(1)

لا تمثل العلمانية في المجال العربي محض مفهوم مُعبِّر عن بعض أو مجمل خصائص المجتمع الحديث الذي أنجبته الحضارة الغربية في صيرورتها التاريخية التي نطلق عليها «التنوير» أو «الحداثة». فالكثير من المثقفين العرب يتعامل مع العلمانية باعتبارها أيديولوجية أو مشروعًا حضاريًا، وأحيانا يوتوبيا أو جنة منتظرة (كل أيديولوجية -مذهب- هي وعد بيوتوبيا -مدينة مثالية- تتحقق بمجرد الإيمان بها وتحويلها إلى برنامجِ عملٍ مُجْمَعٍ عليه)، يؤمن بها البعض ويرفضها البعض الآخر، وتقع مسئولية تردي الأوضاع العربية على هؤلاء الرافضين والمقاومين لها [1]. لذا يبدو لنا أنه من الخطأ أن نتعامل مع المفكرين العرب المعاصرين باعتبارهم مُقَسَّمين بين فريقين أحدهما علماني والآخر إسلامي. ذلك أن تناول مفهوم العلمانية والتعامل معها كإحدى خصائص المجتمع الحديث وكظاهرة تاريخية مرتبطة بتطور الحضارة الإنسانية، أي مرتبطة بوجود الإنسان بصورة أو بأخرى ولا يمكن أن ينفك الوجود الإنساني عنها تماما، يجب التعامل معها بغض النظر عن ارتياحنا النفسي لها، وألا تكون موضعا لاتخاذ مواقف مبدئية بالقبول المطلق أو الرفض المطلق – ليس مبررا لتصنيف المثقف أيديولوجيًا كعلماني أو إسلامي [2].

إنها نظرة ترفع شعار «العلمانية هي الحل» الذي لا يعدو أن يكون تبديلا لفظيا لشعارٍ نظير «الإسلام هو الحل»، في أسوأ تأويلين لهما

هذه مقدمة لا بد منها لتحديد المقصود بدقة عندما نتحدث عن تيار علماني في الفكر العربي؛ فليس المقصود به التيار الذي يتبني المنظومة الحداثية سياسيا واجتماعيا والتي تتضمن بالطبع قيمًا كالديموقراطية والمواطنة والعقلانية النقدية والحقوق الفردية كأسس للمجتمع والدولة الحديثة -وهي مفاهيم بدأ كثير من الإسلاميين بالاعتراف بها اعترافًا لا يعرف الاسثناءات التي لا تبقي من الأصل شيئا- والذي يكاد يستغرق كل فكر عربي جاد اليوم [3]. المقصود هو تيار من الفكر العربي يؤمن بأن تجريد المجال العام من أي ظلال دينية [4]، هو ما ينبغي أن يكون المطلب الحضاري الأساسي لأية حركة عربية، وهو ما تتسم به بوضوح أعمال مفكرين كصادق جلال العظم ومحمد أركون وجورج طرابيشي ونصر حامد أبو زيد [5]. إنها نظرة ترفع شعار «العلمانية هي الحل» الذي لا يعدو أن يكون تبديلا لفظيا لشعارٍ نظيرٍ «الإسلام هو الحل»، في أسوأ تأويلين لهما.

لقد تحوّلت تلك النزعة العلمانية إلى أيديولوجية تسيطر على عقول شريحة واسعة من الشباب العربي (ربما المصري تحديدا) التي ضاعفت أجواء التوتر الثوري من الشقاق بينه وبين الإسلاميين. بل إن قطاعًا عريضًا من هؤلاء هم من خريجي أزمة الإسلاميين الذين تعرّضوا لصدمة جرّاء مواقف الإسلاميين السياسية أو جرّاء الانفتاح الثقافي على أعمال مفكرين من المذكورين أو نحوهم؛ الانفتاح الذي تحوّل إلى صدمة وحنق مصبوب على كتابات المثقفين الإسلاميين الكلاسيكيين الذين صار يُنظَر إليهم باعتبارهم مجموعة من المزوّرين وخصوم العلموية والتحديث. لقد لعب الاستقطاب السياسي دورًا كبيرًا في تحويل الصدمة الثقافية والحنق المُراهِق على الماضي القريب، إلى موقف أيديولوجي شديد التعصب ضد الإسلاميين. وإذا بنا أمام فُصام فكري: خطاب علماني راديكالي مُغرِق في الاحتفاء بقيم التنوير، وتأييد سياسي لأعتى الأنظمة القمعية المتخلّفة، وإصغاء لشخصيات معروفة بعلاقاتها المشبوهة بتلك الأنظمة.


(2)

تؤكد تلك العلمانية العربية ضمن خطابها أن الثقافة العلمانية هي شرط ضروري لأي إبداع علمي وتكنولوجي، وتُبِين في خطابها عن نزعة علموية تذكّرنا بحلقات الوضعية المنطقية وأفكار التجريبيين الرواد كبيكون وهيوم. وتحمّل تلك النزعة مسئولية المأزق العربي لمن أتاحوا المجال لأمثال زغلول النجار ومحمد عمارة وفهمي هويدي لتبوّأ المنابر الصحفية والإعلامية، مما أدّى إلى نشر ثقافة دينية متخلّفة في التعامل مع العلوم الطبيعية وإنجازاتها. لا تنبع مشكلة تلك الرؤية مما تقوله بقدر ما تنبع مما تُضمِره. فتصوّر الإبداع العلمي وليدًا للثقافة العلمانية يجعله، كغيره من القيم الحديثة، مشروعا مؤجَّلا لحين الانتهاء من شرطه التاريخي، أي نشر الثقافة العلمانية والاطمئنان على تشرب المجتمع لها [6].

وعلى الرغم من أن ثمة حدس نظري قد يفيد فعلا بأن ثقافة علمانية قد تكون وسطًا أنسب لنمو البحث العلمي، باعتبارها تؤكد الإمكانات الإنسانية التجريبية، كما تعترف بقيمة الحياة الدنيا بل وتحث على الاعتناء بها وبتطويرها؛ وأكثر من ذلك أنها ترفض الاكتفاء بالإله كأداة تفسيرية لكل ظاهرة غامضة يمكن أن تكون موضوعا علميا – إلا أن الحقائق التاريخية عن النهضة العلمية الحديثة وروّادها يبدو أنها تفنّد ذلك تماما.

فإذا كان القس كوبرنيكوس هو فقط رائد رمزي للثورة العلمية الكوزمولوجية الحديثة، فإن رائدها الفعلي جاليليو كان مقرّبا من المؤسسة الدينية، أي أن كليهما كان قد نشأ وتشبع بثقافة دينية، وظل قلبه ينطوي على علاقة حميمة بها، دون أن تمنع تلك الثقافة عقله من التساؤل والسعي للإجابة. بل إن حدسا نظريا آخر قد يفيد بأن الإيمان الديني بالخالق كمبدع لكون شديد الإحكام قد يكون دافعا علميا للبحث في هذا الإحكام، وحافزا إيمانيا له باعتباره تعبدا إلى الله؛ وهو ما نلمسه في خاتمة كبلر لكتابه «تناسق العالم Harmony of the World» التي يقول فيها:

«أحمدك اللهم خالقنا، أن أنعمت علي بأن أنظر في بديع صنعك؛ إذ أبهجتني صنائع يديك. انظر، قد أتممت هنا العمل الذي شعرت أنني مدعوٌّ إليه، وحزت القيمة من الموهبة التي أنعمت بها علي. لقد أبنت عظمة صنائعك للناس الذين سيقرأون تلكم الأسفار، إلى المدى الذي كانت لتسمح لي به محدودية روحي»[7]

وبينما يُنظر إلى نيوتن باعتباره مسئولا عن نفي الحاجة إلى الإله المنظّم (القيوم بلغتنا القرآنية) نظرا للانضباط الآلي الذاتي للساعة الكونية، أو النظر إلى هذا الإله باعتباره مجرد صانع انتهى دوره بمجرد الصناعة، إلا أن انعزاله وعودته إلى الدراسات اللاهوتية لاحقا، التي تظهر مدى تأثره بثقافته الدينية، بل وخوضه جدلا قويا مع الفيلسوف الألماني ليبنز حول أهمية تدخل الإله لإصلاح الخلل الذي يصيب تلك الساعة الكونية بمرور الوقت [8] – يُظهر كيف أن الثقافة الدينية تبدو بعيدة جدا عن الحيلولة بين العقل وبين أكثر النظريات العلمية صرامة. بل إن تلك الصرامة العلمية لتتضاعف لدى وارث نيوتن الذي نجح في نزع مكانه في الفيزياء، اليهودي المتدين ألبرت أينشتاين، والذي تبدو نسبيته بالنسبة للملحدين تأكيدا لغياب الإله مطلقا – إلى حد الإيمان بحتمية كونية خاضعة مطلقا للمشيئة الإلهية المسبقة.


(3)

إن التجربة التاريخية لا تفيد فحسب بأن الثقافة العلمانية لم تكن شرطا للإبداع، بل تفيد أحيانا بأن العلم قد يتعايش مع ثقافة ناقدة للحداثة كما نرى لدى فيزيائي عظيم كـ فيرنر هايزنبرج. لقد كان هايزنبرج شديد الوثوقية في انضباط ضمني للطبيعة حتى وإن عجزنا عن اكتشافه نظرا لتواضع إمكانات الرصد لدينا، وهو الأمر الذي يكشف عنه في تأويله لميكانيكا الكوانتم والمعروف بتفسير كوبنهاجن. لكن الأخطر من ذلك، هو أن رؤية هايزنبرج للفيزياء الحديثة كانت تنم عن عدم رضا عن تجريديتها المفرطة التي تنزع عن الطبيعة رومانسيتها كإبداع إلهي (انظر المرجع في الهامش 4). ويناسب ذلك توجُّه أبونهايمر صانع القنبلة النووية الأمريكية لاحقا إلى الاهتمام بالفلسفات الصوفية الآسيوية لاحقا.

أي أنه يمكن النظر إلى هايزنبرج كأحد نُقّاد العلم الحديث، وهو الأمر الذي يكشف عن أن القالب الذي يتم ترويجه اليوم لصورة العالِم، والذي يحاول ستيفن هوكنج أن يجعله تصورا صنميا جامدا ومقدسا، باعتباره ملحدا مؤمنا بالعلم الطبيعي كمحدِّد وحيد للمعرفة الإنسانية، ليس تصوُّرا دقيقا إطلاقا.

إن التهوين من شأن الإنجاز الإنساني الحديث المتثل في النهضة العلمية والتكنولوجيا، وهو توجُّه رائج اليوم في الفلسفة الغربية [9]، هو ضد ما نقصده من هذا النقد. فالمقصود هو ألا يكون العلم نفسه موضوعًا مرجئًا ومشروطا بثقافة علمانية متطرفة. ولا شك أن تصور العلم على الضد من ذلك، باعتباره خادما للدين، هو تصور ربما يكون أشد خطرا من تلك الرؤية العلمانية. بل إن غرضنا هنا ليس نقد العلموية بقدر ما هو نقد ضدها في الحقيقة، وهو أن يصير العلم منتجا هامشيا مصاحبا لهذه الثقافة أو تلك.


[1] لا تبدو هذه المشكلة ظاهرة في الحضارة الغربية، حيث أن العلمانية حقيقة وأمر واقع مجمع عليه، والحديث ينحصر في نقد بعض مضاعفاتها وإمكانية استعادة الدين ليلعب دورا ثقافيا بالأساس (كما نرى لدى منظري المحافظين كـ دانيال بيل أو بعض الرؤى النقدية كأطروحات تشارلز تايلور مؤخّرا).[2] نجد لدى محمد عابد الجابري مثل ذلك الوعي عندما يدعو إلى استبعاد كلمة «العلمانية» من القاموس العربي، وإحلال مفهومي «العقلانية» و«الديموقراطية» محلها (في نقد الحاجة إلى الإصلاح، ص83).

ويرى الكاتب السلفي إبراهيم السكران في المقابل أن الجابري يمثل نوعا من العلمانية الأكثر خبثا التي تسللت إلى أوساط النخب الشبابية (مآلات الخطاب المدني، ص31-35). غير أن ذلك التحليل ينم عن تسرّع تحليلي نابع من تعصب أيديولوجي مقابل للتعصب العلماني يرفض من الجابري أن يتخلص من لبس الشعار ومن ثقل الأيديولوجيا، ليطرح مفاهيم أكثر بعدا عن الغموض والأدلجة كليهما؛ وكأن السكران يريد أن يعلن الجابري سلفيته مبدئيا حتى لا يوصف بكونه علمانيا.

ولعله يكون ذا دلالة أن نفس هذا السخط على محاولة الجابري ذات الطابع العملي نجده على النقيض لدى علماني متعصب هو جورج طرابيشي (هرطقات 1، ص19). فالنزعة العملية هي عدو الرعونة الأيديولوجية أيا كان نوعها.[3] علينا ألا ننسى أن أبرز نُقّاد العلمانية عربيا كـ عبد الوهاب المسيري، كان مناضلا سياسيا في سبيل تحقيق الديموقراطية والمواطنة. وأن أبرز منظري الإسلام السياسي كالقرضاوي والعوا والغنوشي قد قبلوا هذه المفاهيم قبولا ربما لا يزيد عن قبول غيرهم سوى تأكيد الشرعية الإسلامية لها.[4] يمكن أن نضرب أمثلة عديدة عينية على تلك العبارة التي قد تتهم بالإجمال المنفلت والغموض: منها اعتبار الإيمان بإلهية نصوص دينية معينة، نزعة نصوصية معادية للعلم يجب القضاء عليها. كذلك رفض تمرير أية مضامين دينية لتلعب دورا ضمن الثقافة القومية واعتبار ذلك تهديدا للعلمانية (يبدو ذلك واضحا في هرطقات طرابيشي عن الممانعة، كما في تصريحات يوسف زيدان مؤخرا عن تاريخ المسجد الأقصى). وتنفر العلمانية العربية من أية أسطورة قومية أو سردية دينية كخطر على الحداثة، وكأن الأساطير والسرديات ذات الأصل الديني الصريح، التي نقابلها في خطاب الأمريكي عن ذاته ورؤيته للعالم، بل وفي الحديث عن فرنسا التنوير والعلمانية – ليست أساطير تفنّدها أدنى مراجعة تاريخية من النوع الذي تقوم به العلمانية العربية مع التراث العربي.[5] نظرة إلى أعمال نصر تكشف عن أن نقده مبدئيا لم يكن متوجها إلى حضور الدين في الثقافة، بقدر ما كان متعلقا بسلطة النصوص. وأن النزعة العلمانية المتطرفة التي نصفها ظهرت في أعماله كرد فعل على هجوم الإسلاميين عليه حينها. وهو الهجوم الذي علينا هنا ألا نتردد في إدانته، ليس تحيُّزا مع/ضد الأطروحة، ولكن لأن الإسلاميين كانوا مطالبين، ولا زالوا، بإثبات قبولهم لحضور أية أطروحة معرفية في المجال العام ونقدها بمعزل عن الحُكم على صاحبها (كان لدى بعض منظري الإسلاميين العقلاء كـ د. سليم العوا هذا الوعي، لكن حكم المحكمة لم يدع فرصة للتفريق بين المواقف الدقيقة)، ولأن الجامعة «المؤسسة الأكاديمية» كانت مطالبة في ذلك الوقت بحماية أي منتسب إليها من هجوم شعبي على أفكاره، تأكيدا لحرية التفكير والعقيدة في مجتمع يعاني حضاريا ودولة تهوى القمع.[6] ثمة واقعة تاريخية يشير إليها الفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي تدحض ذلك الزعم، وهو أن الثورة العلمية الحديثة كانت قد سبقت في نشأتها الثورة الفلسفية العلمانية، بجناحيها المثالي والمادي.[7] نقلا عن: W. Heisenberg, The Representation of Nature in Contemporary Physics. In: Daedalus, Vol. 87, No. 3, Symbolism in Religion and Literature, MIT press 1958, pp. 95-108. وترجمة المقطع هنا للكاتب.[8] بين ليبنز ونيوتن، يُرجع إلى: H. G. Alexander, The Leibniz-Clarke Correspondance, University of Manchester, 1956. وإلى كتاب نيوتن: Opticks، تحديدا جزئه الأهم: 31st Query.[9] جون سيرل، العقل واللغة والمجتمع، ت: صلاح إسماعيل، المركز القومي للترجمة، ص43-48.