يكرِّس مشهد الهزيمة التي تعرّض لها لاعب الجودو المصري إسلام الشهابي أمام نظيره الإسرائيلي، في أولمبياد ريو بالبرازيل، حقيقة لطالما أكّدتها عقود من التطبيع العربي مع إسرائيل، وهي أن ما بشَّرت به أصوات الليبرالية العربية المأمركة من مستقبل تنموي مزهر بعد تحقيق السلام/التطبيع مع إسرائيل، كان مجرد وهم وأكذوبة.

ما بشَّرت به أصوات الليبرالية العربية المأمركة من مستقبل تنموي مزهر بعد تحقيق السلام/التطبيع مع إسرائيل، كان مجرد وهم وأكذوبة.

فعشية كامب ديفيد، ومشروع السلام العربي مع إسرائيل، انطلقت تلك الأصوات -التي تسلّمت لقاء دورها في شرعنة التطبيع منابر الخطاب في «الأهرام» المصرية و«الشرق الأوسط» السعودية، وغيرها من منابر دول التطبيع- مبشرةً بسنوات من الرخاء الصافي ينتظر دول التطبيع بعد أن خرجت من سنوات الحرب التي لا تنتهي مع إسرائيل، وكأن الحرب مع إسرائيل كانت العقبة الكؤود التي أوقفت عجلة التنمية العربية؛ بينما أغفلت تلك الأصوات، أن عجلة التنمية الإسرائيلية لم توقفها تلك الحروب المتتابعة، وهي كيان صغير ديموغرافيا، ومحدث زمانيا. بل زادتها الحروب المتتالية مع الدول العربية اندفاعًا وتحديًا.

أرادت تلك الأصوات أن تصوِّر خيانة أنظمتها باعتباره حكمة في تدبير الأولويات، ووطنية راديكالية لا تعلي مصالح قومية (هي مصالح دول أخرى في نظر هؤلاء) فوق المصلحة الوطنية القطرية. لكن الحقيقة التي كانت تبزغ للعيان عند كل مناسبة، أن التطبيع لم يكن سوى استسلام واستغفال عربي قاده مجموعة من الفاسدين عديمي الانتماء.

لا جديد إذن في المشهد الأولمبي؛ فقبيل الدورة الأولمبية، خرج وزير الرياضة المصري خالد عبد العزيز ليؤكد أن اللاعبين المصريين لن ينسحبوا أمام نظرائهم الإسرائيليين. أما السعودية، التي فاتها هذا التأكيد الاستباقي، لم يفتها أن تعتذر اعتذارًا سخيفًا عن موقف لاعبتها جودي فهمي التي رفضت مواجهة نظيرتها الإسرائيلية، وهو أن الانسحاب سببه فني، يتعلق بآلام عانت منها لاعبتها قبل المباراة.

لم يكن مفاجئًا ذلك الموقف الرسمي المتواضع الذي تعودناه من أنظمة التطبيع، لكن العجائبي كان تعليقات العديد من رافضي التطبيع الذين تصوّروا أن الانسحاب سببه العداوة الشخصية، وأن المواجهة بالتالي مقبولة إذا كان الفوز مضمونًا، إمعانًا في المكايدة. التقطت وسائل الإعلام العالمي بالفعل مشهد رفض اللاعب المصري مصافحة نظيره الإسرائيلي بعد هزيمته، وكأن العداوة العربية لإسرائيل هي عداوة عنصرية للإسرائيليين كما يروِّج الصهاينة.

ينطلق الانسحاب العربي من عدم الاعتراف بتلك الدولة، بما يجعل المواجهة معها أمرًا لا محل له في مسابقة دولية.

في الحقيقة، ليس ثمة عداوة شخصية مع اليهودي، وليس ثمة رفض عربي لوجوده، حتى على الأراضي العربية، ولكن كمواطن أو كزائر لدولة عربية، طالما لبّى متطلبات المواطنة فيها والتزم شروطها القانونية، أو زارها على أسس قانونية. أما الانسحاب العربي فينطلق من عدم الاعتراف بتلك الدولة، بما يجعل المواجهة معها أمرًا لا محل له في مسابقة دولية، لا يلعب فيها اللاعب باسم نفسه، وإنما رافعا علم بلده. إننا لا نرفض أن نتعامل مع اليهود، وأن نتعاون حتى معهم، لكننا نرفض اغتصاب أرض عربية وإقامة كيان غير شرعي بالتالي على أرضها، وعلى أسس معادية للعروبة والإسلام.

يفيد فهم تلك الحقيقة في تفكيك تصورين غير دقيقين: أحدهما الموقف الشعبوي الذي لا يستطيع التفريق بين الأمرين؛ أي بين رفض الاعتراف بالكيان وبشرعية وجوده، وبين العداوة العنصرية لجماعة من البشر. وهو الخلط الذي يتعمد الصهاينة توطيده إعلاميا لابتزاز نقّاد إسرائيل باعتبارهم أعداء للسامية. أما التصور الآخر، فهو ذلك التماهي العربي مع ادعاءات الليبرالية الكونية، والذي برَّر به وزير الرياضة المصري موقفه التطبيعي، أن الأولمبياد معقودة لتجاوز تلك الخلافات السياسية. وهو موقف يروج بين كثير من الشباب العربي المتطلع إلى وعود الليبرالية الأمريكانية الزائفة.

ينسى وزير الرياضة المصري وهو يصرح بذلك أن قطاعًا عريضًا من المقربين من وزارته سياسيًا كان قد روَّج للانسحاب من بطولة العالم لكرة اليد 2015، لأن من ينظمها هو دولة شقيقة عربية، بسبب خلافات سياسية هامشية؛ وهو ما قررته البحرين بالفعل، فانسحبت من البطولة بالفعل متحملة العقوبات، فقط حتى لا ينتقل لاعبوها إلى دولة تتحدث نفس اللغة وتدين نفس الدين وتنتمي معها تاريخيا إلى أمة واحدة. يأتي هؤلاء ليحدثونا عن اللاسياسة في الأولمبياد، التي كما ذكرنا هي محفل يحمل فيه كل لاعب اسم بلده ويرفع علمها، وتحسب ميداليته في رصيدها، وكأن هذا كله لا يمت للسياسة بصلة، وأن المواجهة لا تعني اعترافنا بهذا الكيان وشرعيته.

لا نود هنا جلد اللاعبين الذين ندرك قدر الضغوط التي يتعرضون لها من أجل الاتساق مع الموقف الرسمي، كما قدر الجهود التي يبذلونها في دول فاشلة، لم يفدها التطبيع -كما وعدت- في دفع تنميتها. بل نتغيّا ترشيد موقفنا الشعبي وتوجيهه ضد من ينبغي أن يوجه إليه؛ أي أنظمة التطبيع وعرَّابوه في الفكر والإعلام.