عندما تلقي بابنك في إحدى مؤسسات التعليم المصرية، فإنك تعتقد ضمنًا أنه سيتعلم بعض المهارات، والقيم، والمعارف، المُعلنة في خطة الوزارة، والمنصوص عليها في مقدمات الكتب المدرسية.

لكنك تجد أن العملية التعليمية الخربة لا توفر هذا التعلم، وفضلًا عن ذلك تقوم الوزارة بحذف بعض أجزاء المقررات الدراسية، والذي يترتب عليها حذف بعض المهارات والقيم والمعارف التي كان على الطالب تعلمها من دروس هذه المقررات، ثم تخرج بيانات الوزارة لتعلن أن الحذف يصب في مصلحة الطالب، بعدما أعلنت أن المقررات تستهدف مصلحة الطالب، إذن من البديهي أن الحذف سيؤثر عليه، لكن الوزارة –دائمًا- تعرف أكثر.


الوزارة: حذف المناهج ينمي المهارات!

أعلنت الوزارة تخفيف مقررات الفصل الدراسي الثاني لطلاب الابتدائية والإعدادية؛ وذلك:

استكمالًا لجهود الوزارة من أجل تطوير المناهج التعليمية، من خلال تحديثها، وتخفيف بعض أجزائها؛ للتركيز على مهارات الفهم والاستيعاب والتطبيق، وتنمية مهارات التحليل، والتفكير الناقد، بعيدًا عن الحفظ والتلقين.

وأكدت الوزارة أن هذا التخفيف لا يخل بأهم القضايا المتضمنة بالمناهج، ويضمن الحفاظ على تحقيق نواتج التعلم المطلوبة، ولا يؤثر بشكل سلبي على مصفوفة المدى والتتابع للمناهج.

وقبل أن نتناول مبررات الوزارة في ذلك، لابد أن نستعرض أولًا المهارات والقيم والمعارف التي تضمنتها الدروس التي قامت الوزارة بإلغائها، أو طبقًا للتعبير الرسمي «تخصيصها للقراءة والاطلاع فقط»، وهو ما يعني إلغاءها.

ونتناول مادتي: اللغة العربية والدراسات الاجتماعية؛ لما لهما من تأثير مباشر على الطلاب؛ إذ تمثلان الهوية والثقافة والحضارة والتاريخ، كما تقول الكتب الوزارية، فكل درس يبدأ بهذه العبارة التعليمية: (في نهاية الدرس يتوقع أن يكون الطالب قادرًا على أن: …)، وتتضمن النقاط أهم المهارات والقيم والمعارف التي يتوقع أن يتعلمها الطالب من الدرس.

اللغة العربية: حذف الخيال والحوار والتواصل

وفقًا لكتب الوزارة فإن الدروس المحذوفة من مادة اللغة العربية تتناول قصصًا تعالج قيمًا ومهارات لبناء الوطن والشخصية، إلى جانب نصوص تراثية تعالج قضايا معاصرة، وتربي قيمًا ومهارات يحتاجها طلاب العصر الحالي بشدة.

حذف المناهج التعليمية 1

الدراسات الاجتماعية: حذف الهوية والعلاقات الدولية

أما الدروس الملغاة من مادة الدراسات الاجتماعية فهي تتناول التاريخ الإسلامي، والحضارة العربية، والعلاقات الدولية، والنهضة الاقتصادية، والحدود البحرية، وكلها قضايا يُعاني الكثيرون من قلة الوعي بها.

حذف المناهج التعليمية 2

ما الذي فقده الطالب؟

  • كل هذه المهارات الحياتية، والقيم التربوية، والمعارف، لها دور كبير في تكوين الشخصية والثقافة وتحديد السلوك، وبالتالي لها الأثر الأكبر على سلوكيات الأفراد والمجتمع كله، هذا بخلاف المفردات والجماليات التعبيرية التي كانت يمكن أن تثري الحصيلة اللغوية العربية؛ ليتمكن الطالب من القدرة على التعبير.
  • إلغاء بعض مظاهر التاريخ المصري الذي نفخر به، إضافة إلى عصور الفاطميين والأيوبيين، وبخاصة جهود صلاح الدين، وقضايا القدس، والاحتلال، والجهاد، كل ذلك يُسقط من تراث الطالب وذاكرته تاريخًا حضاريًا متميزًا، ويُسقط معه الحملات الصليبية على المشرق والإسلام، ويُسقط أبطالًا دافعوا عن الدين والأرض، ويُسقط حطين ورجالها.
  • قصور معرفة الطالب عن المناطق الساحلية يجعل صورتها في تفكيره تقتصر على كونها مجرد شواطئ، ورمال، و«حفلات بمارينا والساحل والسخنة»، دون معرفة قيمة البيئة الساحلية، وقضية الحدود البحرية، خاصة أن حدود مصر البحرية تمثل ما يقرب من نصف حدود البلاد.
  • إلغاء المعلومات عن الصناعة والتجارة والسياحة العربية، والمواطنة الإسلامية، وإنجازات المسلمين في العلوم والآداب، يجعل الطالب غير مدرك لها، فيستسلم للأقوال التي تصم العرب والمسلمين بأنهم متخلفين اقتصاديًا، وغير حضاريين تاريخيًا.
  • جهل الطالب بعلاقات مصر الدولية يجعله ينمو في عزلة حضارية، مفتقداً للتسامح ومهارة التحاور مع الآخر، والدفاع عن الوطن والدين، فيستقي وعيه وتاريخه من «أفلام السينما» التي تهتم بالدراما والحبكة على حساب الحقيقة والتاريخ، ليكون فريسة لقيم السينما الغربية، التي قد لا تكون دقيقة في كثير من الأحيان.
  • عدم إدراك قيمة شخص دبلوماسي بحجم (بطرس غالي)، وما يعنيه توليه للأمم المتحدة من نجاح الجهود الدبلوماسية المصرية، لا يرسخ في ذهن الطالب إمكانية الانتصار بالحوار والسياسة والدبلوماسية، وليس بالعنف والرفض والمقاطعة، وترك جلسات الحوار الدولية.
  • اقتصار نماذج الدول النامية والمتقدمة على نموذجين فقط، بدلًا من خمسة، لا يثري الحصيلة المعلوماتية للطالب فيما يتعلق بالنهوض والتنمية، والنماذج الدولية التي يجب الاقتداء بها في تلك القضايا.

هذا غيض من فيض، خاصة أن دروس العلوم التي أُلغيت بها تطبيقات حياتية مهمة للطلاب في مثل هذه الأعمار، إلى جانب دروس اللغة الإنجليزية والرياضيات التي تؤثر بالطبع على الحصيلة اللغوية الأجنبية، وتعيق التحلي ببعض مهارات الفكر الرياضي التجريبي.

من المقررات المحذوفة: صورة من كتاب الدراسات الاجتماعية للصف الثاني الإعدادي.

القادم أسوأ

الاعتقاد بأن تطوير التعليم يبدأ من إلغاء المناهج وتخفيفها لا تعديل محتواها وطرق عرضها، يظهر عدم الإدراك لطرق الحل؛ وفي الوقت نفسه فإن المهارات والقيم والمعارف المحذوفة تُجسّد بوضوح نواتج التعليم الحقيقية، وليست التي تدّعيها الوزارة.

كذلك يتماشى الحذف والإلغاء مع بعض القضايا التي تعتبر شائكة في بلدنا، والتي يتم النقاش فيها بطرق تكميمية لا حوارية، وتُحاط بالرقابة، إلى جانب قصور المعلومات المتاحة وضآلتها، وتبنيها لرؤية واحدة، مما يؤدي إلى عدم شمول واتساع الرؤية لدى الطالب الذي يعاني –بسبب إلغاء الدروس– من نقص حضاري وثقافي وتاريخي يدعم فكرة الانسلاخ من الهوية، والتغريب، والتهجير الوطني والعقلي، والانجذاب للحضارات الحديثة المادية، والشعور بالصغر والدونية أمامها، وعدم القدرة على مواجهة محاولات الإضعاف الحضاري والتراثي، والتسليم بمركزية الدول الأجنبية، ومحورية دورها في العالم، والانقطاع عن الجذور التراثية والأصيلة، وتعزيز جهود الإسرائيليين في تهويد القدس، وحذف ثقافة الجهاد الإسلامي دفاعًا عنها. كل ذلك –بالطبع– يُنتج طالبًا بلا حضارة أو ثقافة أو هوية.

إلى جانب أن الحذف يتلاءم مع التعتيم على الأمور الاقتصادية، والقانونية، والدولية، بما يتناسب مع توجه الدولة المصرية في تعاملها مع المواطنين، ورغبتها في تربية أجيال أخرى من «المواطنين الشرفاء» الذين ترضى عنهم الدولة؛ ولا يعرفون عنها إلا ما تريد أن تُعلنه في إعلامها.

ليشبّ الطالب إنسانًا منعزلًا إلا عما تقوله الدولة، لا يُصدِّق العالم الخارجي؛ لأنه لا يعرفه، لذا ليس صعبًا أن يوافق الرأي القائل بأن هذا الخارج يتآمر علينا، ويُصدّر لنا الإحباط والفساد، ويُسيء إلى صورتنا أمام العالم، ليتربى الطالب على العزلة، وعدم الحوار، وعدم الفهم، وقلة الوعي والإدراك، فينمو إما جاهلًا تابعًا أو إرهابيًا متطرفًا، وتذهب جهود الدولة والرئيس عبد الفتاح السيسي هباء فيما يخص قوة الدولة المصرية، والحرب على الإرهاب والتطرف الفكري.

من المقررات المحذوفة: صورة من كتاب اللغة العربية للصف الثاني الإعدادي.


بيت القصيد

من المقررات المحذوفة_ صورة من كتاب اللغة العربية للصف الثاني الإعدادي

بديهيًا، لن يتعلم الطالب تلك المهارات التي أقرتها الوزارة لأنها أُلغيت، كما أن الانتماء لا يتم تعليمه بأناشيد الصاعقة الحماسية، بل بتعميق فكرة الوطن، والحرية، والحق، وتحرير الفكر والعقل، وبناء الأوطان بعقول أبنائها، وتخطيط قادتها، لا بأغاني جنودها، وإذا كان الأمر كذلك فنحن العرب أكثر الناس حماسة؛ لما يحفل به تاريخنا من أغانٍ وطنية، وأناشيد حماسية.

ويجب أن نعي جيدًا أننا –مواطنين ومسئولين- ندرك فساد المنظومة التعليمية، وركاكة المناهج الدراسية، لكننا لا نسعى للتغيير، ونفرح بإلغاء الدروس، ونقتنع بأن ذلك في إطار تخفيف المناهج الذي يعتبر مشكلة أساسية في التعليم المصري، لكننا لا ندرك أن الجذر الفاسد لن يفلح مع قص فروعه، وجذور الفساد هي الأولى بالإزالة، فما قيمة حذف المناهج إذا كانت المناهج غير صالحة، وغير مفيدة.

إذن كل حجج الوزارة باطلة؛ لأن ما حذفته يُسقط من التلاميذ مهارات وقيمًا ومعارف هم في حاجة إليها في ظل تحديات ومستجدات العصر، لتكون الحجة الوحيدة الصحيحة والواقعية لهذا الحذف هي أن «الترم الثاني» هو الأكثر توقفًا بالعطلات الرسمية، وبالتالي فهناك أزمة ناتجة عن ضيق الوقت في مقابل طول المناهج.

لا نتحدث عن مؤامرة أو محاولة تغييب عقول، نحن فقط نتحسر على ما كان يمكن أن يتعلمه أبناؤنا، نناقش أسبابًا للحذف غير تربوية، ولا تعليمية، ونرصد بعضًا من واقعنا التعليمي، الذي لم يعد يجدي معه مشرط الجراح، ولم يعد ينفعه إلا قنبلة تنسف أنقاضه، ثم يتم بعدها بحث إعادة الإعمار.