يمكن تجاوزها ولا يمكن بتاتا نقضها
الفيلسوف الفرنسي إريك فيل عن نظرية الدولة عند هيجل
أريد كلمة دولة..

الشاعر محمود درويش للرئيس الفلسطيني عرفات تعليقا على مشروع أوسلو

تمثل أطروحة نقد الدولة الحديثة واحدة من أهم الموضوعات المركزية في إطار المراجعات الشاملة التي يخوضها المشروع الإصلاحي العربي والإسلام السياسي خاصة كأبرز مكوناته بعد فشله في ترويض توحش الدولة القطرية العربية ضمن صراعات الربيع العربي التي نجحت في إجهاض جهود الإصلاح، إن لم نقل، في القضاء عليها. يرى أصحاب الأطروحة، التي توجها المفكر والأكاديمي الكندي ذو الأصول الفلسطينية د. وائل حلاق، مؤخرا، بعمله الهام «الدولة المستحيلة»، أن الدولة الحديثة بما هي بنية من بنى الحداثة الغربية ضمن سيرورتها التاريخية، تتنكر للأخلاق حيث تتمركز حول نفسها وتنفي أية مرجعية متجاوزة، باحتكارها السيادة وتقرير ما هو قانوني وما هو غير قانوني مع استبعاد ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي. لم يكن حلاق وحده أبرز من أثار الأطروحة ومنحها تلك المركزية، فقد سبقه إلى ذلك د. عبد الوهاب المسيري الذي تعرض للدولة ضمن أطروحته الموسوعية عن العلمانية وفي إطار نقده للحداثة الغربية؛ حيث حمل تلاميذه النجباء من بعده تلك الأطروحة ونجحوا في ترويجها إلى حد بعيد. يدعو حلاق، وكذلك د. هبة رؤوف عزت التي تزامن صدور عمليها في نفس المضمار مع صدور كتاب د.حلاق، إلى الانصراف عن «التمركز حول الدولة» نحو سؤال «الشريعة والأمة».

الدولة هي النموذج السياسي الذي نعرفه الآن وهنا، نحتاج إلى تجاوزها، ولكننا نتساءل عن إمكان تجاوزها بالتنكر لها

تزامنت وارتبطت تلك الأطروحات بأطروحات التجديد الصوفي المغربية التي قدمها د. فريد الأنصاري رحمه الله العالم الأصولي والفيلسوف المغربي د. طه عبد الرحمن؛ حيث دعا الأنصاري الحركة الإسلامية إلى العودة إلى العمل الدعوي الاجتماعي «البيان الدعوي» و«اعتزال الصراع السلطوي» والانتقال عن «التنظيم الحداثي» إلى «التنظيم الفطري»؛ أما عبد الرحمن فقد دعا إلى تجاوز العلمانية والديانية (وصل الدين بالسياسة) إلى الائتمانية التي تقوم على التدبير الأخلاقي للمجال العام من خلال العمل التزكوي للفرد. تتشابه أطروحات هؤلاء جميعا إلى حد بعيد؛ ولم تكن مصادفة أن يشير د. عمرو عثمان مترجم كتاب حلاق إلى المسيري وطه عبد الرحمن، الذي اهتم حلاق به وبكتابه «روح الدين»، تحديدا في مقدمة ترجمته.

أول ما نتوقف لديه في هذه الأطروحة، وتحديدا في نقدها للدولة الحديثة والحجاج عن استحالة أسلمتها والدعوة إلى الانصراف عنها، هو أنها لا تتوجه بالتحليل المباشر نحو مفهوم الدولة نفسه، بل إنها تتغافل عن المفهوم باعتبار أن الدول التاريخية والدولة الحديثة لا يشتركان سوى اشتراك لفظي في ذلك المصطلح «الدولة». يناقش د. عبد الله العروي المفهوم في عمله الهام «مفهوم الدولة» حيث يشير إلى أن تعامل كثير من المفكرين في التاريخ مع مفهوم الدولة لم يتسم بالجدية الكافية. قد نغضب من الدولة وننتقدها، لكننا لا يمكن أن نتنكر لها. الدولة هي النموذج السياسي الذي نعرفه الآن وهنا، نحتاج إلى تجاوزها، ولكننا نتساءل عن إمكان تجاوزها بالتنكر لها. قد يخبرني أحدهم أنه سيذهب لقضاء أجازة الصيف في المريخ، لن أتعامل معه ساعتها إلا كمازح أو مجنون، ليس لأنني فقير الخيال، لكن لأن هذا لم يتحقق بعد!

إن الدعوة إلى الانصراف عن سؤال الدولة نحو صناعة النموذج الخاص نوع من «الهروب إلى الأمام»؛ كأن بالإمكان أن ننام ونصحو فنجد أن الدولة قد انتهت، والمطلوب منا ساعتها هو أن نبني نموذجنا. يمكن بناء النموذج فقط «من داخل التاريخ». لا يتكون النموذج في الوعي ثم نبنيه بعد ذلك على الأرض، وإنما يولد النموذج من العمل، ويتبلور بعد ذلك في عالم الوعي حيث تتصارع حوله الأفكار. «الاشتغال من داخل الواقع أو من داخل التاريخ» لا محاولة القفز فوقه أو التنكر له ليس نوعا من فقر الخيال أو الاستسلام؛ بل على العكس، هو إدراك لإمكانية التجاوز وسعي نحوه.

إن الدعوة إلى الانصراف عن سؤال الدولة نحو صناعة النموذج الخاص نوع من «الهروب إلى الأمام»؛ كأن بالإمكان أن ننام ونصحو فنجد أن الدولة قد انتهت

تحدث حلاق في كتابه عن الدولة وتركيبها من شكل ومضمون. المضمون عند حلاق هو الليبرالية أو الماركسية أو نحوهما؛ والشكل هو مجموعة الخصائص الاعتبارية للدولة الحديثة التي تبلورت عبر التاريخ، فهي كلها خصائص تاريخية كما يصرح في الفصل الثاني من كتابه. لكن حلاق لا يعير انتباها لـ«مادة الدولة»، الدولة بما هي دولة، لا حديثة ولا قديمة. هذه «المادية الغربية» التي يفتش عنها الفكر الغربي بواقعيته الصارمة، التي قد نضج من لاأخلاقيتها وفقر خيالها، لكننا نفتقد إلى نجاعتها ونغوص في المقابل في نظريات نقدية تفتقد الإمكان الواقعي حيث تنظر شزرا إلى البرجماتية، لكنها تبقى حبيسة الطوبيا التي تدينها فقط بلسان المقال. يتحدث مثلا عبد الرحمن عما ينبغي أن تكون عليه السياسة من أخلاقية لكنه لا يخبرنا كيف يمكن أن يتحقق ذلك هنا والآن على هذه الأرض. يبدو ذلك كذلك واضحا في أطروحات رفض التنظيم وكأنه من عمل الشيطان، في صوفية رومانسية غريبة، تتنكر للتجربة النبوية ذاتها، التي علمت البشرية في نموذجها المحمدي كيف يمكن جدل الغيب والواقع في جدلية من التنظيم وشهود التوجيه الإلهي في الوقت ذاته لهذا التنظيم البشري.

لا يمكن أن تؤدي هذه الأطروحات إلا إلى «الإرجاء السياسي». الإرجاء هو تأجيل لامتناه، استعمل المصطلح في وصف فرقة إسلامية هي «المرجئة» تنفي العمل اكتفاء بالمعتقد المعرفي، فكأنها ترجئه إلى أجل غير مسمى، إرجاء ينفيه، كما استعمله الفيلسوف الفرنسي «جاك دريدا» في دعواه تفلت المعنى من الإمساك به، فكأنه يهرب إلى أجل غير مسمى كذلك. نقصد بـ «الإرجاء السياسي» هنا إرجاء سؤال السياسة وعملها إلى أجل غير مسمى كذلك. ما نريد أن نقوله أن تلك الأطروحات قد تفيدنا في التأسيس لبنى رمزية واسعة تصلح «التضخم السياسي» أو «التفسير السياسي للإسلام» الذين وقعت فيهما كثير من الحركات الإسلامية لكن ليس بإمكانها أن تؤسس لنموذج عملي جديد.

تنتهج أطروحات نقد الدولة كذلك منهج «المقارنة النسقية» بين الإسلام والحداثة الغربية باعتبارهما رؤيتين متناقضتين للعالم. وهو منهج يؤدي إلى تغييب الوعي بمادة الواقع التي نحتاجها لتحويل أفكارنا إلى حياة لصالح العناية بالنبى الرمزية القديمة والحديثة. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل إننا نسارع في «انتقاد الحديث»، وننسب إليه كل الشرور، في مقابل «تبرئة التراث». يتمثل ذلك بوضوح في ربط نموذج «الجماعة الأحادية المقدسة والتنظيم المغلق» بالحداثة الغربية ونظامها البيروقراطي، في مقابل إغفال الجذور التاريخية لهذا النموذج، والمتمثلة في نظرة كل فرقة إلى نفسها باعتبارها الفرقة الناجية التي تستهدف إصلاح المجتمع من حولها، فقلبت تحذير الله ورسوله من الفرقة إلى عمل عليها هو في الحقيقة سمة الخوارج ومن قبلهم المنحرفون من أهل الكتاب الذين ذمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذلك تنسى تلك النسبة إلى الحداثة أن الحداثة نفسها في سعيها إلى العقلنة قد اتهمت بالتأثر بـمادية الإسلام وعقلانيته -التي أشار إليها كانط مثلا وأدانها باسكال- التي لا زلنا نفاخر بها نحن المسلمين، في إدراكنا كون الإسلام ذروة الوعي الديني البشري الذي لا يصلح سواه للبشرية الممتدة إلى قيام الساعة.

لا يتوخى هذا المقال الدفاع عن الحداثة ودولتها، وإنما يستهدف تنقية تلك الأطروحة نفسها مما قد يخلد بها إلى الوهم، ومن هنا فهو محاولة للتجديد لا للنقض. لا نتوخى إدانة التراث أو الحداثة أو الدفاع عنهما، وإنما استيعابهما وتجاوزهما.