امرأة مشعثة يمكنك أن تصفها بالقبح، ملابسها غير مهندمة وشكلها لا يليق ببهاء مسرح «بريتين جات تالنت»، لا تلمع مثل باقي المتسابقين، حتى لجنة المحكمين شدهوا من مظهرها وجهزوا أنفسهم لوصلة من البلاهة سوف تؤديها تلك العجوز، ثم فتحت «سوزان بويل» فمها وبدأت تغني، فحدثت المعجزة.

لم تكن صدفة تلك التي جعلت أولى كلمات «سوزان بويل» على المسرح تكون عن الحلم الذي سيغير حياتها ويجعلها مختلفة تماماً عن الجحيم الذي تعيشه، لا شيء يحدث على الأرض صدفة، وأغنيتها تلك لم تكن صدفة على الإطلاق.


سبعة وأربعون عاماً من الدراما

عندما وقفت سوزان بويل على مسرح Britain got talent لأول مرة كانت تبلغ من العمر سبعة وأربعين عاماً، لم يعرف العالم ماذا عانت فيهم تلك المرأة، فقد أخذت نصيباً مضاعفاً من الحزن، حياتها كلها تقريباً سلسلة من الأحداث الدرامية التي يمكن لكل حادث فيها أن يقضي تماماً على الحلم.

في طفولتها شخصت «سوزان بويل »أنها تعاني من تلف الدماغ، والذي جعلها تشعر أنها موصومة بشيء لا تقتنع به تماماً فقد كانت ترى أنها تعاني من مشكلة ولكنها تستطيع السيطرة عليها، ثم عرف الأطباء أنها لا تعاني تلف الدماغ ولكنها تعاني متلازمة أسبرجر، في الحالتين كان تشخيص «سوزان بويل» دراميًا على نحو ممتاز، وكان يمكن أن تنتهي حياتها عند هذا الحد وتكف تماماً عن الحلم، أو على الأقل أن تنتهي الدراما، ولكن كان للحياة رأياً آخر.

فقدت «سوزان بويل» كل أفراد أسرتها بدراما مختلفة، في كل مرة كانت تتلقى صفعة قوية تخبرها أن تكف عن الحياة، فقد فقدت والدها الذي شجعها على الغناء في العام 1997، ثم فقدت أختها في العام 2000، ثم بعد خمس سنوات فقدت أختها الأخرى جراء مرض السرطان، ثم أمها بعد ذلك بعامين، وحتى بعد أن تنجح في تحقيق حلمها وتغير حياتها بالكامل بعد نجاحها المدوي الذي جعلها تغني أمام الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وملكة إنجلترا، والبابا شخصياً، لم تكف الدراما عن ملاحقتها فيطالبها أخوها بأن تدفع عنه مبلغاً ضخماً يبلغ خمسين ألف دولار وإلا سينتحر.


لم يتأخر الوقت، ولكنه لم يحن بعد

يقولون إن الوقت لا يمكن أن يكون متأخراً أبداً، وقد كانت البريطانية «سوزان بويل» مثالاً حقيقياً على صدق هذه المقولة، فبعد كل تلك الأحداث العنيفة التي سبقت اعتلاءها المسرح وتحقيق حلمها الذي غير حياتها بالكامل في السابعة والأربعين بدأت في تحقيق كل الأشياء التي تأخرت في تحقيقها كثيراً.

لم يكن لـ«سوزان بويل» أبداً حبيب ولا عجب، فحياتها لم يكن فيها أي مجال للرومانسية، فقد كانت المأساة هي اسم اللعبة، ولكن الأمر يستلزم دفعة واحدة للعجلة لتدور مسرعة حتى وإن تأخرت تلك الدفعة، أخذت منها الحياة ثلاثة وخمسين عاماً لتحصل أخيراً على حبيب، ففي عام 2014 أعلنت «سوزان بويل» أنها أخيراً وجدت شخصاً تشاركه علاقة عاطفية، وقد تأخر هذا كثيراً نظراً لصعوبة الأمر لمن يعانون من «متلازمة أسبرجر»، وقد حافظت على سرية هوية هذا الحبيب الأسطوري.

نجحت «سوزان بويل» فيما فشل فيه كثيرون، أصغر سناً وأصح منها، فعلاقات المسافات البعيدة لا تنجح غالباً، حيث إنها صرحت بأنه طبيب يعيش بعيداً عنها في كونتيكت، ولكن علاقتهما ناجحة، لا عجب أيضاً فالمرأة التي تعيش في خضم تلك الحياة المريرة يمكنها أن تحافظ على الشيء الذي تحبه بالفعل أكثر من غيرها.

وكعادة «سوزان بويل» في اللحاق متأخراً بالأحلام، فقد قررت أن تتبنى طفلاً معوزاً لتمنحه مبكراً ما تأخرت الحياة في منحه لها كثيراً، في سن الثالثة والخمسين ليس سهلاً أن يتبنى المرء طفلاً، ولكن من قال إنها شخص عادي؟


أن تصل متأخراً خير من ألا تصل أبداً

I have a dream, my life would be, so different from this hell I’m living

وصلت «سوزان بويل» أخيراً للمكان الذي كان مقدراً لها أن تصله، دون الكثير من الضوضاء والظهور الإعلامي، وصلت للحظة التي كفت فيه الدراما عن ملاحقتها وبدأ عصر تحقيق الأحلام، ذلك هو الأمر المهم وليس مهماً على الإطلاق متى يحدث هذا طالما أنه حدث في النهاية.

تبلغ ثروة «سوزان بويل» حوالي خمسة وثلاثين مليون دولار وتصل ألبوماتها إلى قمة الأكثر مبيعاً في كل عام، والأهم أنها تملك الكثير من الأحلام التي أضحت حقيقة، لم يوقفها أنها تعاني مرضاً بإمكانه أن يشل حياتها، ولم يوقفها أن تفقد كل أحبائها بالتدريج حتى أنها لم تكد تلتقط أنفاسها بين فقد وآخر، لم يوقفها أنها لم تعش حياة طبيعية حتى عمر متأخر، لم يوقفها شيء عن تحقيق حلمها الذي آمنت أنه سوف يغير حياتها بالكامل.

كانت «سوزان بويل» محقة عندما وقفت قبل سبع سنوات على المسرح، وقالت، إنها تمتلك حلماً سيغير حياتها بالكامل وسيعوض كل الجحيم الذي تعيشه، ولكن الحلم لم يحقق نفسه وحده، استلزم الحلم روحاً قوية لتحقيقه، وقد تحقق في الوقت المناسب تماماً حتى لا يعطلها شيء عن الاستمتاع به، فحق لها أن تكون أيقونة، ليس في الغناء فقط، ولكنها أيقونة للحياة أيضاً.