تقف أهرامات الجيزة شامخة على الحافة الغربية لوادي النيل، مخلدة قوة وازدهار المملكة القديمة (نحو 2686 إلى 2181 قبل الميلاد)، وقد كانت المملكة القديمة أول فصل في تاريخ الحضارة المصرية العظيمة، التي يعتقد علماء المصريات والجغرافيا الطبيعية أنها قامت بعد عدة مراحل من التعقيدات الاجتماعية المدفوعة في أغلبها بتحولات مناخية امتدت في منطقة شمال أفريقيا لفترات طويلة منذ 8 آلاف سنة منتصف «الهولوسين» (عصر الإنسان).

لكن يظل السؤال كيف قام المعماريون المصريون القدماء بنقل أكثر من مليوني كتلة من الجرانيت والحجر الجيري، يزن كل منها طنين على الأقل إلى هضبة الجيزة على بُعد 8 كيلومترات من فرع النيل الرئيسية.

منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي كان فيضان النيل في منطقة أهرامات الجيزة منظرًا معتادًا بفضل ترعة الليبيني وهي القناة المشتقة من امتداد ترعة الإبراهيمية التي أنشأها الخديو إسماعيل عام 1867م عبر شق مجرى مواز للنيل عند منطقة ديروط في الصعيد، حيث كان أهالي الجيزة يستخدمون المراكب الصغيرة للتنقل أثناء وقت الفيضان مما دفع بعض علماء المصريات مثل «لودفيج بورشاردت» إلى التساؤل عما إذا كان النيل قد وصل إلى المكان نفسه زمن بناة الأهرام، أي في عهد «الأسرة الرابعة».

ومن هنا ظهرت احتمالية وجود موانئ نيلية تربط ضفاف النيل بـ«معابد الوادي» الموجودة عند سُفوح الأهرامات.

في عام 1971م افترض عالم الآثار «جورج جويون» وجود قناة نيلية غرب وادي النيل تمر أمام الأهرامات من منطقتي هوارة واللاهون في الفيوم إلى سقارة وممفيس والجيزة، أطلق عليها اسم «قناة منف»، بافتراض أنها اتخذت نفس المسار الذي اتخذته لاحقًا ترعة بحر الليبيني في أواخر القرن التاسع عشر.

كان الطموح الكبير لعلماء المصريات والأثريين لإيجاد الدليل الأركيولوجي أو الجيولوجي علي إثبات فرضية «جويون» دافعًا وراء عمليات التنقيب في أبو صير وسقارة وميت رهينة التي استمرت خلال الخمسين سنة اللاحقة لتلك الفرضية، إلا أن نتائج التنقب قد أفضت إلى مزيد من التشكيك في هذه الفرضية، حيث لم يعثر على دليل قاطع يؤكد وجود رواسب فيضانات غرينية عبارة عن مزيج من الرواسب الطينية والرملية المقبلة مع مياه الفيضان نتيجة لتعرية صخور هضاب الحبشة «منابع النيل»، تدل على وجود السهل الفيضي، الذي يحيط «بمعابد الوادي الجنائزية»، إذا كانت مياه النيل قد وصلت إليها بالفعل، فضلًا عن تلك الترسبات التي تمثل قيعان أحواض الموانئ.

وقد بدأ اليأس في التسرب إلى نفوس الباحثين وعلماء التنقيب في المنطقة المنفيسية (نسبة إلى مدينة منفيس)، الممتدة من أبو رواش شمالًا إلى دهشور جنوبًا، فإذا لم يكن فيضان النيل، فما عساها أن تكون الطريقة التي نقل بها المصريون القدماء تلك الحجارة الضخمة؟

ولماذا تَصطفُ كل تلك الأهرامات داخل الصحراء بهذا الشكل العجيب موازية امتداد مجرى النيل؟ إلا أن يكون النيل قد مرَّ من هنا عشية بناء الأهرامات.

بردية وادي الجرف

في عام 2013 وفي كهف في ميناء وادي الجرف القديم على البحر الأحمر اكتشف فريق بحثي مشترك من علماء الآثار الفرنسيين، بقيادة علماء المصريات «بيير تاليت» و «غريغوري ماروار»، مئات من قطع البردي التي تبين في ما بعد أنها أقدم برديات تم اكتشافها على الإطلاق، التي تضمنت نصوصًا قديمة تعود إلى نحو عام 2562 ق.م (عام 27 من عهد الملك خوفو).

تعد برديات وادي الجرف بمثابة سجلات لمفتش «رئيس عمال» متوسط الرتبة يُدعى «ميرير»، يشرح لنا من خلالها تفاصيل المهام التي نفذها مع رجاله على مدار عدة أشهر للمساهمة في مشروع بناء الهرم الأكبر، الذي كانت على وشك الانتهاء.

ويذكر سجل «ميرير» ، المكتوب في جدول زمني يومي مكون من عمودين، الحياة اليومية لعمال البناء، ويشير إلى أن كتل الحجر الجيري التي تم استخراجها في طرة، التي كانت تستخدم لتغطية السطح الخارجي للهرم، تم نقلها بالقوارب على طول نهر النيل ونظام من القنوات المائية إلى موقع البناء، وهي رحلة استغرقت ما بين يومين وثلاثة أيام.

بعد اكتشاف بردية وادي الجرف لم يعد هنالك مجال للشك في وجود قناة النيل التي كانت تمر بجوار أهرامات الجيزة، التي غذت الميناء الذي من خلاله تم نقل مواد بناء الأهرامات.

وعلى الرغم من هذا الاكتشاف فقد ظلت نفس الأسئلة القديمة عالقة بلا إجابة: أين مرت هذه القناة؟ وهل كانت قناة طبيعية أم شقها ملوك الأسرة الرابعة كما فعل الخديوي إسماعيل في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، أم كان هو النيل نفسه قبل أن يهاجر إلى موقعه الحالي؟

ويقدم علماء الرسوبيات والأثريين مجموعة من الفرضيات والنماذج عن ماهية هذه القناة ومدى كفاءتها كعصب لوجيستي ضمن مشروع بضخامة بناء الأهرامات، فنجد فريق «بنبري» يقدم نموذجًا عام 2009 أن قناة النيل الرئيسية كانت تمر بالقرب من معابد وادي الأهرامات أثناء الأسرة الرابعة ثم هاجرت شرقًا خلال الخمسة ألاف عام اللاحقة، إلا أن هذا النموذج تم انتقاده من فريق «بوتزر – لوف» عام 2013 حيث إنه «وعلى الرغم من الادعاءات التي تشير إلى عكس ذلك، فإن الجيولوجيا الجوفية ببساطة لا تسمح بأن تكون قناة النيل الرئيسية نفسها مرت عند سفح هضبة الجيزة منذ نحو 5000 عام».

ويقترح فكري حسن (2010) نموذجًا بديلاً لموقع النهر والهجرة في المنطقة من ممفيس إلى الجيزة أوائل عصر الأسرات، وفقًا لحسن، «كان نهر النيل يمتد على طول الحافة الشرقية للسهل الفيضي كما هو اليوم. وهذا يفسر وجود مواقع رئيسية في أواخر عصر ما قبل الأسرات/ أوائل الأسرات على الضفة الشرقية لنهر النيل بالقرب من الحافة الصحراوية في مصر الجديدة والمعادي وطره وحلوان»، يضيف حسن أن «هذه القناة الثانوية كانت عرضة للاختفاء بشكل دوري والجفاف خلال الشتاء. وعليه، فقد تم الحفاظ عليها على الأرجح كقناة نقل وري».

وقد توصل «مارك لينير» عام 2020 أن التصور المقبول هو أن تكون قناة فرعية على مقدار جيد من العمق والاتساع وربما حتى رافدًا من النيل مثل دمياط ورشيد قد استخدمت في نقل مواد بناء الأهرامات، حيث استدعى لينير فرضية «جيفريز» عام 2008 عن رأس الدلتا الذي كان يقع عند أبو صير ثم هاجر شمالًا حتى موقعه الحالي، تلك الفرضية كانت قد لاقت انتقادًا لاذعًا من عديد علماء الجيولوجيا في وقتها حيث إن التركيب الصخري لوادي النيل ضيق الاتساع جدًا في النقطة المشار إليها بحيث لا يسمح بتكون فرعي النيل.

علي أي حال فقد بني لينر نموذجًا افتراضيًا لميناء الجيزة وفقًا لحدود حفرياته وبعض البقايا الحجرية التي تنتمي للمملكة القديمة، التي افترض أنها تشكل بقايا أسوار قديمة أحاطت بالميناء، كما افترض لينر أن مهندسي المملكة القديمة قاموا بشق شبكة من القنوات على غرب رافد النيل بحيث ترتفع فيها مستوى المياه أثناء موسم الفيضان فيمكن السفن من الإبحار حتى مرفأ الميناء عند معابد الوادي، لكن فرضية لينر ظلت في انتظار دليل جيو أركيولوجي.

رافد خوفو المندثر

مؤخرًا استطاع فريق بحثي بقيادة هدير شعيشع باحثة الجغرافيا الطبيعية وعلم البيئات القديمة من جامعة أيكس مارسيليا، بالاشتراك مع باحثين من جامعتي «تولوز» و «فرانس-كومتى» في فرنسا، بالتعاون مع جامعة شنغهاي للعلوم والتكنولوجيا الصينية، تقديم دراسة جيو-أركيولوجية حول التطور البيئي لمنطقة أهرامات الجيزة، وكيفية انعكاس التغيرات البيئية والمناخية على عملية بناء الأهرامات.

وقد قدمت الدراسة المنشورة في أغسطس الماضي في دورية PNAS «الأكاديمية الوطنية للعلوم الأمريكية»، أدلة جديدة تظهر بدقة موقع فرع النيل المندثر في الجيزة أو كما أطلق عليه «فرع خوفو»، كما قدمت شعيشع سردًا تاريخًا لوجود هذا الفرع ومراحل تدفقه وفترات انحساره في منطقة الدراسة على مدى 8 آلاف عام.

استطاعت شعيشع وزملاؤها أن تحصل على عينات بحثية من الرواسب الفيضية تمد إلى أعماق متفاوتة من 9 إلى ١٤ مترًا في المنطقة المحيطة بأهرامات الجيزة في نزلة السمان ونزلة البطران ومحور الليبيني، ومن ثم إجراء تحليل إحصائي لمحتوى تلك العينات وتقدير نسب تمثيل حبوب اللقاح الأُحفورية المحفوظة بداخلها منذ آلاف السنين التي لا تتأثر بعوامل التحلل العضوي عبر العصور، حيث تقدم لنا حبوب اللقاح وسيلة مثلى لدراسة البيئات القديمة كونها تعبر بدقة عن الأنماط النباتية المختلفة، التي ينتمي كل منها إلى نظام مناخي ومائي محدد.

الفريق البحثي بقيادة هدير شعيشع أثناء أخذ العينات

وقد لاحظت شعيشع أن أحافير حبوب اللقاح التي عثروا عليها في رواسب فرع خوفو كانت مطابقة مع النمط النباتي الذي يمكن رؤيته اليوم على ضفاف نهر النيل، كما وجدت دليلًا على وجود بعض نباتات المستنقعات (البردي – ديل القط – اللوتس)، التي تنمو عادة على حواف البحيرات، ما يعني أن فرع خوفو قد ظل عند مستويات عالية في المنطقة لفترة كافية حتى يمكن اعتباره رافدًا دائمًا للنيل.

ومن خلال الجمع بين نتائج تلك الدراسة ونتائج الدراسات السابقة التي تضمنت دراسة الطبقات الصخرية، وجدت شعيشع أن مستويات فرع خوفو كانت مرتفعة بما يكفي في زمن بناء الأهرامات الثلاثة الكبرى (منكاو رع ، خفرع ، خوفو)، وهو ما يؤكد الفرضية التاريخية القائلة بوجود ميناء نهري تم استخدامه في عملية بناء الأهرامات، وتسهيل انتقال الأحجار الضخمة.

وقد توصل فريق البحث من خلال هذه الدراسة إلى وجود تغيرات مناخية كبيرة ضربت شمال مصر أثناء فترة بناء الأهرامات، حيث يرجح أن تكون الفيضانات قد تسببت في انجراف المنطقة المجاورة لفرع خوفو بشكل متكرر، وهو ما قد يفسر الأنقاض المتكررة في موقع المدينة المعروفة باسم حيط الغراب، التي كان يسكنها العمال الموسميون الذين قاموا ببناء الأهرامات.

كما وجدت الدراسة أيضًا أنه بعد فترة ليست طويلة من حكم الملك توت عنخ آمون، بدأت مستويات فرع خوفو في الانخفاض، مما أدى إلى بيئة أكثر جفافًا داخل المنطقة، وقد توافقت تلك النتائج مع دراسات أخرى أركيولوجية طبية على العظام والأسنان من المومياوات في ذلك الوقت ما يعني أن المنطقة بالفعل أصبحت أكثر جفافًا بعد نهاية المملكة الحديثة عام 1200 ق.م.

علي الرغم من الدقة العالية للنموذج الرقمي الذي انطلقت منه نتائج الدراسة فإنه- وكما هو الحال مع جميع الدراسات- من هذا النوع فإن النطاقات الزمنية في عصور الأسرات المصرية القديمة التي تعتمد في دراستها على وسائل التأريخ الحالية مثل الكربون المشع ومقاييس التغيير البيئي قد تختلف بين موقع وآخر، لذلك تدعو الدراسة إلى مزيد من عمليات البحث داخل مواقع أخرى في نطاق المنطقة المنفيسية، سعيًا للحصول على سرديات تاريخية إضافية تتسم بالشمولية.

مواقع الحفائر في المنطقة المجاورة لأهرامات الجيزة
المراجع
  1. Sheisha, Hader, et al. «Nile waterscapes facilitated the construction of the Giza pyramids during the 3rd millennium BCE.» Proceedings of the National Academy of Sciences 119.37 (2022): e2202530119.
  2. Lehner, M., 2020. Lake Khufu: On the Waterfront at Giza – Modelling Water Transport Infrastructure in Dynasty IV. Equinox Publishing Limited.291-295.
  3. Tallet, P. 2013. ‘Note d’information: Les Papyrus de la Mer Rouge (Ouadi el-Jarf, Golfe de Suez),’ Comptes Rendus de l’Académie des Inscriptions & Belles-Lettres II (April-June): 1015-1024.
  4. Goyon, G. 1971 ‘Les ports des pyramides et le Grand Canal de Memphis’, Revue d’Egyptologie 23: 137-153.