تستدين الدول كما يستدين الأفراد، وكما كان هناك شايلوك المتأهب دائما ليقتطع من لحم أنطوان إن عجز عن سداد دينه في رائعة شكسبير الخالدة «تاجر البندقية»، هناك صندوق النقد الدولي، الذي لن يتردد لحظة في الاقتطاع من أجور المواطنين ودعمهم وصحتهم وتعليمهم لضمان حقوق الدائنين!

الفكرة بسيطة، على الحكومة أن تقلص إنفاقها على البنود سالفة الذكر من ناحية، وأن تزيد حصيلة إيراداتها ولو على حساب بيئة الأعمال من ناحية أخرى؛ لتحقيق فائض يسمى بالفائض الأولي، الذي يُوجَّه إلى جيوب الدائنين مباشرة لسداد مستحقاتهم!

في السابع من مايو الماضي، أثناء مؤتمر إعلان نتائج تنفيذ الموازنة العامة للعام المالي 2018 – 2019، وقف وزير المالية مفاخرًا بمضاعفة الفائض الأولي خمس مرات ليسجل 35.6 مليار جنيه، وهو ما “يعكس نجاح السياسات المالية والإصلاحات التي تنفذها الحكومة حاليًّا”، على حد قوله!

الأرقام تدحض ما وصفه سيادته بأنه إصلاح، أي إصلاح هذا الذي يؤدي إلى تخفيض الإنفاق على التعليم والصحة بهذا المعدل منذ 2014، لتحقيق فائض هدفه سداد ديون توسعت الدولة في اقتراضها في المقام الأول؟! الأمر إذن لا يعدو أن يكون ضبطًا ماليًّا جائرًا، وتخليًا من الدولة عن دورها الاجتماعي تجاه مواطنيها، الذين هوى 5 ملايين منهم تحت خط الفقر في غضون عامين، لصالح أصحاب الأموال الدائنين.

 
 

الدين العام: هل ثمة ما يدعو للقلق؟

توسعت الحكومة المصرية في الاقتراض بشكل ملحوظ منذ 2013، ليسجل إجمالي الدين العام المحلي والخارجي حوالي 110% من الناتج المحلي الإجمالي في يونيو 2018، وفقًا لبيانات وزارة المالية. لك أن تتخيل أن ديون مصر الخارجية التي تراكمت عبر عقود طويلة من حكم مبارك قد تضاعفت مرة ونصف خلال خمس سنوات فقط!

يرى البعض الأمر على أنه كارثة تدعو إلى تشبيهه بأزمة الديون خلال فترة الخديو إسماعيل التي انتهت بالاحتلال البريطاني لمصر، في المقابل يؤكد رئيس البنك المركزي ووزير المالية ونائبه الحاليون أن الدين في الحدود الآمنة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وأن هناك من الاستراتيجيات والخطط ما يكفي للسيطرة عليه، وبناء عليه ليس ثمة ما يدعو للقلق. بل ذهب بعض المحللين إلى ما هو أبعد من ذلك، مستدلين باليابان التي لا تمثل فيها الديون مشكلة جوهرية، بالرغم من كونها صاحبة أكبر مديونية في العالم، بنسبة بلغت 238% من الناتج المحلي الياباني في 2018، أي أكثر من ضعف النسبة المصرية!

مثالية النموذج الياباني

تبدو الصورة مربكة للغاية، اليابان أعلى دول العالم مديونية، ومن أعلاها تصنيفًا ائتمانيًّا في الوقت نفسه، وفقًا للعديد من وكالات ومؤسسات التصنيف الائتماني الدولية، بما يعني أن ديونها لا تمثل لها أي مشكلة على الإطلاق، على الأقل في الوقت الحالي، وهو ما تؤكده نظرة هذه المؤسسات الإيجابية للاقتصاد الياباني.

في المقابل، عندما بلغت ديون اليونان 178% من الناتج المحلي الإجمالي عانى الاقتصاد أزمة طاحنة في 2014، وأعلنت اليونان عدم قدرتها على سداد ديونها، وانخفض تصنيفها الائتماني بشدة.

قد يبدو تناقضًا غير منطقي للوهلة الأولى، ولكنه ليس كذلك، كما أن وكالات التصنيف الائتماني لا تحابي اليابان على حساب اليونان أو غيرها من الدول، كل ما في الأمر أن اليابان توافرت لها شروط اقتصادية لم تتوافر لليونان، وبالطبع لا تتوافر لمصر في الوقت الحالي، وهو ما نوضحه في الأجزاء التالية.

متى لا تمثل الديون أزمة؟

يكمن السر في قيام الحكومة اليابانية بتسييل ديونها Debt Monetization بمعنى أن يقوم البنك المركزي الياباني بطباعة النقود واستخدامها في سداد الديون القائمة بالفعل، فيما يعرف بسحر الدين، وهو سحر حقيقي، يجعل الدين يبدو كالفقاعة، كبيرة من الخارج، إلا أنها لا تنطوي على دين حقيقي يجب سداده.

بشكل أكثر تفصيلًا، تقوم الحكومة اليابانية بالاقتراض لسداد ديونها القائمة بالفعل، لكنها لا تقترض من القطاع الخاص ولا من الخارج، بل من البنك المركزي الياباني، يقوم البنك بطباعة النقود ويشتري بها سندات وأذون خزانة حكومية، لا تنسى أن البنك المركزي هو جهة حكومية، أي أن الحكومة اليابانية الآن أصبحت مدينة لنفسها بعد أن كانت مدينة لأطراف لأخرى! ومن ثَم هو دين على ورق، مجرد قيد محاسبي في دفتر لن يُسدد أبدًا!

توسعت اليابان في عمليات التسييل منذ 2010، البيانات الرسمية تشير إلى أن الحكومة سيلت 33% من دينها في 2016، بخصم هذه النسبة يصبح الدين الحقيقي الواجب سداده 159% فقط من الناتج المحلي الإجمالي بدلًا من 238%، وما زالت الحكومة مستمرة في عملية التسييل.

الخلاصة أن ديون اليابان مضمونة السداد، ولن يأتي اليوم الذي تعجز فيه عن سداد دائنيها ما دامت ماكينة البنك المركزي الياباني قادرة على الطبع من ناحية، وما دام اليابانيون مجدون في العمل والصناعة من ناحية أخرى. لنفترض أن لديك صديقين، أحدهما جاد يعمل ليل نهار، والآخر كسول يفتقد الطموح والسعي والرؤية، الأول مدين لك بألف جنيه، بينما الثاني مدين لك بـ 100 جنيه فقط، أيهما ستقلق حيال دينه أكثر؟ لا شك الثاني رغم ضآلة دينه، لأنك واثق في قدرة الأول على السداد بسبب دأبه في العمل وجده في الإنتاج.

 هذا هو سر النظرة المتفائلة وارتفاع التصنيف الائتماني للاقتصاد الياباني.

لماذا لم تَقم اليونان بتسييل دينها هي الأخرى؟

لأنها عاجزة عن التسييل نظرًا لعدم توافر شروطه، من ناحية 100% تقريبًا من الدين الياباني بالين، وهو العملة المحلية التي تمتع الدولة بسلطة مطلقة في إصدارها، أما اليونان فهي لا تمتلك حق إصدار اليورو الخاضع لسلطة البنك المركزي الأوروبي، بمعنى استحالة إصدار المزيد من اليورو لسداد الديون القائمة بالفعل، وهنا تكمن الخطورة.

هذه المقارنة البسيطة تعني وجود شرطين ضروريين لتكون الدولة قادرة على تسييل دينها، وتحويله إلى مجرد قيود محاسبية لا تطلب السداد، وهما:

  • أن يكون الدين العام بالعملة المحلية.
  • أن يكون للدولة سلطة إصدار هذه العملة.

اليابان تفلت من مصيدة التضخم

ما دام أن الأمر بهذه السهولة، فلماذا لا تقوم جميع الدول التي يتوافر لديها الشرطان السابقان بطبع النقود لسداد ديونها المتراكمة؟

لأن التضخم هو النتيجة الحتمية!

يقوم التسييل على خلق النقود من خلال الطباعة وليس الإنتاج، وهو ما يعني زيادة المتاح من النقود في الاقتصاد فجأة دون زيادة موازية في المتاح من السلع والخدمات، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع الطلب مقارنة بالعرض، فتكون المحصلة زيادة الأسعار.

يعاني الاقتصاد الياباني من ركود انكماشي منذ قرابة عقدين لأسباب خارج نطاق هذا التقرير، بمعنى ضعف معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي بالتوازي مع انخفاض معدلات التضخم بشدة كما في الرسم البياني أدناه، ما يهمنا هنا هو التركيز على الخط الأحمر المعبر عن معدل التضخم، لاحظ أنه أقل من الصفر منذ التسعينيات، في حين أن معدلات التضخم الصحية في أي اقتصاد تتراوح بين 2 – 3%، وهو ما يستهدف البنك المركزي الياباني تحقيقه بالفعل.

الركود الانكماشي الذي تعانيه اليابان منذ التسعينيات مكنها من ضرب عصفورين بحجر واحد، أي طباعة النقود من أجل تحفيز الاقتصاد من ناحية، وخفض معدلات الدين واجبة السداد من ناحية أخرى.

أي أن الشرطين السابقين غير كافيين لاستخدام سياسة تسييل الدين من خلال طباعة النقود، ولكن يشترط أيضًا انخفاض معدلات التضخم بشدة.

 

مدى خطورة الدين المصري

نمتلك الآن من الأدوات ما يمكننا من تقييم مدى خطورة الديون المصرية، بمعنى آخر مدى قدرة الحكومة المصرية على الوفاء بالتزاماتها تجاه دائنيها.

 من ناحية لا يمكن لمصر أن تقوم بتسييل ديونها من خلال طباعة النقود وسداد الدائنين، كما في اليابان، لسببين رئيسيين:

أولًا، وجود نسبة كبيرة من الدين العام بالعملة الأجنبية، تشير بيانات وزارة المالية إلى ارتفاع الدين الخارجي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من 12.4% في يونيو 2012، إلى 37.2% في يونيو 2018، وهو توجه تتبناه حكومات الرئيس عبد الفتاح السيسي المتعاقبة، إذ تتجه للاعتماد بشكل أكبر على التمويل الخارجي بدلًا من المحلي خلال الفترة الأخيرة، بخلاف حكومات مبارك التي وضعت سقفًا  للاقتراض الخارجي، وحافظت عليه ثابتًا تقريبًا منذ حرب الكويت.

ثانيًا، ارتفاع معدل التضخم وتذبذبه في مصر، خلال الأربعة الأعوام الماضية تراوح معدل التضخم بين 10-35%، وهي أرقام مرتفعة للغاية إذا ما قورنت بالمتوسطات العالمية، كما أن الخبرة التاريخية تؤكد أن معدل التضخم في مصر شديد الحساسية لأي تغيرات في التكاليف أو عرض النقود.

من ناحية أخرى، فإن الحكومة تقترض بشكل أساسي لتمويل عجز الموازنة، أي الإنفاق الجاري على الأجور وشراء السلع والخدمات وغيرها من أبواب الإنفاق في الموازنة العامة، في حين أن ألف باء اقتصاد تقتضي إنفاق هذه القروض على مشروعات استثمارية تدر عائدًا يمكن من خلاله سداد أقساطها وفوائدها، وتولد وظائف إنتاجية تساعد على رفع مستويات المعيشة، وهو ما كانت تفعله اليابان.

الدين الخارجي على وجه التحديد يقتضي استثماره في مشروعات تصديرية تدر عائدًا بالعملة الصعبة يسهل سداد الدين من خلاله، وهو ما لم تقم به الحكومة المصرية حتى الآن، إذ يتركز استثمارها بشكل أساسي في مشروعات البنية التحتية والأنشطة الإنشائية والعقارية.

الأمان الزائف

قد يكون الدين المصري آمنًا في الوقت الحالي، ونقصد بالأمان هنا قدرة الحكومة على السداد، لكنه غير آمن في المستقبل إذا استمرت وتيرة الاقتراض بشكل عام، والخارجي بشكل خاص، على هذا النحو، وإذا لم تنجح الحكومة في تخفيض معدل التضخم، وإذا لم تُوجَّه هذه القروض إلى مشروعات إنتاجية.

ومع ذلك، فإن أمان الدين المصري في الوقت الحالي يأتي على حساب قدرتها على القيام بدورها الاجتماعي تجاه مواطنيها، حيث تمثل الفوائد السنوية فقط دون أقساط القروض حوالي 38% من المصروفات العامة في موازنة 2018/2019 بما يعادل 70% من إجمالي الإيرادات الضريبية، 9 أضعاف الإنفاق على الصحة، و5 أضعاف الإنفاق على التعليم.

 وبناءً على هذه الأرقام فإن الدين المصري العام الذي يبدو آمنًا حتى الآن من وجهة النظر الحسابية، فإنه من ناحية دور الدولة في توفير ضمانات الحياة لشعبها، في الحاضر والمستقبل، ليس بآمن.