لا أحد يفرض قوانينه علينا.

كان هذا هو تعليق الأنبا مرقص، أسقف شبرا الخيمة، على الجدل الذي انطلق في مارس/آذار 2008، حول رفض الكنيسة الالتزام بحكم المحكمة الإدارية العليا، والقاضي بإلزام الكنيسة وبطريركها، البابا شنودة الثالث آنذاك، بمنح تصريح زواج لشخص مسيحي مطلق. كانت الكنيسة قد ارتأت أن الكتاب المقدس لا يبيح التطليق إلا في حالة واحدة حصرية هي الزنا، خلافا لما قرره المجمع الملي للكنيسة برئاسة البطريرك يؤانس التاسع في لائحته بتاريخ 5 سبتمبر/أيلول بتعدد أسباب التطليق، ومن بينها «استحكام النفور بين الزوجين، واستمرار الفرقة لمدة ثلاث سنوات متتالية»؛ وهي اللائحة التي استمر العمل بها في عهود البابوات مكاريوس الثالث، ويوساب الثاني، وكيرلس السادس، وحتى بعد تولي البابا شنودة الثالث عام 1971.

لم يقم المجلس الملي برئاسة البابا شنودة الثالث بتعديل اللائحة إلا بعد أن أثيرت الأزمة، وذلك في 2 يونيو/حزيران 2008، مما يعني إقرار الكنيسة وعلى رأسها البابا شنودة الثالث باللائحة وعملها حتى التعديل، بل حتى موعد دخوله حيز التنفيذ واعتباره قانونيا.

لم يكن ثمة جديد في تلك الواقعة غير ما فيها من إعلان التمرد الرسمي الكنسي على القانون الرسمي؛ أما تلك الحالة من الامتياز التي اعتبرتها الكنيسة لنفسها فقد كانت بندا ضمن اتفاق ضمني بين الكنيسة والدولة، التي لم تكن في الحالة المصرية دولة بحق بقدر ما كانت نظاما سياسيا يسعى إلى الحفاظ على سلطته. وقد استمر ذلك الاتفاق بين الكنيسة والدولة إحدى العقبات أمام بناء دولة المواطنة والديمقراطية التي بدا واضحا أن كلا طرفي الصفقة ليس حريصا عليها، إن لم يكن ينظر إليها باعتبارها عدوه اللدود. كان هذا الاتفاق نتاج تاريخ طويل من تأرجح الدولة المصرية وتراوح مشروع تحديثها بين نجاحات وإخفاقات وتسويات، منذ عهد محمد علي باشا وإلى اليوم.


الأسرة العلوية: الأقباط من الذمية إلى المواطنة

كلمة «قبطي» هي تحريف لساني عربي لكلمة «إيجبتوس» التي أطلقها اليونانيون على سكان مصر، قبل أن تصبح لاحقا علما على من بقي مسيحيا من المصريين بعدما اعتنقت أغلبية من السكان المحليين الإسلام. وقد عاش الأقباط كأهل ذمة بين المسلمين، وفقا للشريعة الإسلامية، حتى مجيء محمد علي باشا، الوالي العثماني على مصر، والذي عمل على صناعة دولة مصرية على غرار النموذج الفرنسي الحديث، فكان من بين أعماله إزالة معظم مظاهر تمييز الأقباط عن المسلمين، ومن بينها قيد الزي، وتقييد إظهار الطقوس الدينية؛ قبل أن يلغي سعيد باشا الجزية المفروضة عليهم مسبقا وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية، وبالتالي سمح لهم أن ينضموا للجيش. واستمر هذا الازدهار القبطي في ازدياد في عهد إسماعيل الذي تبرع للتعليم الديني المسيحي.

ارتبطت تلك الإصلاحات الحديثة التي قادتها الأسرة العلوية بزيادة عدد الأقباط في جهاز الدولة، وارتقائهم في السلم الوظيفي منازل عالية. فقد كان للأقباط دور تقليدي منذ حكم المماليك في إدارة الشئون المالية؛ وهي مسألة تستحق البحث. ثم تصاعد هذا الدور مع قدوم الحملة الفرنسية على مصر (1798 – 1801). لكن هذا الأمر قد بلغ ذروته في عهد الأسرة العلوية، التي اتخذت من الأقباط مستشارين ومنحتهم درجات «البكوية» (في عهد محمد علي) و «الباشوية» (في عهد إسماعيل)، خلافا لما كان معهودا من قبل.

ويسجل جون برانج، المبعوث البريطاني، في تقريره إلى وزارة الخارجية البريطاني مارس/آذار 1839، شهادته عن أوضاع الأقباط في مصر، حيث يقول: «لا ريب أن نفوذ الأقباط في مصر آخذ في الازدياد … وأما اضطهاد المسلمين للقبط فقد زال أو كاد … فليس هناك في الوقت الحاضر من يتعرض لأقل مضايقة بسبب عقيدته الدينية … ويبدي ولاة الأمور استعدادهم لتلبية النداء على الفور عند أية بادرة من بوادر التدخل في طقوس المسيحيين». ويسجل اللورد باتريل كامبل أيضا في تقريره يوليو/تموز 1840 أن «الأقباط يشغلون مناصب في خدمة الباشا ويؤدي لهم الحرس ومن إليهم نفس ما يؤدونه من تحية وتبجيل لنظرائهم الأتراك. والحقيقة أنه لا يوجد بلد أكثر تسامحا من مصر».

ترسخت المواطنة القبطية في مصر حتى تولَّى اثنان من الأقباط رئاسة الوزراء، هما: بطرس غالي باشا (1908 – 1910)، ويوسف وهبة باشا (1919 – 1920)، كما بلغ عدد النواب الأقباط في البرلمان المصري عام 1924، 16 عضوا بنسبة 7.5%. والأهم من ذلك، أن الأقباط تصدروا الزعامة الشعبية والكفاح الوطني جنبا إلى جنب مع الزعماء المسلمين، وعلى رأس هؤلاء الأقباط: مكرم عبيد باشا، صاحب المقولة الشهيرة: «نحن مسلمون وطنا ونصارى دينا».


الأقباط بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية

يرجع كثير من الكتاب ضياع المكاسب المواطنية التي حصل عليها الأقباط إلى حقبة السادات الذي تحالف مع الجماعات الإسلامية بغية القطيعة الجذرية مع الحقبة الناصرية القومية. غير أن انحسار الحضور القبطي في المجال العام في مصر كان قد برز فعلا في الحقبة الناصرية. لقد برز الأثر الخطر للطبقية وغياب العدالة الاجتماعية في الاستجابة القبطية لثورة يوليو/تموز 1952. فبينما احتفت الطبقات الفقيرة من الأقباط، مثلهم مثل المسلمين، بالثورة، نظرت إليها النخب الاقتصادية القبطية، والتي حظيت أكثر من نظيرتها الفقيرة بمكاسب عصر الأسرة العلوية، بارتياب.

ومن جهته، كان النظام الناصري إفرازا لحقبة الجماعات المصرية المتأثرة بالحركات الفاشية الشمولية في أوروبا. ففي الثلاثينات والأربعينات، تراجعت اللحمة الوطنية بعد أن حاول القصر (الملك) وبعض الحركات كـ «مصر الفتاة»، تحويل الإسلام إلى أساس لقومية مصرية وعربية. ذلك فضلا عن بروز حركة الإخوان المسلمين، إلى جانب التنظيمات الشيوعية التي لم تكن احتراما كبيرا للديمقراطية. ومن الواضح أن مثل تلك الأفكار الفاشية وتراجع الرؤى الليبرالية التنويرية التي حملها سعد زغلول ورفاقه في العشرينات قد ارتبطا بإغفال التنمية الاجتماعية والطابع البرجوازي والإقطاعي لذلك التيار، كما ارتبطا بتعثر مسار الحركة الوطنية التي تزعمها الوفد في تحقيق الاستقلال، الأمر الذي بزغ بتوقيع معاهدة 1936، مما جعل الطبقات الكادحة من المجتمع وفئة الشباب الوطني عرضة لجاذبية الخطاب الرومانسي القومي أو الديني الذي تقدمه تلك الجماعات الشمولية. أدى ذلك إلى تراجع عدد النواب الأقباط في البرلمان المصري في عام 1950 إلى 10 أعضاء بنسبة 3.1%؛ بل إن أول برلمان مصري عقب الثورة، عام 1957، خلا من أي عضو قبطي؛ مما اضطر النظام إلى استحداث حق تعيين عدد من الأعضاء لرئيس الجمهورية!

وإذا كانت الثلاثينات والأربعينات ثم ثورة يوليو قد أظهروا أن ديمقراطية العشرينات الليبرالية لم تكن تكفي وحدها لاستتباب الدولة والمواطنة، دون أن تحقق العدالة الاجتماعية؛ فإن السبعينات ستثبت أيضا أن عدالة الخمسينات والستينات الاجتماعية لم تكن تكفي وحدها دون تحقيق الديمقراطية. لقد تصاعد شعور الأقباط بالاغتراب في عزلتهم عن المشاركة السياسية في الحقبة الناصرية، ولاحقا في عهد السادات الذي ينسب إليه أنه قال في قمة المؤتمر الإسلامي 1965: «خلال عشر سنوات، سأحول أقباط مصر إلى مسلمين أو ماسحي أحذية وشحاتين»، وقد كان حينها جزءا لا يتجزأ من النظام الناصري.

على كل حال كانت تلك الحالة المزرية من تهافت مشروع التحديث العربي في مصر السبعينات تمهيدا لعقد الصفقة المدنسة بين الكنيسة والنظام المصري.


الكنيسة وعقدة الأقلية

في حواره مع «المصري اليوم» بتاريخ 15/ 9/ 2010، صرَّح الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس بالكنيسة الأرثوذكسية، ردا على سؤال المحاور حول إخضاع الكنائس للرقابة بعد أزمة كاميليا شحاته، بأن: «من يطالبون بذلك نسوا أن الأقباط أصل البلد. نحن نتعامل بمحبة مع ضيوف حلُّوا علينا ونزلوا في بلدنا واعتبرناهم إخواننا، كمان عايزين يحكموا كنايسنا». يبدو واضحا أن الكنيسة في مصر لا تنظر إلى المظلومية القبطية فحسب باعتبارها مظلومية أقلية مضطهدة سياسيا، بل باعتبارها مظلومية وطنية تاريخية تضرب بجذورها عميقا في التاريخ رجوعا إلى الفتح الإسلامي، الذي يفضل كثير من كتاب الكنيسة أن يطلقوا عليه الاحتلال العربي.

لقد ظلت تلك العقدة هاجسا لدى جماعة من الأقباط لم يثقوا معها أبدا في إمكانية أن يكونوا مواطنين من الدرجة الأولى في بلدهم. وقد دفعتهم تلك العقدة إلى الاستظهار بالاحتلال الأجنبي، كما في حالة توادرس المنقبادي وجريدة «مصر»، التي كانت تصدر في الوقت الذي كان فيه بطرس غالي باشا القبطي رئيسا للوزارة. وقد فسَّر بعض هؤلاء اغتيال بطرس غالي على يد إبراهيم الورداني، عضو الحزب الوطني آنذاك، باعتباره اغتيالا طائفيا، على الرغم من أن الورداني نفسه برَّر فعلته بأن بطرس غالي «خائن للوطن»؛ على خلفية ترأس الأخير محكمة دنشواي، وفضيحة تمريره لتمديد امتياز قناة السويس أربعين عاما التي واجهها محمد فريد بك.

مثَّل بزوغ الجماعات الإسلامية في السبعينات خطرا حقيقيا على المواطنة، في ظل دعوة تلك الجماعات إلى إعادة قوانين الذمة والجزية ونحو ذلك، وإقرار الدستور للشريعة كمصدر رئيسي. لكن الكنيسة لم تتعامل مع الأمر في المقابل بمنطق تهديد الدولة الوطنية في مصر، وإنما بمنطق الأقلية الخائفة والباحثة عن الحماية. ويبدو أن النظام نفسه قد عمل على تأكيد تلك العقدة عبر رفض الحزب الوطني المتكرر ترشيح مسيحيين بحجة صعوبة فوزهم في الانتخابات، فكانت كالنبوءة التي تحقق نفسها.


الصفقة المدنسة ونمط جديد من السياسة

لقد تصاعد شعور الأقباط بالاغتراب في عزلتهم عن المشاركة السياسية في الحقبة الناصرية.

أدت العقدة أخيرا إلى عقد «الصفقة المدنسة» بين الكنيسة والدولة، عبر دعم الكنيسة للنظام السياسي وغض البصر عن انتهاكاته الحقوقية وعن الاستبداد، مقابل الحماية الوهمية التي يضفيها النظام على الكنيسة من صعود الحركات الإسلامية، وحصول الكنيسة على امتياز الهيمنة على الشأن القبطي بمعزل عن سيادة القانون، حد تسليم الكنيسة بعض الشخصيات كوفاء قسطنطين وكاميليا شحاته دون إتمام التحقيق الرسمي في قضاياهم، إضافة إلى قبول الدولة بازدهار النخبة البرجوازية القبطية اقتصاديا. وبالفعل صمتت الكنيسة والجماعات القبطية المطالبة بحقوق الأقباط عن المطالبة بالديمقراطية أو الهجوم على الفساد، مما جعل مطالباتهم مطالبات طائفية عارية من الغطاء الوطني. وفي الحوار نفسه الذي أعلن فيه بيشوي أنه صاحب البلد الأصلي، لم ينس أن يعلن أيضا ولاءه التام لمبارك ونجله جمال!

حوَّلت تلك الصفقة المواطنة من حق ينتزعه الأقباط انتزاعا، إلى مكرمة يمنحهم إياها النظام السياسي إذا ما ارتأى ذلك، وتحوَّلت فزاعة الجماعات الإسلامية إلى مبرر جاهز للقضاء على أية محاولة لإرساء الديمقراطية، بل تم توظيف الكنيسة كسلاح في وجه محاولات الإصلاح السياسي كما ظهر منذ ثورة 25 يناير. لقد جعلت الكنيسة الأقباط في كفة، والإخوان والإسلاميين في كفة أخرى، وكان الأمر كذلك بالنسبة للمتطرفين الإسلاميين كذلك؛ لكن المعادلة واقعيا لم تكن كذلك، وقد كان الجميع بالنسبة للنظام عرائس ماريونيت يتلاعب بهم بما يخدم بقاءه هو في السلطة.

وتمثل تلك الصفقة التاريخية نمطا متميزا من العلاقة بين المؤسسة الدينية والدولة الوطنية تقوم على الإسناد المتبادل، لكن ليس وفقا لأبعاد قومية كما هو الحال في بعض الكنائس الغربية في علاقتها بمؤسسة السلطة، كما في إنجلترا وروسيا ما بعد الشيوعية، بل وفقا لمنطق حماية الأقلية المهجوسة بأقلويتها والكنيسة غير المهمومة بمسئوليتها الوطنية بقدر انهمامها بامتيازها الديني. وهو نمط ليس حديثا ولا قديما، ولا علمانيا ولا دينيا، بقدر ما هو نمط مشوّه من كل ذلك.

لا شك أن تحميل الأقباط مسئولية الطائفية في مصر هو من تحميل الضحية مسئولية الجريمة؛ لكن المطلوب ليس البحث عن متهمين وإنما البحث في سبل منع تكرار الجريمة، وعلى رأسها إدراك أن المواطنة ليست مكرمة من أحد، وليست مشروطة برغبة الطرف الآخر في منحها، بل هي حق وواجب في الوقت نفسه، وهي حق لا يمكن الحصول عليه وواجب لا يمكن أداؤه إلا في ظل نظام ديمقراطي يكفل مشاركة سياسية تعددية على أساس القانون والمصلحة الوطنية والحقوق الاجتماعية، لا على أساس المحاصصة الطائفية والصفقات التي تستهدف مصالح النخب فحسب.

المراجع
  1. عزمي بشارة: هل من مسألة طائفية في مصر؟
  2. طارق البشري: الكنيسة والدولة
  3. عاصم الدسوقي: جذور المسألة الطائفية في مصر الحديثة