إنني لا أستطيع أن أتصور ما سيفعله الناس، والله لو أنهم أخذوني إلى ميدان التحرير وشنقوني فيه لما اعترضت عليهم، لهم الحق.

هذا ما توقعه عبد الناصر، وأخبر به الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل (الانفجار، 845)، صباح الجمعة 9 يونيو 1967، قبل ساعات من إلقائه خطاب التنحي. تعجل عبد الناصر في استشراف ما سيحدث، لو أنه صبر قليلًا لأدرك أن سقف توقعاته كان أعلى مما يجب.

مفارقة لا تحدث كثيرًا، أو إن شئت الدقة لا تحدث على الإطلاق، أن يعلن قائد تنحيه بعد هزيمة عسكرية فادحة فتخرج مظاهرات جماهيرية تطالبه بالبقاء، أن تُفاجأ بالانسحاق بعد أيام قليلة من دعاية إعلامية جبارة تبشر بالنصر الكاسح فبدلًا من أن يعلقه الشعب على المشانق، كما توقع هو، يتمسك به ويهتف باسمه في جنون كما لو كان تمكّن من غزو تل أبيب كما أشاعت صُحفه!

لماذا طالبت الجماهير عبد الناصر بالعدول عن قرار التنحي بعد هزيمة 5 يونيو؟ هل كان المصريون على علم بأبعاد الهزيمة آنذاك؟ لماذا تراجع عبد الناصر عن اختيار شمس بدران خلفًا له؟ لماذا تعمد هيكل استخدام مصطلح «النكسة» لا الهزيمة؟ هل دبر رجال عبد الناصر مظاهرات 9 يونيو أم أنها كانت تلقائية؟ هل أسهم خطاب التنحي في خروج الجماهير تأييدًا للزعيم؟ ما نصيب تركيبة نظام 23 يوليو من مشهد 9 يونيو؟

ربما تساعدنا إجابة هذه الأسئلة على فهم وتفسير أحداث المشهد التاريخي النادر.


كواليس خطاب التنحي

قبل خمسين عامًا، تحديدًا مساء التاسع من يونيو 1967، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تنحيه عن الحكم، بعد ما جرى في 5 يونيو، وفي كتاب «الانفجار» يسرد محمد حسنين هيكل، كاتب خطاب التنحي، كواليسه، فيقول إن عبد الناصر اتصل به مساء 8 يونيو، يسأله عن القرار المناسب الآن، ليخبره هيكل بأنه لم يتبق بعد الهزيمة سوى الاستقالة، وكان رده: «غريبة.. هذا ما فكرت فيه»، وأفصح عن نيته في أن يخلفه شمس بدران، وزير الحربية آنذاك، ثم طلب منه أن يكتب خطاب استقالته للأمة.

يواصل هيكل: «في الساعة السادسة والنصف صباح الجمعة 9 يونيو ذهبت إلى بيت عبد الناصر، أحمل معي مشروع خطاب التنحي، عندما وصلت سألته عن سبب اختيار شمس بدران تحديدًا، فقال لي إنه يخشى حدوث احتكاك بين الجيش العائد من سيناء وبين الجماهير الغاضبة، قلت له إن هذه النقطة تستوجب ألا يكون بدران هو الخيار، لأنه أحد المسئولين عما جرى، ولأن هذه المجموعة لم يعد لديها رصيد ثقة عند الناس، وما معنى أن يتم تعيين وزير الحربية وهو مسئول عن الهزيمة بحجة تجنب صدام بين الجيش والشعب؟ هذا يعني رخصة للقادة المهزومين بحق لهم فوق مشاعر الناس، وأخبرته أن مصر ستقبل على صدام شرس إذا تولى شمس بدران رئاسة الجمهورية».

يتابع هيكل: «على الرغم من اقتناع عبد الناصر بوجهة نظري، إلا أنه أخبرني أنه اتفق بالفعل مع عبد الحكيم عامر على اختيار شمس بدران، فرددت عليه بأن مصير البلد أكبر من قرارات الغرفة المغلقة. فسألني: إذا لم يكن شمس فمن؟ قلت له: الأقدم بين الأعضاء الباقين في مجلس قيادة الثورة. فقال: زكريا محيي الدين. أبديت ارتياحي وهو أيضًا قال: زكريا عاقل وذكي ومقبول دوليًا وقادر على الحوار مع الأمريكان». (الانفجار، ص838 – 843)

وحكى هيكل في كتابه عن عبارة اعترض عليها عبد الناصر، وهي: «إنني على استعداد لتحمل نصيبي من المسئولية»، وطلب تعديلها لأنه يتحمل المسئولية كاملة، فأعاد هيكل صياغتها لتصبح «إنني على استعداد لتحمل المسئولية كاملة».

بعد الاستقرار على الصيغة الأخيرة لخطاب التنحي، قال عبد الناصر لهيكل: «إنني أتصور أن الناس بعد مفاجأة استقالتي سيطلبون معرفة الحقيقة فيما حدث، وهو حقهم، ولست أعرف السبيل إلى تحقيق هذا الطلب، فهو ضروري لمستقبل العمل، ولكني أخشى أن يتصور أحد أنني بأي شيء أقوله أحاول إشراك غيري في المسئولية، والله يعلم أني لا أفكر في أي شيء من ذلك، فأنا نازل عند حكمة الله في قضائه ولكن الحقيقة يجب أن تكون واضحة للناس». (الانفجار، ص847)


كيف تحولت الهزيمة إلى «نكسة»؟

لماذا النكسة وليس الهزيمة؟ أحد أهم الأسئلة المرتبطة بخطاب التنحي، وإلى اليوم لا تزال هناك انتقادات لاستخدام هذا المصطلح نظرًا لما فيه من تهوين وعدم توصيف دقيق لحقيقة ما جرى في هزيمة 5 يونيو. فكيف تحولت الهزيمة إلى نكسة؟

يسرد صاحب المصطلح وكاتب الخطاب، تفاصيل مناقشة دارت بينه وبين عبد الناصر، حول اختيار «النكسة» تحديدًا لوصف ما حدث، يقول هيكل: استوقفني عبد الناصر وأنا أقرأ له مشروع الخطاب عند الجملة التي ورد فيها تعبير النكسة لأول مرة، وهي «لا نستطيع أن نخفي على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة خلال الأيام الأخيرة»، وسألني: لماذا اخترت تعبير نكسة؟ وأضاف أنه «مستريح مع الكلمة» لكنه يريد أن يكون واثقًا من سلامة اختيارها. رد هيكل عليه قائلًا: «توقفت كثيرًا قبل أن أستقر عليها، كان أمامي أن أختار بينها وبين (صدمة) ووجدتها أقل من اللازم، و(هزيمة) ووجدتها أسوأ من اللازم، ثم (نكسة) وقد أحسست مثلك بأني مستريح معها».

وبرر هيكل سبب ارتياحه للكلمة، التي ستصبح فيما بعد التوصيف الرسمي والشعبي والإعلامي والفني لما جرى في 5 يونيو، مخاطبًا عبد الناصر: «لو أنني استعملت كلمة هزيمة، فذلك سوف يكون خطرًا لعدة أسباب، فهي تعني الاستسلام كما فعلت ألمانيا وإيطاليا واليابان في الحرب العالمية الثانية، كما أنها تؤثر على معنويات قوات ما تزال تشكيلاتها تقاتل في سيناء، وعلى ضفتي قناة السويس، فكيف يتأتى أن نقول لهم (هزيمة) ثم نطلب منهم أن يقفوا ويعطوا أرواحهم فداءً للوطن وهم يعلمون أنه الوقت الضائع؟ إذا كنا لا نريد الاستسلام فلابد أن تترك مجالًا للرجل الذي سيأتي بعدك ليقدر الموقف ويحدد ما إذا كانت نكسة أو هزيمة أو كارثة».

رد عبد الناصر على هيكل: «الاستسلام غير مطروح، خسائرنا لا تستدعي الاستسلام، تستدعي جهودًا سياسية جديدة مكثفة يقوم بها رجل آخر ليكسب وقتًا يقاتل فيه (بجد) أو يبحث فيه عن (حل بالسياسة) يستعد به للمواجهة في يوم آخر». (كلام في السياسة «عام من الأزمات»، الجزء الثاني، ص220 – 221).

على كل حال يبدو أن عبد الناصر ارتاح كثيرًا لتوصيف هيكل، لدرجة أنه كرر كلمة «نكسة» 4 مرات في الخطاب.


قراءة سريعة في خطاب 9 يونيو

خطاب التنحي واحد من أهم مفاتيح فهم مشهد مظاهرات 9، 10 يونيو، ربما يفيد تحليل أهم نصوصه ومضمونه، بعد سرد أبرز كواليسه، في تفسير ما حدث.

1. ربما لا يعرف كثيرون أن خطاب التنحي لم يكن عبارة عن تلك الجملة القصيرة الشهيرة التي قال فيها عبد الناصر: «إنني على استعداد لتحمل المسئولية كلها، ولقد اتخذت قرارًا أريدكم جميعًا أن تساعدوني عليه.. لقد قررت أن أتنحى تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر».

لقد امتد الخطاب 25 دقيقة، بواقع 1633 كلمة، وهو ما يعد استثناءً في مثل هذه المناسبات التي تتطلب وقتًا أقل بكثير يعلن فيه المسؤول بشكل صريح الاستقالة، ولعل قرار «تخلي» مبارك عن منصب رئيس الجمهورية، على لسان عمر سليمان، في 11 فبراير 2011، والذي لم يستغرق سوى أقل من دقيقة، يوضح لنا الصورة، فهل أراد فعلًا عبد الناصر تقديم استقالته في خطاب مدته 25 دقيقة؟

ما يزيد الأمر غرابة، الموقع الذي برزت فيه لحظة التنحي داخل الخطاب، قبلها مباشرة تحدث عبد الناصر عن خطة عمل ما بعد «النكسة»، وبعدها مباشرة سرد إنجازات 23 يوليو، وكأن هيكل أراد لكلمات التنحي أن تقع بين خطة عمل مستقبلية تزيل آثار العدوان وتضمد الجراح، وتذكير الشعب بمنجزات «الثورة» خاصة في المجال الاقتصادي.

يقول عبدالناصر قبل إعلان تنحيه مباشرة: «أمامنا الآن عدة مهام عاجلة، المهمة الأولى أن نزيل آثار العدوان… المهمة الثانية أن ندرس درس النكسة».

وبعد إعلان التنحي مباشرة يقول: «لقد حقق جيل الثورة جلاء الاستعمار البريطاني، وحقق استقلال مصر، وحدد شخصيتها العربية، وحارب سياسة مناطق النفوذ في العالم العربي، وقاد الثورة الاجتماعية، وأحدث تحولًا عميقًا في الواقع المصري أكد تحقيق سيطرة الشعب على موارد ثروته وعلى ناتج العمل الوطني، واسترد قناة السويس، ووضع أسس الانطلاق الصناعي في مصر، وبنى السد العالي ليفرش الخضرة الخصبة على الصحراء المجدبة، ومد شبكات الكهرباء المحركة فوق وادي النيل الشمالي كله، وفجر موارد البترول بعد انتظار طويل».

كيف يمكن الجمع بين تقديم الاستقالة وإعلان خطة عمل «عاجلة» تحدد أولويات المرحلة القادمة، التي من المفترض ألا يكون جزءًا منها، ماذا ترك إذًا للقيادة الجديدة؟ وكيف يمكن الجمع بين إعلان تنحي بعد لحظة هزيمة مريرة تعيشها الأمة فعلًا الآن وعرض خريطة إنجازات الماضي؟ وفي «خطاب التنحي» كيف يمكن أن تكون كلمات الاستقالة بين السطور لا هي مقدمة تلفت الأنظار ولا خاتمة لا يرن بعدها في الآذان كلمة سواها؟ ربما الأكثر طرافة أن آخر عبارة في الخطاب كانت «هذه ساعة للعمل وليس ساعة للحزن». العمل يخاطب المستقبل والحزن يفترض المغادرة، فهل قصد هيكل وعبد الناصر فعلًا بهذا الخطاب إعلان التنحي أم تقديم برنامج عمل للجماهير؟

3. استخدم عبد الناصر، خلال الخطاب، عدة مفردات لوصف ما حدث في 5 يونيو، كرر 4 مرات مصطلح «النكسة»، ومصطلح «أزمة» مرتين، ومصطلح «محنة» مرة واحدة، ومصطلح «مؤامرة» مرة واحدة، ومصطلح «ظروف عصيبة» مرة واحدة. وكلها كلمات لا ترقى لوصف حقيقة ما كان يعلمه عبد الناصر عن خسائر الجيش المصري، معظم هذه الكلمات جيدة تمامًا لوصف انهيار عمارة على رأس ساكنيها.

الطريف أن أول عبارة قالها عبد الناصر في الخطاب بعد «أيها الإخوة» كانت «تعودنا معًا في أوقات النصر والمحنة، في الساعات الحلوة وفي الساعات المرة أن نجلس معًا». لم يستخدم عبد الناصر مقابل النصر وهو الهزيمة، واكتفى بـ «المحنة» وهي ليست مقابل النصر، على الرغم من أنه استخدم في الشطر التالي مباشرة من العبارة مقابل الحلوة «المرة»، فيبدو أن إقصاء كلمة الهزيمة من الخطاب شغل مساحة كبيرة من عقل هيكل وهو يصيغه.

فهل تعمد عبد الناصر التقليل من أهمية ما حدث في 5 يونيو؟ وهل قصد هيكل بهذه المفردات أن يتشكل لدى الشعب وعي آخر لا يدرك طبيعة خسائر مصر في تلك الحرب؟ وهل أحدثت تلك المفردات والخطاب ككل تشويشًا في إدراك الناس لما حدث فعلًا؟ بمعنى أدق: هل كانت الجماهير وهي تهتف «ناصر» رافضة تنحيه تعلم ماذا حدث فعلًا في 5 يونيو؟ وهل علمها من عدمه بحقيقة الهزيمة كان سيغير في مشهد مظاهرات 9 يونيو؟

4. في تبريره وتفسيره لما حدث في 5 يونيو، قدم عبد الناصر رواية لم يتطرق فيها، خلال 1633 كلمة، لأي أسباب أو عوامل داخلية، لأي أخطاء عسكرية أو سوء تقدير، تحدث عن قدرات «التواطؤ الاستعماري» الذي أمد العدو بتسهيلات ضاعفت من قدراته بشكل «جعله يعمل بقوة جوية تزيد ثلاث مرات عن قوته العادية»، لم يتحدث عن أي تقصير ولم يتطرق لأخطاء القيادة العسكرية في الحرب. ليس هذا فحسب، فخلال 25 دقيقة، هي عمر الخطاب، لم يذكر عبد الناصر طبيعة الخسائر التي مُني بها الجيش، في الوقت الذي وجد فيه مساحة لتذكير الناس بإنجازات «ثورة يوليو»!

لم يذكر عبد الناصر وهو يلقي على الجماهير «درس النكسة» أيًا من النقاشات التي دارت بينه وبين هيكل قبل إلقاء الخطاب بعدة ساعات، وذكرها الأخير في كتاب «الانفجار»، نقاشات تطرقت للأخطاء العسكرية المهولة التي وقع فيها الجانب المصري، ومسئولية عبد الحكيم عامر الذي كان واضحًا، حسب رواية هيكل، أنه ساخط عليه.

درس النكسة من وجهة نظر عبد الناصر، الذي ذكرها في الخطاب، لا يعدو سوى إدراك 3 حقائق، الأولى «أنه مهما طال المدى، ورغم أن الاستعمار يقوي إسرائيل، إلا أن القوة العربية أكبر وأقدر على الفعل»، الثانية «أن إعادة توجيه المصالح العربية في خدمة الحق العربي ضمان أولى، وأن الأسطول السادس الأمريكي كان يتحرك ببترول عربي»، والثالثة «أن الأمر يقتضي كلمة موحدة تُسمع من الأمة العربية».

الحقائق الثلاث، التي ذكرها عبد الناصر، يمكن تلخصيها في كلمة «المؤامرة» ببعدها الاستعماري، والإقليمي، فهل لو حكى عبد الناصر للشعب التفاصيل التي سردها لهيكل عن الأخطاء العسكرية الفادحة لقيادات الجيش، كان رد فعل الشعب سيكون مشابه لما حدث مساء 9 يونيو؟

5. تبقت ملاحظة أخيرة، ربما لا تفيد في فهم مشهد 9 و10 يونيو بشكل مباشر، لكنها تستهدف محاولة فهم طبيعة نظام 23 يوليو، الذي ينظر إليه اتجاه فكري – سنتعرض له فيما بعد – على أنه أحد أسباب ظاهرة 9 يونيو الفريدة، وهي العبارة العفوية التي قالها عبد الناصر على لسان هيكل، خلال إعلانه التنحي.. «لقد قررت أن أتنحى تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير».

هذه العبارة، العفوية، تخبرنا بموقع الجماهير داخل العملية السياسية، في نظام يوليو 52، وتشير إلى رؤية النظام للسياسة بوصفها حكرًا على أصحاب السلطة، وتحمل اعترافًا ضمنيًا من رأس النظام، ومستشاره الإعلامي، بالطلاق الذي حدث بين الجماهير والسياسة طيلة سنوات حكم عبد الناصر، فالدور السياسي لا تلعبه ولا تشارك فيه الجماهير، عبد الناصر نفسه لن يستطيع أن يشارك سياسيًا طالما أنه عاد لصفوف الجماهير، وكل ما سيفعله، إذا تنحى بالفعل، أنه سيؤدي واجبه كأي مواطن آخر أو بالأحرى «كأي مواطن غير سياسي آخر».

تهوين عبدالناصر من 5 يونيو، استخدام مفردات أقل وطأة من الهزيمة، عدم مصارحة الشعب بطبيعة الخسائر، إلقاء اللوم كله على «المؤامرة» و«التواطؤ الاستعماري» وعدم الإشارة من قريب أو من بعيد لأخطاء القيادة العسكرية، عدم التطرق إلى تفسير المشهد الإعلامي الذي سبق وتلى 5 يونيو وكذبه على الشعب، كل هذه العوامل يجب أن تؤخذ في الحسبان خلال تحليل مشهد 9 يونيو الفريد.. فهل تأثر الشعب بمضمون الخطاب الذي تم إعداده في الكواليس وهو يهتف لـ«ناصر»؟


مظاهرات «ناصر»: مدبرة أم تلقائية؟

بين «مدبرة»، «تلقائية»، ذهب اتجاهان رئيسيان في تفسير المظاهرات التي خرجت مساء 9 يونيو و10 يونيو تطالب «الزعيم الأوحد» بالبقاء، كما قالت أم كلثوم «ابقَ فأنت الأمل الباقي».

«التاريخ سيجد من يكتب عن مسرحية 9 يونيو التي شاهدتها بنفسي وشاركني في مشاهدتها كل من حسن إبراهيم وعبد اللطيف البغدادي، ولكنه الشعب الطيب، الشعب الساذج»، هكذا قال صراحة رشوان فهمي، نقيب أطباء مصر وأستاذ طب العيون. (سامي جوهر، ص218)

ويروي حسن إبراهيم، عضو مجلس قيادة الثورة، شهادته قائلًا: «حقيقة كانت مسرحية، كنت جالسًا في حديقة المنزل برفقة فهمي والبغدادي ننتظر سماع بيان عبد الناصر وأمامنا جهاز التليفزيون، وبينما نحن جالسين وصلت إلى أسماعنا أصوات جماهير تتحرك وتهتف «عبد الناصر»، ولم يكن البيان قد أُذيع بعد، أرسلت السائق لاستطلاع الأمر فأبلغنا أن لوريات تحمل المئات من الشباب تنزلهم في فناء مدرسة مصر الجديدة الثانوية على مسافة مائتي متر من منزلي، وبدأ عبد الناصر يذيع بيانه، وعندما جاءت فقرة قراراه بالتنحي فوجئنا بأصوات الهتافات والمئات الذين كانوا مجتمعين في فناء المدرسة يخرجون راكضين متجهين ناحية منشية البكري حيث منزل الرئيس». (سامي جوهر، ص219)

ومن بين هؤلاء الذين يرون أن مشهد 9 يونيو لا يعدو كونه مسرحية مدبرة أيضًا، عبد اللطيف البغدادي، أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، فيقول في مذكراته: «بعد انتهاء خطاب عبد الناصر مباشرة سمعنا الهتافات، ورأينا تحركات شباب الاتحاد الاشتراكي في الأوتوبيسات واللواري، وهو ما يعني أن الأمر كان مدبرًا من قبل». (مذكرات البغدادي، ص301)

وحقيقة الأمر أن النقد الذي يمكن توجيهه لهذا الاتجاه في تفسيره لمشهد 9 يونيو، هو أنه إذا كان الاتحاد الاشتراكي قد حرّك الجماهير في القاهرة، واستطاع تحريكهم في المحافظات، فهل كانت لديه القدرة على تحريك الجماهير في بيروت وبغداد ودمشق وغيرها من العواصم العربية؟

ثمَّ اتجاه آخر، يعتقد في تلقائية تلك التظاهرات، يقول حسنين هيكل في شهادته: «ما حدث في 10 يونيو مليء بالمفاجآت المدهشة للدنيا كلها، خرجت كُتل من الناس فور انتهاء جمال عبد الناصر من إلقاء خطاب التنحي تطالبه بأن يبقى مكانه وأن يواصل عمله. خرجت الجماهير في كل بلد عربي تصر على مواصلة القتال وتحت قيادة عبد الناصر».

قدّم هيكل تفسيرًا لذلك المشهد، فيقول: «ظل عبد الناصر ساعات لا يصدق ما جرى ويسأل نفسه في حيرة «ليه»، لأجيبه: الناس لا يعرفون أحدًا غيره، وأن عليه حتى بمسئوليته عما جرى أن يجد للأزمة مخرجًا مشرفًا. قررت جماهير الأمة أن تحمل المسئولية وتقف تقاتل على الجسور». (كلام في السياسة، ص232 – 234)

وهذه كانت رؤية الاتجاه الآخر، الذي عبر عنه هيكل، معتبرًا أن الجماهير قررت تحمل المسئولية مع زعيمها.. فهل ثمة مخرج ثالث؟


عفوية لا تخلو من تعبئة!

في كتابه الهام «الزحف المقدس: مظاهرات التنحي وتشكيل عبادة ناصر»، يقدم الباحث شريف يونس تفسيرًا ثالثًا لمظاهرات 9 يونيو، حيث يعتقد في «عفوية» تلك المظاهرات، لكنها عفوية «بنت التعبئة» ولا تشكل نقيضًا لها، وهي ظاهرة تعبر عن العجز السياسي، وتفسر علاقة الشعب بعبد الناصر، ففي نظره، هذه العلاقة لم تتبد مثلما تبدّت في تلك المظاهرات، التي رسمت مركزية عبد الناصر في النظام السياسي والوعي العام.

هكذا يؤمن «يونس» بأن المظاهرات كانت عفوية، إلا أنها، وبعكس ما ذهب إليه هيكل في تفسيره، كانت نتيجة تحطيم طويل المدى للحياة السياسية، فتلك العفوية صدرت عن شعور ووعي متراكم عبر 15 عامًا من حكم الضباط الأحرار، تم تشكيله باستخدام تعبئة أيديولوجية متواصلة داخل أذهان الناس وعواطفهم وتوجهاتهم، وهذا، طبقًا ليونس، يفسر حركتهم على هذا النحو الفريد في تاريخ الهزائم الكبرى، فهذه المظاهرات كانت محصلة لعمل أجهزة الدولة السياسية والأيديولوجية على مدار عقد ونصف أكثر منه محصلة مؤامرة دبرتها أجهزة الاتحاد الاشتراكي في بضع ساعات، بعدما طرحت الدولة الاستبدادية للناس شخصًا بوصفه رمزًا ومعبودًا. (شريف يونس، ص13 – 14)

المؤرخ عبد العظيم رمضان طرح أيضًا تفسير «نظام يوليو» وطبيعة تركيبته كسبب في تحليل المشهد، فينتقد الرأي الذي ينسب مظاهرات 9 يونيو إلى تدبير الاتحاد الاشتراكي، مشيرًا إلى أنه يغفل أن هذا التنظيم لم يكن يتمتع بشعبية بين الجماهير تمكنه من أداء هذا الدور الضخم، فقد كان مكونًا من قيادات غير جماهيرية وصلت إلى مواقعها بإرداة الحاكم، وأن مثل هذا التنظيم كان بوسعه فقط أن يخرج بمظاهرات مأجورة لاستقبال زائر عند قدومه إلى مصر.

أكثر من ذلك، يرى رمضان أن اتهام المظاهرات بأنها مدبرة مهين جدًا للشعب المصري، وأن رؤية شباب الاتحاد الاشتراكي في هذه المظاهرات ليس دليلًا على وجود عنصر التدبير، فهم في النهاية جزء من شباب البلد، وانفعلوا بالاستقالة كما انفعل شباب مصر.

وأشار إلى أنه حتى خطاب التنحي، لم يكن الشعب يستوعب أبعاد الهزيمة بعد، أو إدراك مسئولية عبد الناصر عنها، وأنه حينما أدرك أبعادها هبّ في فبراير 1968 احتجاجًا على الأحكام التي صدرت في حق قادة الطيران المسئولين عن تدمير الطائرات المصرية على الأرض، وبالتالي تجيب هذه المظاهرات، من وجهة نظر رمضان عن سؤال: ماذا لو كانت الجماهير تعرف الحقيقة في 9 يونيو، معتبرًا أن تصرفات الشعوب في إطار معرفتها بالحقائق تختلف عنها في إطار جهلها به.

وتطرق المؤرخ الشهير إلى «نظام 23 يوليو» كسبب لخروج المظاهرات بهذا الشكل، فيقول إن الشعب حتى 9 يونيو لم يكن يعي طبيعة النظام الذي كان يحكمه، فأجهزة الدولة أقامت من عبدالناصر إلهًا وأقحمته بهذه الصفة في قلب كل فتاة وشاب ورجل وامرأة وطفل، وأفلحت وسائل الإعلام طوال سنوات حكم عبد الناصر في إقامة جدار سميك بين الشعب وبين الحقائق، فصورت له أخطاء حرب 56 في صورة أمجاد، وصورت له قادته العسكريين في صورة كبار القادة العالميين، وأخفت عنه أخطاء القيادة العسكرية في أزمة الانفصال السوري، كذلك أخفت عنه صدام ناصر وعامر في 1962، وصورت له الديكتاتورية في شكل استنارة وحماية وتقدم، وزورت تاريخه حتى بات يقتنع بأنه بدأ منذ 23 يوليو. وبالغت في إنجازات الثورة وأخفت أخطاءها. (عبد العظيم رمضان، تحطيم الآلهة، ص228 – 235)

أما الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، فقط تطرق في كتابه المرجعي الهام «الطاغية» إلى ظاهرة 9 يونيو، محاولًا الإجابة عن سؤال: كيف رفضت الجماهير رحيل عبد الناصر بعدما انهار عالمه في ست ساعات فقط؟ الظاهرة نفسها تكررت في أغسطس 1967حين استقبلت جماهير السودان القائد المهزوم باستقبال حار خلال حضوره مؤتمر القمة في الخرطوم.

يشير إمام إلى أن التوحيد الذي حدث بين الحاكم والشعب يعد مدخلًا قويًا لفهم تلك الظاهرة، فـ«الزعيم الأوحد» هو مصدر كل السلطات، وهو القائد، والمعلم، والمخلص، والمنقذ، ومبعوث العناية الإلهية، الذي تعمل أجهزته على ترويض الجماهير لتصبح أداة طيعة في يد الزعيم الأوحد، فلا تستطيع أن تأخذ قرارًا مستقلًا بمعزل عنه حتى وهو مهزوم. (الطاغية، ص262).

في نهاية هذا المقال، يمكننا القول إن مظاهرات 9، 10 يونيو التي رفضت تنحي عبد الناصر، بعد هزيمة 5 يونيو، لم تكن بمعزل عن مشهد الهزيمة ذاته، بل جزء أصيل منه، وتعبير صادق عنه، على أساس إدراكنا أن هذه الهزيمة مجتمعية وسياسية في المقام الأول قبل أن تكون عسكرية، فالمصير الذي كان ينتظر مصر في 5 يونيو، سِيقت إليه على مدار سنوات طويلة، عبر أيديولوجية تقديس الحاكم الفرد الذي رسختها أجهزة الدولة والإعلام في عقول وقلوب ونفوس الوعي الجمعي للجماهير.

عبر هذه السنوات، طلّقَت الجماهير السياسة أو طُلقِت منها، أدوات التأثير والمشاركة التي فقدتها عبر 15 عامًا لم تستطع استعادتها في دقائق، لقد اعتادت على أن تجد من يفكر ويخطط ويفسر لها، ويتحدث نيابةً عنها، حتى وهي تحصل على حريتها يتم تسليمها تارة إلى شمس بدران أو زكريا محيي الدين.

وبالتالي مشهد 9 يونيو أو حتى مشهد 29 أغسطس في الخرطوم، وغيرهما من المشاهد التي يعتبرها البعض شهادة «حسن سير وسلوك» برغم الهزيمة، ويرون فيها انعدامًا لتهمة الديكتاتورية التي تلاحق مثل هذه الأنظمة، ما هي في حقيقة الأمر إلا تكريس لما أرادوا نفيه، فالديكتاتورية هي التي ساقت الجماهير إلى التمسك بالرجل الأوحد الذي تم تمجيده وتصويره على أنه إله لا يخطئ، قادر على تحطيم العدو بإصبع واحد، فهي لم تعرف غيره ولا توجد لديها أي إمكانيات أو مؤهلات لمعرفة أو استكشاف غيره فضلًا عن انعدام الرغبة في ذلك، لقد أدركت الجماهير، أو أُريد لها أن تدرك، أن هذا الرجل الذي تزين صورته حيطانهم، هو أب في المقام الأول، ونحن لم نعرف ابنًا نصّب لأبيه محاكمةً على أخطائه مهما كانت جسيمة.

علاقة «الأبوة» التي شكّلت علاقة عبد الناصر بالجماهير لم تختفِ بعد الهزيمة، فالصحافة بعدها لم تمارس سوى الدور الذي تعودت على ممارسته، لم تستخدم سوى نفس المفردات «أب – راعي – رعية»، فها هو أنيس منصور يكتب في الأخبار، بتاريخ 12 يونيو 1967، في عموده الشهير «مواقف» يقول: «أعلن جمال عبد الناصر أنه المسئول وحده عن النكسة وأنه لذلك يجب أن يتنحى وهذه هي قمة البطولة وقمة المأساة أيضًا! كيف للراعي أن يتخلى عن رعيته المؤمنة به؟ كيف للمؤرخ أن يلقي قلمه وهو يصحح تاريخ مصر والأمة العربية. لقد عشنا بك ومعك يا جمال أيامًا سعيدة. إن أعباء النكسة تستطيع وحدك أن تحملها وأن تزنها. لقد أصدرنا قرارنا لا وشكراً لله أنك قلت لنا نعم».