لعب طيار دورًا بارزًا في جميع مراحل العمل وأظهر قدرًا كبيرًا من الأناة. في الواقع، لقد تولى الجزء الأكثر صعوبةً وإجهادًا في المشروع برمته. أعتقد أنه أنجز مهمة شاقة؛ مهمة لا يستطيع القيام بها سوى أفراد قلائل على مستوى العالم.
د. خالد إرن مؤرخ تركي ومدير عام مركز إرسيكا
وأنا أقف هنا وقفة شُكر له، على جهوده في تحقيق المصاحف، وأغبطه على قدرته على الحصول على صور لكثير من المصاحف، مما نعدّه نحن حُلمًا يأبى أن يتحقق، لما نجده من السلوك غير المرضي من بعض القائمين على دور المخطوطات، نسأل الله أن يستخدمنا وأخانا المحقق في مرضاته، وأن يلهمنا رشدنا، وأن ييسر لنا كل عسير، وأن يجعله بابًا للحصول على صور تلك المصاحف.

د. بشير الحِميري خبير مخطوطات بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات

منذ انطلاق الألفية الثالثة ومركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (إرسيكا) يكثف من جهوده في تصوير وإصدار المصاحف القديمة، المكتوب بالخطين الحجازي والكوفي، كنُسَخ فوتوغرافية مطابقة للأصل بعناية وتحقيق الدكتور طيار آلتي قولاج. ونظرًا للأهمية العلمية لهذه الأعمال في حقلي الدراسات القرآنية والباليوغرافيا العربية، فقد رأيت أن أخصص هذا المقال للتعريف بهذا الباحث التركي وتحقيقاته. ومما شجعني على الكتابة أيضًا جملة من الأسباب الشخصية؛ ذلك أني أول ما قرأت في موضوع المصاحف المبكرة دراسته لمصحف طوب قابي سراي المنسوب إلى عثمان بن عفان وكانت استفادتي منها عظيمة للغاية؛ مهدت لي الطريق بعد ذلك للتعمق في هذا التخصص النادر. جديرٌ بالذكر هنا أن الدكتور خالد إرن مدير عام إرسيكا والدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو الأمين العام السابق لمنظمة التعاون الإسلامي، يساهمان بشكل فاعل في دعم وإخراج مثل هذه الأعمال الكوديكولوجية التي تعبر عن تاريخ الحضارة الإسلامية وكتابها المقدس.


من هو طيار آلتي قولاج؟

ولد طيار آلتي قولاج عام 1938 بقرية بِنْغِيلْدَايِقْ التابعة لمركز دَوْرَكَاني في ولاية قَسْطَموني التركية، وأتم حفظ القرآن الكريم وعمره تسع سنوات، ثم واصل تعليمه الديني مرتحلاً بين دوركاني وإسطنبول إلى حين تخرجه من المعهد الإسلامي العالي عام 1963. لاحقًا، عُينَ معلمًا ومديرًا بمدرسة الأئمة والخطباء، وظل يمارس مهنة التعليم في المعاهد الإسلامية في إسطنبول وقيسري حتى عام 1971. وخلال تلك الفترة، درسَ اللغة العربية وآدابها في جامعة بغداد، وأعدَّ رسالته للدكتوراه في علم التفسير.

شغل طيار كذلك عددًا من الوظائف الإدارية في بلده تركيا، فعمل نائبًا لرئيس شؤون الديانة التركية ثم مديرًا عامًا للتعليم الديني ثم عضوًا بمجلس التعليم والتربية، واختير عام 1978 رئيسًا لشؤون الديانة التركية إلى حين إعفائه من المنصب -بطلب شخصي منه- عام 1986.

طيار آلتي قولاج (أقصى اليمين) وقتما كان نائبًا لرئيس شؤون الديانة التركية آنذاك، الدكتور لطفي دوغان (في المنتصف)، وعن يساره يعقوب أوستون، ومدير التوظيف السيد أحمد أوزون أوغلو.

وبالحديث عن نشاطه العلمي، فلطيار اليد الطولى في تأسيس وقف الديانة التركي، ومركز الدراسات الإسلامية (İSAM)، ودائرة المعارف الإسلامية التركية وكتابة وتحرير العديد من مدخلاتها. كما يُعَد أول من سجل المصحف المرتل بصوته في تركيا برواية حفص عن عاصم، وله أيضًا مشاركة في تحقيق بعض كتب التراث المتخصصة في علم القراءات؛ فحقق «المرشد الوجيز» لأبي شامة المقدسي في مجلد واحد (بيروت 1975) و «معرفة القراء الكبار» للذهبي في أربعة مجلدات (إسطنبول 1995).

ولم تقتصر اهتماماته على جوانب العلم والتدريس فحسب بل تعدته إلى المشاركة السياسية، حيث تولى رئاسة لجان التعليم الوطني، والثقافة، والشباب، والرياضة في البرلمان التركي في دورتين انتخابيتين عام 1995 و 2002. وهو أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية؛ الحزب الحاكم في تركيا حاليًا.


شغفه بالمصاحف القديمة

منذ نهاية ستينيات القرن العشرين والشاب الواعد طيار شغوفٌ بتتبع ما ينشر من أخبار عن المصاحف المخطوطة القديمة، وقد لفت انتباهه ما كتبه اثنان من العلماء آنذاك؛ محمد عبد العظيم الزُرقاني من علماء الأزهر، ومحمد حميد الله المحقق المعروف. أما الأول، فقد ذكرَ في أحد أشهر كتبه المؤلفة في (علوم القرآن) خبَر المصاحف الأثرية المحفوظة في خزائن الكتب والآثار المصرية والتي يعتقد كثير من الناس أنها من المصاحف التي أنفذها الخليفة عثمان إلى الأمصار؛ فشكك في صحة نسبتها إليه مدلالاً على ذلك بوجود الزركشة وفواتح السور والعشور وغير ذلك مما يُعلَم أنه لم يكن في تلك المصاحف. ثم تحدث عن المصحف المنسوب لعثمان في جامع الحسين بالقاهرة، وهو مصحف ضخم مكتوب بخط كوفي، رجَّح أن يكون منقولاً من أحد المصاحف العثمانية كمصحف المدينة أو الشام([1]).

وقد بلغ ولعُ آلتي قولاج أشده، فزار القاهرة صيف عام 1969 مؤملاً النفس بالاطلاع على هذا المصحف (المحفوظ اليوم في المكتبة المركزية للمخطوطات الإسلامية)، وكان الرأي المصري آنذاك -وما زال- أنه من مصاحف الخليفة عثمان، لكن إهمال الموظفين لطلبه وقلة خبرته وزاده في تلك المرحلة المبكرة من عمره ساهما في حرمانه من رؤيته. وتمر الأيام والسنون وإذا به ينشره محققًا عام 2009!، يقول طيار: «وزنه 80 كغ. زرت القاهرة مرتين لرؤية هذا المصحف، وفي إحدى الزيارتين أبديت عدم تصديقي لذلك، فحاولت رفعه، فتبين لي –مع أني لم أزنه بدقة– أنه ليس أقل من 80 كغ؛ لأن أوراقه من جلد، وكل تلك المصاحف في الحقيقة من جلد الغزال»([2]).

مصحف جامع الحسين المنسوب لعثمان بن عفان مع مرممه محمد سيف الشاذلي (مايو 1993).

على الجانب الآخر، أشار العلامة حميد الله إلى أن المصاحف التي بعثَ بها عثمان إلى الآفاق –ويعتقد أنها خمسة– قد فُقِدَت في الأزمنة اللاحقة بسبب الحروب والنكبات. مع ذلك، فقد «نُسِب لسيدنا عثمان ثلاث نسخ في عصرنا هذا»، وذكرها: مصحف طوب قابي في إسطنبول وهو مصحف تام، ومصحف في طشقند ضاع ثلثاه، وآخر في مكتبة الدائرة الهندية في لندن جاء في خاتمته: «كتبه عثمان بن عفان»([3]).

لقد كانت المعلومات التي ذكرها المؤلفان السابقان بمثابة المرشد لآلتي قولاج لتفحص تلك النسخ القرآنية والعمل على دراستها دراسة جادة، وهو ما سيفعله في السنوات القادمة من حياته.

العامل الآخر –وهو الأهم– الذي أسهم في سلكه لهذا الطريق، يتلخص في إثبات محفوظية النص القرآني بوثائق مادية مبكرة وعدم الاكتفاء بالإيمان فقطـ=، لاسيما وأنه تعلم من أساتذته في المرحلة الثانوية والجامعية أن نص الكتاب المقدس قد تعرض إلى فساد كبير في حين كان تأكيدهم دائمًا على أن القرآن الكريم لم تمسه يد التحريف وبقي نصه محفوظًا إلى اليوم، وهو الشيء نفسه الذي أقرته كتب علوم القرآن قديمًا وحديثًا. يعبر طيار عن ذلك بقوله: «ولعلكم تُقَدِّرون معي أن هذا الوضع قد ترك أثرًا كبيرًا في نفسي؛ إذ جعلني أشعر بالتميز لكوني مسلمًا والطمأنينة التي يجلبها لي ذلك الشعور»([4]).

نعم، من الصحيح أن القرآن حفظه المئات من الصحابة، وعشرات الآلاف من القراء والحفاظ في كل عصر ومصر، وما زال يقرأ في كل مكان وبشكل يومي دونما انقطاع، إلا أن الوثائق المادية المتوفرة تبقى عنصرًا هامًا لا يجدر بالباحث المؤمن أن يتجاهله –عمدًا– لأن ذلك قد يؤدي إلى «جعل الدين يتكئ على عصا هشة» كما يعبر الفيزيائي إسحاق نيوتن؛ وقد كان مسيحيًا مؤمنًا.


إنتاجه وأعماله

مصحف جامع الحسين المنسوب لعثمان بن عفان مع مرممه محمد سيف الشاذلي (مايو 1993)

لقد كانت مشاغل آلتي قولاج الوظيفية تمنعه من التفرغ لدراسة هذه الوثائق الخطية القيمة، وفي هذا يقول: «ولم يكن ممكنًا مع الأسف وعلى الرغم من شغفي غير العادي بتلك المصاحف المنسوبة لسيدنا عثمان اعتبارًا من أواخر الستينات أن أحوِّل ذلك الاهتمام إلى واقع فعلي، وذلك بسبب الوظائف الإدارية والسياسية الرفيعة التي أَسَرَتْني في شبابي واستنفدت مني سنوات عمري، ولم أستطع اقتناص هذه الفرصة إلاّ في أوائل سنوات الألفية الثالثة»([5]). وما إن تفرغ طيار من مهامه في بداية الألفية الثالثة حتى أوكل إليه مركز «إرسيكا» مهمة دراسة المصاحف التي تُنسَب إلى الصحابيين عثمان وعلي. ومنذ ذلك الوقت وحتى تاريخ كتابة هذه الكلمات، ساهم الرجل بتحقيق جملة من هذه المصاحف التاريخية، التي تعود إلى القرنين الأول والثاني الهجري، والمحفوظة في عدد من المتاحف ودور المكتبات في إسطنبول، وصنعاء، والقاهرة، وباريس، وتوبنغن، ولندن، وغيرها.

لقد بلغ مجموع هذه الأعمال المحققة سبعة مصاحف، نذكرها هنا بحسب تاريخ صدورها:

  • المصحف الشريف المنسوب إلى عثمان بن عفان «نسخة متحف طوب قابي سراي»، إرسيكا 2007.
  • المصحف الشريف المنسوب إلى عثمان بن عفان «نسخة متحف الآثار التركية والإسلامية»، مركز الدراسات الإسلامية (إيسام) 2007.
  • المصحف الشريف المنسوب إلى عثمان بن عفان «نسخة المشهد الحسيني بالقاهرة»، إرسيكا 2009.
  • المصحف الشريف المنسوب إلى علي بن أبي طالب «نسخة صنعاء»، إرسيكا 2011.
  • المصحف الشريف «نسخة متحف الفن الإسلامي بالقاهرة»، إرسيكا 2014.
  • المصحف الشريف «نسخة المكتبة الوطنية الفرنسية»، إرسيكا 2015.
  • المصحف الشريف «نسخة توبنغن»، إرسيكا 2016.
صورة تجمع الكاتب بالدكتور طيار آلتي قولاج في مكتبه بمركز الدراسات الإسلامية (مايو 2016)

وفي زيارتنا له في مايو الماضي بأسكُدار الواقعة على الضفاف الشرقي للبسفور، وجدناه يعمل على نَسْخ مصحف كوفي على جهاز الحاسوب استعدادًا للتعليق عليه ومقارنته بالمصاحف الأخرى. أخبرنا د. طيار أن هذا المصحف من مدينة مشهد بإيران، ويبدو أنه يُنسَب لعلي بن أبي طالب. وانتقل بنا الحديث إلى أعماله في تحقيق ونشر المصاحف، فذكر أنه ينوي التوقف الآن لكِبَرِ سنه ويكتفي بنشراته للمصاحف السبعة –والثامن في طريقه للنشر– التي وضعها بين أيدي الباحثين. وعوضًا عن ذلك، سينشغل بدراسات أخرى أكثر عمقًا، بحسب تعبيره.

مع أني أؤكد هاهنا أنه لو أُخبِر بوجود مصحف عتيق في مكان ما في هذا العالم، فإنه سيبادر على الفور بالحصول على نسخة منه ومن ثم يشرع في دراسته، ولا أدل على ذلك من قيامه بتحقيق المصحف المحفوظ في متحف الفن الإسلامي بالقاهرة بعد تلقيه رسالة مباشرة من مستشرق ألماني تبلغه بوجود «مصحف حجازي من الحجم الكبير» في هذا المكان وتشجعه على الاهتمام به!.

أطال الله في عمره ونفعَ بعلمه.


([1]) «مناهل العرفان في علوم القرآن» (1/330 – 331). وراجع كذلك: «الكلمات الحسان في الأحرف السبعة وجمع القرآن» للشيخ محمد بخيت المطيعي (ص77).

([2]) «المصاحف المنسوبة إلى عثمان وعلي» (ص11).

([3]) «تدوين القرآن الكريم وترجمته»، مجلة الدراسات الإسلامية (إسلام آباد)، 19/5، 1984 (ص20). وانظر كذلك: «المصحف الشريف: نسخة طوب قابي سراي» (ص71-72).

([4]) «المصحف الشريف: نسخة متحف الفن الإسلامي بالقاهرة» (ص25).

([5]) السابق (ص26).