كان قويًا بما فيه الكفاية ليتفاءل في كل مرة يتشاءم فيها الجميع، لقد وُلِد مُتفائلًا بطبعه وسط سخرية الجميع من أبناء جيله ونظرات الشفقة من أجيال أكبر كانت على عِلم بشيء لم يكن يدركه وقتها.

معايشته لبعض الأحداث مثل هدف أبو تريكة في الصفاقسي أو عودة ليفربول التاريخية أمام ميلان في إسطنبول جعلت ذلك التفاؤل يصل إلى أقصى العداد، وجعلته يُوقن باللامُستحيل ولكنه لم يكن يدرك أنه دخل المنطقة التي يمكن أن تُصنف رابع المستحيلات، لم يكن يدرك أنه بدأ بالتفاؤل بالتأهل لكأس العالم.

قال لهم بأعلى صوته يومًا ما: ما المانع الآن؟، مُنتخبنا حامل لقب آخر نُسختين من كأس الأمم الإفريقية بأداء رائع. (نمتلك أفضل لاعب في أفريقيا ومجموعتنا ليست بالصعبة على الإطلاق، فالجزائر في طور البناء بعد سنوات الاختفاء وزامبيا ورواندا ليسا على الخريطة، سنتأهل).

لم يقتُل حلمَه التعادلُ المُخيّب أمام زامبيا في القاهرة ولا الهزيمة بثلاثية في الجزائر، ظل مؤمنًا بالمُستحيل وهو الفوز في 4 مباريات، اثنتين منهم خارج الأرض كي يضمن على الأقل مباراة فاصلة، كان يحلم وهو مُستيقظ بالتأهل وكان يرى في منامه مُنتخب مصر وهو يلتقط الصور التذكارية قبل مباريات المونديال.

فوز بشق الأنفس على رواندا بهدف ثم فوز بشبه معجزة من تسديدة لو تكررت مائة مرة لما سكنت الشباك على زامبيا، كُل تلك أمور فسرها هو بالعلامات التي تشير بأننا في طريقنا لجنوب أفريقيا.

لم يكن في باله سوى مباراة الجزائر في إستاد القاهرة مساء السبت الموافق 14/11/2009. صرخ بجنون وركض في الشارع كالأطفال فرحًا بتسجيل الهدف الثاني في الدقيقة 95 والذي يقود إلى مباراة فاصلة دون أن يعلم من سجله حتى. كان فرِحًا لدرجة لا تجعله يطيق الانتظار حتى يوم 18/11 ولكن في نهاية ذلك اليوم قرر عنتر يحيى أن يُسدد كرة لم تسكن شباك الحضري بل سكنت قلوب كل من شاهدها منا، كرة قتلت الحُلم الجميل داخله، كرة كادت أن تقتله.


بداية النصف حالة

عندما واجهت مصر الجزائر في كأس أمم أفريقيا 2010 ظلت أبواق الإعلام المصرية تُنادي بالثأر ممن حرمونا حلم المونديال، كذلك تحمست جموع الجماهير، لكنه هنا من شعر بأن سحق الجزائر لن يُحقق حلمنا الضائع ولن يمنعهم من السفر إلى أقصى جنوب القارة للمشاركة في كأس العالم.

وبالفعل عند الفوز برباعية نظيفة عليهم كان يبتسم ويضحك ويبدو كأنه سعيد، لكن عقله كان يرفض الاحتفال ويُذَكّرهُ دائمًا بأنه لن يُشاهد علم مصر في صيف ذلك العام.

تلك (النصف حالة) ما بين الفرح بانتصار والحزن على شيء مُرتبط به لم تنته مُنذ تلك اللحظة.


مأساة كوماسي

1 فبراير/شباط 2012 وقعت أكبر حادثة في تاريخ الرياضة المصرية، سقط 72 شابًا في مجزرة عُرِفَت بمجزرة بورسعيد في مباراة المصري والأهلي. بعد تلك الحادثة توقفت الكرة بمصر لمدة قاربت الموسمين، أصبح يشعر القلب بالخجل من مشاهدة الكرة مرة أخرى، أصبح تأنيب الضمير عادة بعد كل مباراة تُشاهدها وكأنك تُشاهد الضحايا في كل مشهد، وكأنك تسمع هتافهم في كل كلمة، النصف حالة في أبهى صورها.

ذرف الدمع يومها حُزنًا على من سقطوا غدرًا، وسقط قلبه معهم ولم يعد كما كان. لم يعد شيء قط كما كان؛ المدرجات خاوية، اللاعبون يحتفلون بخجل والجمهور يخجل حتى من المُشاهدة وهو يتذكر أصدقاءه في المقابر، مات القلب، ولكن تبقت نقطة بيضاء تنبُض بالأمل زادها حماس برادلي مدرب المنتخب الذي رفض الرحيل عن المنتخب رغم توقف النشاط الرياضي وقاده في تصفيات كأس العالم مُحققًا العلامة الكاملة 18 نقطة من 6 مباريات. كان أمرًا يقترب من المعجزة في ظل عدم وجود دوري عام أو لاعبين ينتظمون في التدريبات.

زاد احترامه لبرادلي لتحمله المسئولية في وقت كان ليهرب منها أعتى المُدربين، حتى آنت التصفيات النهائية وحكمت القرعة مواجهة غانا، هُنا تذكر قلبه التفاؤل وأحس أنها فُرصة لإحياء الحلم الميت بقدم ابن يحيى. جلس مع صديقه فجر أحد الأيام يضع تشكيلته للمنتخب ويتحدث عن أهمية الكرات الطولية من تريكة وغالي لوليد سليمان وصلاح وأن قلب دفاع غانا ضغيف، كانت فرصته الأخيرة.

لم يقم يومًا بترك مشاهدة مباراة لفريقه المُفضل مهما كانت الهزيمة قاسية، ولكن يومها وبعد الهدف الثالث ترك مجلسه ويئس لأول مرة من العودة في النتيجة.

الهزيمة بسداسية من غانا قتلت الجزء المُتبقي من قلبه، صورة تريكة وهو يبكي ويضع يده فوق رأس صلاح أصبحت كالكابوس الذي يُطارده كلما تذكر كرة القدم عمومًا.


غانا ومرة أخرى مُختلفة

بعد سُداسية 2013 انتهت علاقته بالمنتخب. ليس بسبب الهزيمة المُذِلة ولكن بسبب حلم جيل استمر لسنوات عديدة برؤية أبوتريكة وعماد وعمرو ووائل وأحمد حسن وفتحي ومعوض في كأس العالم تحطم في 90 دقيقة، دموع تريكة كانت قاتلة له.

أصبحت مباريات المُنتخب بالنسبة له حالة خاصة تمزج بين الإحباط وعدم الوثوق في اللاعبين نظرًا للتجارب السابقة، وبين حنينه لتشجيع بلاده. أصبح الأمر فاترًا ليس كما كان، وأدرك في داخله أن رابع الغول والعنقاء والخل الوفي هو صعود مصر لكأس العالم، لتكتمل الحالة عنده فهو لا يُريد أن يشتهي شيئًا هو يعلم أنه لن يكون من حظه.

بمجرد وقوع مصر مع غانا في التصفيات مرة أخرى وتذكر الجميع ما حدث في 2013 وأصبح الأمر أشبه بالتحدي الذي حدث عند مُلاقاة الجزائر في كأس الأمم بعدما حرمونا المونديال.

تأكد أنك في مصر عندما يتم التجهيز لمباراة في مجموعة في تصفيات كأس العالم وكأنها مُباراة نهائي كأس العالم نفسه، قناة فضائية تمنح أسبوعًا كاملًا لتحليل 90 دقيقة من مباراة كرة قدم.

تأكد أنك في مصر عندما يقود الإستوديو التحليلي عضو مجلس إدارة اتحاد كرة القدم الذي من المُفترَض أن يكون في خدمة المُنتخب، للأسف أحد المُحللين عضو مجلس إدارة أيضًا.

في مصر وفي مصر فقط يتم بث مُعسكر المُنتخب قبل مباراة تصفيات مباشرة على الهواء لمدة أيام واختراق المُعسكر من الصحفيين والإعلاميين وغيرهم في موقف شبهه كثيرون بأفراح المناطق الشعبية كأبهى صور تشتيت تركيز اللاعبين والمدرب وإذاعة تشكيلته قبل المباراة بيومين كاملين.

كتبت القناة الناقلة للمُباراة عنوانًا ليلة اللقاء (الليلة الكبيرة)، عنوان كهذا لمباراة وإن زادت أهميتها هي مجرد ثلاث نقاط لمُباراة ليست هي مباراة الحسم للصعود بل ويتبعها 4 مباريات، كل هذا الشحن والضغط ليتعجب مُعلق المُباراة من توتر اللاعبين في الملعب وكأنه لا يدري السبب!.


كوبر والكذبة التي يريد أن يصدقها الجميع

مُنتخب غانا الذي واجه مصر هو ليس سوى اسم غانا لكنه يفتقد الأداء الرائع واثنين من أهم لاعبيه برينس بواتينج وأسامواه جيان، ومع ذلك تحكم الغانيون في مجريات المباراة بشكل تام. قد يدَّعي البعض أن مُنتخب مصر بقيادة كوبر قد لجأ للدفاع كوسيلة لمواجهة مُنتخب ذي سمعة ولكن هذا غير صحيح، فما حدث في المباراة ليس له علاقة بالدفاع.

الدفاع هو أن تمنع الخصم من أن يصل لمنطقتك ولكن ماحدث هو ضغط غاني أمامي وعزل وسط الملعب عن الهجوم واللعب في مناطق مصر. الشق الثاني من اللعب بتحفظ دفاعي هو أن تلعب بخطة ارتداد هجومي وهو ما لم يفعله مُنتخب مصر بأي حال من الأحوال، فالهدف الأول من ضربة جزاء أتت من مجهود فردي من تريزيجيه والهدف الثاني من مهارة فردية من عبد الله السعيد الذي كان سيئًا طوال المُباراة.

الأرقام تُؤكد ما سبق، فقد عانى مُنتخب مصر في إخراج الكرة للأمام، فنسبة تمريرات عبد الله السعيد صانع الألعاب الصحيحة 69% فقط (نسبة ضعيفة).

كذلك تألق حجازي وفتحي في مواجهة الضغط الغاني فاسترجع الأول 8 كرات مقابل 11 للثاني، ولكن فتحي لم يستطع المشاركة في أي هجمة!

المقصد أن المُنتخب فاز ولكن على كوبر الحذر لأن الأداء ليس على المستوى، كما أن محمد صلاح صار فريسة سهلة للخصوم نتيجة كثرة الاعتماد عليه.


النصف حالة للمرة الثانية

أثناء فوز المُنتخب بتلك المباراة وإبعاد أكبر مُنافس في المجموعة عن المركز الأول واقتراب الحلم، يُصاب ذلك الذي مات قلبه كُليًا بعد كارثة بورسعيد ومأساة كوماسي بتلك النصف حالة، نصف أو أقل يفرح ولكن بخجل أو بدافع من ضميره الذي يُجبره على الفرحة والنصف الآخر الذي لا يريد أن يفرح بسبب عِلمه بأن هناك لعنة ستُصيب المُنتخب في وقت ما تمنعه من الوصول لهدفه أو لشعوره بأنه لا يُوجد عدل في هذا العالم الذي يمنع أبو تريكة ورفاقه من حضور المونديال وصعود من هم أقل فنيًا وقيمة عند الجُمهور بكل المقاييس.

قد يُفسر البعض تلك الحالة بالعُقدة أو الخلل النفسي ولكنها أشبه بقصص السينما التي يصل فيها المُنقذ مُتأخرًا ولا يستطيع إنقاذ جميع الضحايا، فيحزن المشاهدون لفقدان بعضهم ويفرحون لنجاة الباقين.

كذلك هو الحال مع مُنتخب مصر الذي يُقرر دائمًا أن يختلس جزءًا من فرحتك.