لم يكن خروج حركة النهضة التونسية من الإسلام السياسي إلى الديمقراطية المسلمة، بحسب تصريح زعيمها راشد الغنوشي في حواره مع اللوموند الفرنسية، عبر قرار مؤتمرها العاشر بالفصل بين الدعوي والسياسي، منعطفا في تاريخ الحركة، بقدر ما كان تأكيدا واعيا على واقع وتاريخ الحركة التي لطالما كانت حزبا سياسيا تونسيا قبل أن تكون أي شيء آخر. فالقرار سبق وأن اتخذته الحركة بصورة أو بأخرى عندما قررت في فبراير/شباط 1989 تغيير اسمها من «حركة الاتجاه الإسلامي» إلى «حركة النهضة» تقيدا بقانون الأحزاب الجديد في عهد بن علي والذي حظر تأسيس الأحزاب على أساس ديني. وإذا كان الجسد الحيوي يكون أضعف ما يكون في لحظات النمو، فإن الحركات الاجتماعية كذلك تكون أهش ما تكون في منعطفات التحول والإصلاح البنيوي.

تحتاج الحركة أكثر فأكثر إلى توضيح ما الذي قد يضيفه عمليا نعت الديمقراطية بالمسلمة.

فقد فقدت الحركة بتأكيدها تحوّلها إلى حزب سياسي ديمقراطي وطني، الخلفية الأيديولوجية الصلبة التي انبنت عليها شرعية الحركة على مدى تاريخها، وصنعت خطابها التي تمكنت عبره من تعبئة جماهيرها وتجنيد أعضائها. لقد سبق أن مرَّت الحركة الإسلامية التركية بتحول شبيه، ولا شك أنها التجربة الأكثر إلهاما لمسار «النهضة» على صعيد الممارسة، فقد سبقت «النهضة» نظيرها التركي على الصعيد النظري. لكن ما لا يجوز إغفاله، هو أن العدالة والتنمية التركي سرعان ما حلَّ في السلطة، مما برر هامشا واسعا من المناورة تحتمه مقاعد السلطة، بخلاف أولئك الذين يقبعون في المعارضة أو على هامش السلطة. كذلك قدَّم الإنجاز الاقتصادي السريع للحزب التركي، وهو الأمر الذي حرص الحزب على إبراز أنه أساس شرعيته، لا الشعارات الخطابية، تبريرا قويًا لبرجماتية الحزب ومناوراته.

اتخذت «النهضة» مبكرا من إسلاميتها أفقا بديلا للتنوير العلماني، لتجذير الديمقراطية والحريات والحقوق؛ وهو الأمر الذي لفت نظر مجموعة من الأكاديميين البارزين كما يظهر في أعمال جون إسبوسيتو، الأكاديمي صاحب الدراسات الذائعة عن الإسلام السياسي والديمقراطية، وفي تعليق جون كين، الأكاديمي البارز صاحب الدراسات الذائعة عن التحول الديمقراطي والمجتمع المدني، على أفكار الغنوشي، الذي وصفه عزام التميمي بحق في عنوان دراسته عن الغنوشي بكونه: ديمقراطي بين الإسلاميين. وقد أتى القرار مؤخرا ليؤكد ما كان معروفا سلفا من أن «النهضة» لا تنطوي على نفس تلك الحساسية تجاه الدولة الوطنية أو التعددية السياسية، تلك الحساسية التي عانى منها الإخوان في مصر وغيرهم؛ لكن الديمقراطية والحريات، تلك القيم الليبرالية التي لطالما رأت فيها الحركة المثل الأعلى للإصلاح الاجتماعي، لا يمكن أن تكون وحدها بديلا أيديولوجيًا لإسلامية الحركة؛ فالحركة تحتاج أكثر فأكثر إلى توضيح ما الذي قد يضيفه عمليا نعت الديمقراطية بالمسلمة، الأمر الذي يمكن العمل عليه عبر عدة محاور.


مهام المرحلة

تلخص نصيحة منير شفيق، المفكر الفلسطيني الذي تجمعه بـ «النهضة» وبتونس علاقات وثيقة، وصاحب الأطروحات الجادة حول الإصلاح الاجتماعي والقومي، للنهضة، والتي قدمها في محاضرته بتونس منتصف أغسطس/آب 2015، تلك المحاور: أن تتمايز «النهضة» عن حزب بورقيبة (يعني النداء)، وأن تحافظ على طابعها كي لا تخسر نفسها، وأن تبدع عبر عبقريتها التي يمكن أن تستفيدها من القرآن توازنا بين الانحياز للشعب وعدم الاصطفاف وراء الأثرياء وتحمل المسئولية الوطنية.

إسلامية النهضة

تحتاج «النهضة» أولا إلى تأكيد البعد الإسلامي للحركة في خطابها حول القضايا الإسلامية ذات الطابع العابر للحدود، كالقضية الفلسطينية، والثورة السورية، ومعاناة اللاجئين السوريين، والحرب ضد الإسلاميين وضد أية معارضة ديمقراطية للأنظمة الاستبدادية باسم الحرب على الإرهاب. على الرغم من ذلك، لم يظهر الغنوشي في تصريحاته مؤخرا حرصا على تأكيد أي من ذلك. فباستثناء إدانة خجولة للنظام المصري، تعاملت الحركة مؤخرا ببرود مع الثورة السورية والقضية الفلسطينية (التي لم يأت على ذكرها في خطابه). بينما بالغت الحركة في تأكيد موقفها المساند للحرب على الإرهاب، كما ظهر في خطاب الغنوشي الأخير الذي لم يشر فيه مع ذلك إلى الكوامن الاستبدادية في هذا الخطاب، وإلى دور الاستبداد والنخب المتطرفة المقربة من دوائر صنع القرار في العديد من الأنظمة العربية في صناعة التطرف وتبريره باعتبار ممارسات تلك النخب حربا على الإسلام.

على الغنوشي أن يفكر في أنه هو نفسه قد يكون ضحية في يوم من الأيام للحرب على الإرهاب، وقد سبق وأن حصل هذا في محنة التسعينات حين اتهم النظام الحركة بتدبير انقلاب ومحاولة اغتيال بن علي، وأنه سبق وأن كان واحدا ممن هاجموا ذلك الخطاب الإمبريالي. فإظهار ذلك الانهمام والحرص على الاستقلال الحضاري (الذي يستلزم بالضرورة استقلالا وطنيا) كانا دوما من بين المكوِّنات الأساسية لشرعية الحركات الإسلامية.

مرة أخرى، يحتاج الإسلاميون، كما غيرهم من حركات الإصلاح، إلى حركة ثقافية موازية للممارسة السياسية، تطرح الرؤى الإصلاحية بعيدا عن ديماجوجية الأوساط السياسية، وتنصح السياسي بخصوص مدى التزامه بها وإمكانية ضبط توازنات دقيقة بخصوصها. بكلمة، الفصل بين الدعوي والسياسي لا يجوز أن يعني موت الثقافي، لأن موته سيعني كثيرا بالنسبة لمستقبل الأداء السياسي للحركة وإمكان إنجاز أهدافها. أما أن تأتي المراجعات تحت ضغوط ومزايدات يعلم الجميع أنها دون مواربة لا جدوى لها، لا تروم إصلاح الحركة بقدر ما تروم التخلص منها، فهو أمر يضر بالحركة بكل جوانبها دون مقابل يذكر.

أخلاقية الحركة

تحتاج «النهضة» ثانيا إلى إعادة ضبط موقعها في ضوء موازين القوى بدقة؛ فمبالغة الحركة في الانحياز للحكومة وتبريرها والتحالف مع حزب نداء تونس الذي يجمع بقايا نظام ما قبل الثورة، يأخذ الحركة رويدا رويدا بعيدا عن نبض الشارع الذي لا يملك حزب إسلامي (وربما حتى غير إسلامي، وما حال الأحزاب المصرية منا ببعيد) اليوم سلاحا أقوى منه يمكن أن يعوِّل عليه لحماية وجوده من الاستئصال. إن تبني أية خلفية دينية دون التمسك بممارسة سياسية تنطوي على حد أدنى من الأخلاقية يجعل من تلك الخلفية أمرا غير ذي معنى. وإذ تقطع «النهضة» اليوم حبال الود مع رفاق النضال، وتبدو وكأنها تمحو تاريخ النضال أيام النار والدم لتؤكد قبولها لتونس التي تريدها نخب منعزلة ومتطرفة، فإن تلك الأخلاقية تكون موضع شك وتكون «النهضة» تبعا لذلك موضع مساءلة.

التنمية والمسئولية الوطنية

لقد اكتشفت «النهضة» خلال فترة وجودها في السلطة بعد الثورة أن العقبة في وجه الإصلاح لم تكن فحسب الدولة العميقة، بل كانت قبل ذلك «الثورة العميقة»، بتعبير لطفي زيتون، القيادي البارز في الحركة. فخلف المطالب السياسية، قبعت كومة من المظالم الاجتماعية والفشل الاقتصادي الذين كان لهما أن يثقلا كاهل أية حكومة عقب الثورة. تؤكد «النهضة» أن تونس أولا والاقتصاد أولا، وكان هذا أهم الدوافع وراء معظم قرارات الحركة السياسية كما يبدو. لكن الانضواء في حكومة النداء بزعامة الحبيب الصيد والتصديق المطلق على قراراتها، وهاجس جذب الاستثمار داخل الحركة، كل ذلك يثير الشكوك حول كون «النهضة» ليس لديها اقتصاديا أكثر من تدوير السياسات الاقتصادية الريعية للأنظمة العربية.

لقد نظر إخوان مصر، كما يبين تصريح حسن مالك، رجل الأعمال والقيادي في جماعة الإخوان، لرويترز في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2011، إلى سياسات جمال مبارك باعتبارها سياسات صائبة، عابها فحسب تفشي الفساد، أي أن القضاء على الفساد فحسب كان المهمة التي تنتظر الإسلاميون لتنفيذها، جنبا إلى جنب مع جذب الاستثمار، دون توضيح المهام التي على هذا الاستثمار أن يقوم بها. فالاستثمار في العالم العربي كثيرا ما ارتبط بتدوير الأموال في أنشطة ريعية كالاتجار في العقارات والمضاربة في الأسواق المالية، بما يحقق معدلات نمو عالية، وإن كانت وهمية، أي ما يمكن أن ندعوه: نمو بلا تنمية.

لقد أعلنت «النهضة» رفضها اقتصاد السوق الحر، وتبنيها عوضا عنه «اقتصاد السوق الاجتماعي»؛ لكن هذه المسميات ليست ذات قيمة كبيرة، خاصة في ظل المنظومة المؤسسية والاقتصادية العربية المتداعية. ليس مطلوبا من «النهضة» في الحقيقة أن تتحول إلى حزب اشتراكي (ولم يثبت الاشتراكيون واقعيا أن لديهم الكثير ليقدموه)، وقد أثبتت التجربة التركية أن لدى الإسلاميين الإصلاحيين قدرة فعلا على إدارة سياسات انفتاحية أفضل، لكن مطلوب أن تثبت «النهضة» أن لديها أكثر من ذلك لتقدمه.

على «النهضة» لذلك، كما على غيرها من الحركات الإسلامية والقوى الديمقراطية، أن تؤكد أنها أتت لتحقيق: أولا، نهضة مؤسسية وإنتاجية حقيقية. وثانيا، إصلاح ثقافي واجتماعي جاد وفقا لرؤى، نعم غير متطرفة، لكن أيضا تكفل حيوية اجتماعية وأجوبة على أسئلة المعنى الضاغطة في أجواء السيولة العالمية. وثالثا، استقلالا وطنيا والتزاما قوميا تجاه القضايا العربية والإسلامية، وقضايا التحرر والديمقراطية بأسرها.