إلى أنه ستنقضي عقود قبل الوصول لاحتمال تحقيق تجربة كهذه عمليًا. إذن، يمكن للشواغل الأخلاقية الانتظار.

توالد حياة ذكية، بصرف النظر عن شكلها، يمكن اعتباره كشيء له قيمة أصيلة. في تلك الحالة، يمكن أن يُعد التخليق الكوني التزامًا أخلاقيًا بالفعل

رفض كثير من الفيزيائيين الذين تكلمتُ معهم الخوض في تلك المآزق الفلسفية المحتملة. لهذا توجهتُ إلى فيلسوفٍ، أندرس ساندبرج بجامعة أكسفورد، وهو يعمل على تأمل التداعيات الأخلاقية لخلق حياة صناعية واعية بالمحاكاة الحاسوبية. يجادل بأن توالد حياة ذكية، بصرف النظر عن شكلها، يمكن اعتباره كشيء له قيمة أصيلة. في تلك الحالة، يمكن أن يُعد التخليق الكوني التزامًا أخلاقيًا بالفعل.

بإعادة النظر في محادثاتي المتعددة مع العلماء والفيزيائيين عن هذه القضايا، استنتجت أن محرري جريدة Nuclear Physics B أساءوا لكلٍ من علم الفيزياء واللاهوت. ففعلهم الرقابي الضئيل هذا لم يُفِد سوى في خنق مناقشة ضرورية. يكمن الخطر الحقيقي في تعزيز جو من العدائية بين الجانبين، ما يترك العلماء خائفين من الحديث بصدق عن النتائج الدينية والأخلاقية خوفًا من الانتقام أو التسفيه المهني.

لن نخلق عالمًا وليدًا في أيّ وقت قريب، لكن ينبغي أن يشعر العلماء في كل مناحي البحث بحرية الكلام عن تداعيات عملهم بغير خشية من إلحاق إهانة بأحد. التخليق الكوني مثال متطرف يختبر القاعدة. القضايا الأخلاقية المماثلة على المحك في آفاقها الأقرب حدوثًا كخلق ذكاء اصطناعي أو تطوير أنواع جديدة من الأسلحة، على سبيل المثال. كما يعبّر ساندبيرج عن الوضع، رغم أنه من المفهوم تحاشي العلماء للفلسفة، خوفًا من اعتبارهم غريبي أطوار لخروجهم عن المنطقة المريحة لهم، فإن النتيجة غير المرجوة هي لجوء أكثرهم للسكوت عن الأمور المهمة حقًا.

أثناء مغادرتي مكتب ليند في ستانفورد، بعد أن قضينا يومًا نتدارس طبيعة الرب والكون والأكوان الوليدة، أشار إلى ملاحظاتي وقال بأسف: «إذا كنت ترغب في تدمير سمعتك، فأظن أن لديك ما يكفي لذلك». وقد تردد هذا الرأي على لسان عدد من العلماء الذين قابلتهم، سواءً أكانوا ملحدين أو لا أدريين أو متدينين، أو خارج كل ذلك. كانت المفارقة هي، إذا أدركوا قدرتهم على تشارك أفكارهم سويًا كما فعلوا معي وبالصراحة نفسها، فسيعلمون أنهم ليسوا وحيدين وسط زملائهم في تأملهم لبعضٍ من أهم قضايا وجودنا.

Aeon counter – do not remove