لطالما كان التعليم أداة للمساواة الاجتماعية، يفتح طاقة أمل للفقراء للترقي الاجتماعي وتحسين أحوالهم الاقتصادية. لكن هل من الممكن أن تنقلب الآية ويصبح التعليم أداة لترسيخ التفاوت الاجتماعي والمحافظة عليه؟

بموجب الدستور المصري، يجب ألا يقل الإنفاق الحكومي على التعليم عن 4٪ من الناتج القومي الإجمالي، ولكن في واقع الأمر، فإن مخصص التعليم لم يصل إلى هذه النسبة أبداً، حيث وصل آخر مخصص للتعليم في عام 2019 إلى 2.2٪ من الناتج المحلي الإجمالي.

وعلى الرغم من أنه – دستورياً – يجب أن يكون التعليم مجانياً بشكل كامل، تكشف الإحصاءات ومسوح الدخل والإنفاق، أن هناك اتجاهاً متزايداً باستمرار لإنفاق الأسر المصرية من جيبها الخاص على التعليم.

 

فوفقاً لآخر بحث للدخل والإنفاق والاستهلاك، في عام 2017، أنفقت الأسر المصرية 4.5% من إجمالي إنفاقها السنوي على التعليم، موزعة كالتالي: حوالي 47% من النفقات كانت موجهة إلى مصاريف المدارس، الخاصة والحكومية، والكتب التعليمية، و38% للدروس الخصوصية، و15% إلى التكاليف المباشرة للتعليم مثل الزي الرسمي والمواصلات.

إضافة إلى ذلك، فإن الحكومة قد تبنت نموذجاً لتطوير التعليم يعتمد اعتماداً شبه كلي على التكنولوجيا، في محاولة جادة لتحسين جودة التعليم، رغم كل التحديات والعوائق القائمة، مثل بنية المدارس التحتية الضعيفة، وعدم استعداد وتأهيل المعلمين جيدا لاستخدام تلك التكنولوجيا.

يساهم الوضع الحالي إذن -في ظل الإنفاق الحكومي المحدود على التعليم، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة التعليم على الأسر، واتجاهات وزارة التربية والتعليم الحالية – في زيادة اللامساواة وعدم تكافؤ الفرص، حيث يعزز فكرة أن التعليم الجيد يقتصر فقط على من لديه القدرة المالية للحصول على الخدمة، رغم كونه حقاً دستورياً مكفولاً للجميع.

بخلاف العالم: الأغنياء ينفقون نسبة أكبر على التعليم

يشير العديد من الأبحاث العالمية إلى أن الأسر الأكثر فقراً تنفق على التعليم نسبة أكبر من إجمالي دخلها، مقارنة بالأسر ذات الدخل العالي؛ وذلك لإيمانهم أنه السبيل للترقي وبلوغ مستوى اجتماعي واقتصادي أفضل.

لكن مصر تنافي هذا الاتجاه، حيث تنفق الأسر الأكثر ثراءً على التعليم أكثر من ضعفي ما تنفقه الأسر الأفقر.

ففي ظل ارتفاع الأسعار وتزايد تكاليف الحياة الأساسية من مطعم ومسكن ورعاية صحية، أصبح الذهاب إلى المدرسة لفرد من الطبقة الدنيا رفاهية لا يمكن تحمل تكاليفها، خاصة أنها لا تؤدي إلى الترقي الاجتماعي والاقتصادي المطلوب، في ظل رداءة جودة التعليم الذي تذيل قائمة التنافسية العالمية في عام 2016.

ففي عام 2017، أنفقت شريحة الـ 10% الأغنى من السكان في مصر 10.1% من إجمالي نفقاتها السنوية على التعليم، مقارنة بـ 2.1% لشريحة الـ 10% الأفقر من السكان.

ويمكن إرجاع الفارق الكبير في الإنفاق – بشكل أساسي – إلى تباين الرسوم المدرسية تبعاً لنوع المدرسة التي يلتحق بها الطلاب، سواء أكانت مدرسة حكومية، خاصة، أو دولية.

المدارس الخاصة والحكومية: غياب تكافؤ الفرص

نظراً لضعف جودة التعليم الحكومي من حيث المناهج، وكثافة الفصول، وإمكانيات المدرسة من معامل ومكتبات وغيرها، تفضل الأسر الأغنى إدراج أطفالها في مدارس خاصة.

ازداد عدد المدارس الخاصة والطلاب الملتحقين بها بشكل ملحوظ خلال العقد الماضي. ففي العام الدراسي 2018/2019 شكلت المدارس الخاصة حوالي 17% من إجمالي المدارس الموجودة في مصر لتخدم 10% من جملة الطلاب المقيدين داخل المنظومة التعليمية.

ففي ظل أهداف مبادرة التعليم للجميع والأهداف الإنمائية للألفية، ازداد عدد الطلاب الملتحقين بالتعليم، ولكن تلك الزيادة الطلابية لم تماثلها زيادة في أعداد الفصول والمدارس الحكومية، حيث وصل متوسط كثافة الفصل للمرحلة الابتدائية إلى 51.43 طالب في العام الدراسي 2018/2019، بل يصل إلى 60 طالباً في بعض المناطق والمحافظات.

وعليه، فقد انعكس ذلك سلباً على جودة العملية التعليمية ومخرجاتها. في حين وصلت النسبة في المدارس الخاصة إلى 34 طالباً في المتوسط، وبالتالي ازدادت تنافسيتها.

صباح ومسا الفقير بيتنسى

على الصعيد الآخر، وفي محاولة لمواجهة ارتفاع معدلات الالتحاق بالتعليم،وبدلاً من التوسع في بناء الفصول والمدارس، تبنت الدولة سياسة عمل المدارس بنظام الفترات المدرسية.

في عام 2018، كانت حوالي 40% من المدارس الحكومية تعمل بنظام اليوم الكامل، في حين أن 52% منها كانت تعمل بنظام الفترات الصباحية، و4% كانت تعمل بنظام الفترة المسائية، و4% كانت تعمل بنظام الفترتين.

وبمقارنة سريعة بين إحصاءات عام 2018 ونظيرتها من عام 2006، يتبين أن نسبة المدارس التي تعمل بدوام كامل تراجعت من 45.6% في عام 2006 إلى 40% في عام 2018، لصالح زيادة في نسبة مدارس الفترات الصباحية والمسائية.

أسهمت أوضاع المدارس التي تعمل بنظام الفترات في تدهور العملية التعليمية وتردي مخرجات التعلم، نظراً لضغط جداول المعلمين، وقصر اليوم الدراسي، كما أنها أسهمت في ترسيخ التفاوت الاجتماعي في التعليم.

حيث أوضحت دراسة استخدمت بيانات مسح سوق العمل المصري في عام 2012، أن الطلاب الأكثر فقراً هم من يذهبون إلى المدارس التي تعمل بنظام الفترات. [1]

ومن الجدير بالذكر أن هناك علاقة وثيقة بين تسرب الطلبة من التعليم ونوعية المدرسة التي يلتحقون بها. ففي عام 2012، كان 35% من المتسربين يدرسون في مدارس تعمل بنظام الفترات. [1]

كما أن طفلاً من كل خمسة أطفال ينتمون إلى الشريحة الأشد فقراً يتسرب قبل أن يحصل على التعليم الإلزامي، فقد كانت التكلفة العالية للتعليم على الأسر هي السبب وراء حوالي 35% من حالات التسرب، في عام 2012. [1]

الدروس الخصوصية: لنزيد الطين بلة

لا تقتصر القدرة المالية للحصول على تعليم جيد فقط على تحمل نفقات الرسوم المدرسية. ففي ظل تدني جودة التعليم، وجمود المناهج الدراسية، بالإضافة إلى ضعف رواتب المدرسين، أصبحت الدروس الخصوصية جزءاً لا يتجزأ من العملية التعليمية في مصر.

تؤثر هذه الظاهرة سلباً على بيئة وطبيعة عملية التعليم والتعلم، وتؤدي إلى تفاقم عدم المساواة في تحصيل الطلاب العلمي، حيث «تؤدي الفروق في النفقات إلى فروق في مستوى التحصيل تظهر عند إكمال التعليم الأساسي» (OECD, 2015, p. 54). فبتحييد أثر الدروس الخصوصية، نجد أن الفجوات بين الطلاب في المرحلة الإعدادية – ذوي الخلفيات الاجتماعية المختلفة – قد قلت بنحو 13%.

وبالإضافة إلى عدم المساواة التي ترسخها هذه الظاهرة، فإن من الصعب قياس مستوى التعلم الحقيقي من الدروس الخصوصية، نظراً لأن معظم المعلمين هم مدرسون خصوصيون لطلابهم؛ وبالتالي، هم مسؤولون عن درجاتهم، ومن السهل أن يتحكموا بها.

من الجدير بالملاحظة أيضاً أن الأسر في الريف، حيث يقل تواجد المدارس الخاصة، تنفق على الدروس الخصوصية حوالي 46% من إجمالي نفقاتها على التعليم، مقابل 32% في الحضر.

التعليم كأداة حكومية لترسيخ اللامساواة

تتجه الحكومة اتجاهاً واضحاً إلى خصخصة التعليم، لإتاحة تعليم أفضل بكثافات طلابية أقل، تكون فيه اللغة الأجنبية هي اللغة الأولى للدراسة.

بدأ الطريق نحو الخصخصة المقننة بإنشاء المدارس التجريبية، التي تُدرِّس مناهج الوزارة بلغة أجنبية مقابل مصروفات أعلى، مقدمة بديلاً للتعليم الخاص باللغات الأجنبية.

ثم بدأت الحكومة في 2018 في إنشاء المدارس الحكومية الدولية التي تعمل بالنظام البريطاني بتكلفة أقل من التعليم الدولي الخاص. وحتى النموذج الياباني، الذي كان من المفترض أن يكون مجانياً، تجاوزت مصاريفه عشرة آلاف جنيه.

ورغم جدوى هذه النماذج المختلفة إلى حد ما، إلا أنها بالإضافة لجدل أهمية التعليم باللغة الأم، ترسخ مفهوم إتاحة تعليم جيد فقط لمن لديه القدرة المالية لتلقي الخدمة، في حين أن التعليم حق إنساني أساسي، يتوجب على الدولة إتاحته لجميع المواطنين على قدم المساواة.

ونظراً لزيادة التكاليف المباشرة للتعليم (مثل مصاريف المدارس ونفقات التنقل واللوازم المدرسية) وغير المباشرة له (كلفة الفرصة البديلة للوقت المدرسي، مثل الأجور والعمل المنزلي)، فإن الفئات الهشة هي أكثر الفئات تضرراً من الوضع الحالي للتعليم.

ففقر الأسرة في ظل العائد من عمالة الأطفال، إلى جانب ضعف برامج الحماية الاجتماعية، وزيادة تكاليف التعليم، يدفع أولياء الأمور للتقاعس عن تسجيل أطفالهم في المدرسة أو في السماح لهم بإكمال تعليمهم، إذ لا يرون فيه فائدة مرجوة لانتشال أبنائهم من دائرة الفقر.

وفي المقابل فإن رد الفعل الحكومي يعزز من صورة تحول التعليم إلى سلعة غير مجانية يقدر عليها الأغنياء فقط، متناسية أن الهدف الأسمى من التعليم ليس «الذهاب إلى المدرسة»، بل «التعلم الحقيقي» الذي يحقق عوائد قيمة للفرد والمجتمع، ويساهم في خلق روح المواطنة والإخاء والمساواة بين أفراده.

المراجع
  1. Elbadawy, A. (2014). Education in Egypt: Improvements in Attainment, Problems with Quality and Inequality. Cairo: Economic Research Forum. p 10-12