مع اشتعال فتيل الحرب في أوروبا عام 1914 بين جيوش «الحلفاء» و«المحور» أعلنت بريطانيا الحماية على مصر وتحويلها إلى سلطنة بتعيين السلطان حسين كامل محل الخديوِ عباس حلمي الثاني، منهية بذلك ارتباط مصر بالدولة العثمانية المنتمية لتحالف المحور ضد قوات الحلفاء بقيادة بريطانيا.

انتهت الحرب بانتصار الحلفاء بعد قبول ألمانيا الهدنة في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، وسقطت بذلك مبررات الاحتلال البريطاني لاستمرار الحماية، أو الأحكام العرفية التي كان قد أقرها مع الزحف العثماني تجاه مصر عند بداية الحرب (خوفًا من تعاطف مصري تجاه العثمانيين، وهو الشيء الذي لم يحدث).

بالفعل، لم يمر يومان على انتهاء الحرب رسميًّا حتى قابل وفد مصري من ثلاثة أشخاص هم: سعد زغلول باشا (وكيل الجمعية التشريعية)، وعبد العزيز بك فهمي، وعلي باشا شعراوي، مندوب الحكومة البريطانية في مصر السير ريجنالد ونجت لمطالبته بإنهاء الحماية والأحكام العرفية، وإلغاء الرقابة على الصحف، وإعلان الاستقلال، اعتمادًا على وعود قدمتها بريطانيا أثناء الحرب بإنهاء الوصاية، بل بمراجعة نظام الامتيازات الأجنبية. لكن مطالب الوفد رُفضت بحجج مثل عدم ضرورة التسرع في ذلك لعدم أهلية المصريين للحكم أو أميتهم، مع تقليل المندوب من شأن تمثيل الوفد الثلاثي للشعب المصري وصحته.

كان رد فعل الثلاثة تشكيل هيئة «الوفد المصري» وجمع التوكيلات لإرغام الاحتلال على الاعتراف بهم ممثلًا عن الشعب المصري، ومن ثَم طلب السفر إلى لندن لعرض مطالبه على الحكومة البريطانية (في ذلك الوقت كان على رئيس الوزراء المصري أخذ موافقة بالسفر من سلطة الاحتلال).

مع الإعلان عن عقد «مؤتمر باريس للصلح» بين دول الحلفاء لاقتسام النفوذ في 18 يناير/كانون الثاني 1919 طلب الوفد السماح له بالسفر إلى باريس لعرض المطالب نفسها على الدول المنتصرة، ومن بينها الولايات المتحدة الأمريكية التي أعلن رئيسها وودرو ويلسون في العام السابق 14 مبدأً، شملت حق الشعوب في تقرير مصيرها. ظن الوفد أن باستطاعته إقناع الحلفاء بفض الحماية البريطانية على مصر، والضغط لأجل إعلان استقلالها استنادًا أيضًا إلى مبدأ الرئيس ولسن.


وهم تناقضات المستعمرين

كان جهد البرجوازية المصرية الوطني ضد الاستعمار منذ البداية مركزًا داخل «الإطار القانوني والدبلوماسي» للتفاوض مع الاستعمار، منقسمة في ذلك إلى جناحين: أولهما بلغ ذروة نشاطه قبل الحرب، وتمثل في «الحزب الوطني» الذي دعا منذ نشأته إلى «تدويل» المسألة المصرية، وقد قامت خطة مؤسسه مصطفى كامل على استغلال أحد أطراف الاستعمار (فرنسا وألمانيا الناشطتين في أفريقيا) ضد بريطانيا، واستغلال التناقضات وتضارب المصالح فيما بينها من أجل كسب استقلال مصر، كما مال هذا الجناج إلى فكرة الجامعة الإسلامية وانتماء مصر للدولة العثمانية.

كان كامل أحد أبناء الطليعة القانونية من محاميي البرجوازية الصغيرة (الذين قدموا من خلفية متوسطة في الريف)، وهم الذين شكلوا نواة الحياة الحزبية والصحافية في مصر في ذلك الوقت، كما كان أكثرهم من تلامذة الأزهر الذين عاصروا الثورة العرابية وتأثروا بأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وقد ترقى الصبي الريفي ابن ضابط الجيش في التعليم حتى التحق بالأزهر إلى أن تمكن من دراسة الحقوق بفرنسا.

الزعيم المصري «مصطفى كامل»

لكن توجه هذا الجناح أثبت فشله أخيرًا إبان توقيع الميثاق الودي بين بريطانيا وفرنسا في 1904، الذي منح فرنسا حرية التصرف في المغرب في مقابل حرية مماثلة لبريطانيا على مصر، حيث أثبتت هذه الاتفاقية قدرة الدول الاستعمارية على تحقيق أُطر متزنة فيما بينها للسيطرة والاحتكار، وأن مصالحها الإمبريالية أقدر على ترويض التناقضات فيما بينها لتحول دون استغلالها من جانب المستعمرات.

كان توقف الواردات أثناء الحرب قد ساهم في غرس بذور جناح آخر داخل البرجوازية المصرية هو الجناح الصناعي، لكنه ظل معتمدًا على الفائض الزراعي دون الفائض الصناعي الذي أعاقته الاحتكارات والامتيازات الأجنبية، حيث كانت مصر ساحة للصراع الاستعماري منذ حملة نابليون الفرنسية في 1798، ثم حملة فريزر البريطانية في 1807، وهكذا ظل وضع مصر كمنتج للمواد الخام، وطريق تجاري، وأيضًا كسوق (للصناعة الأوروبية الناشئة) متنازعًا عليه حتى ستينيات القرن 19 حين بدأ رأس المال الأوروبي في التوجه بكثافة لتصدير الفائض، وهي نفس الفترة التي بدأت مصر فيها الاستدانة بكثافة بيد الخديو إسماعيل.


ثورة 19 وصعود الوفد

بدأ الوفد ممثل هذا الجناح الثاني للبرجوزاية المصرية يكتسب زعامة الحركة الوطنية بعد الحرب منذ بداية جمع التوكيلات وحتى إلقاء القبض على أعضاء الوفد، سعد باشا زغلول و7 من رفاقه، ثم نفيهم إلى مالطا في 8 مارس/آذار 1919. كانت سلطة الاحتلال قد استمرت في رفضها السماح للوفد بالسفر إلى مؤتمر الصلح، وقد أزعجتها النشاطات الجماهيرية لسعد ومجموعته، ودعايتهم ضد الاحتلال ليتم القبض عليهم بعد رفضهم تحذير الميجر واتسن، قائد قوات الاحتلال في مصر، بفرض الأحكام العرفية. ثارت القاهرة في اليوم التالي عقب وصول خبر النفي مباشرة، وانتشرت الثورة في جميع أنحاء مصر.

انقسمت الثورة إلى مرحلتين: الأولى من مارس/آذار إلى أبريل/نيسان، واتسمت باشتراك الفلاحين كعنصر أساسي للحراك، وظهور الحكومات المستقلة عن سلطة الاحتلال كحكومة مركز زفتى بالغربية الذي أعلنه المحامي يوسف الجندي جمهورية مستقلة، لها لجنة وطنية لإدراتها سميت «لجنة الثورة»، كان شعارها الثورة من أجل الخبز والحرية والاستقلال، قبل أن تحاصرها قوات أسترالية، وإعلان فضها بعد اتفاق بتسليم 20 من الأهالي «لجلدهم»، فما كان من اللجنة إلا أن سلمت الوشاة وعملاء الاحتلال إلى المحتل كي يجلدهم بيديه.

اتسمت تلك المرحلة كذلك بـ «العنف» الجماهيري المتمثل في التجمعات الكبيرة التي أرادت في البداية تظاهرًا سلميًّا، ثم اضطرت للدفاع عن نفسها أمام قمع قوات الاحتلال معتمدة على كتلتها العددية الكبيرة، وقد مارست تخريبًا للملكيات الأجنبية، وهاجمت منشآت لقوات الاحتلال، كما قاومت قمعًا محليًّا تم بواسطة بعض مديري مديريات ومراكز مصريين في أماكن كالبحيرة والغربية وأسيوط.

كما شملت المرحلة الأولى إضرابات واسعة لعمال النقل، والمحامين، وأخيرًا الموظفين، لتشعر الإدارة البريطانية بالشلل إزاء توقف حركة النقل، والقضاء (الأهلي والشرعي)، والجهاز الحكومي، إلى جانب إضراب الطلاب الذين تسبب إضرابهم في كلية الحقوق يوم 9 مارس/آذار في إشعال فتيل الثورة.

تظاهرات ثورة 1919 ترفع شعار الهلال والصليب

وقد تحرك الفلاحون (بصورة غير متوقعة من قبل سلطة الاحتلال)، وقاموا بتخريب السكك الحديدية، وأعمدة التلغراف، والتليفون، بغرض ضرب قدرة الاحتلال على الاتصال ومستوى سيطرته على طول البلاد، كما هاجموا القطارات التي أرسلها لإصلاح السكك، وقاموا بحفر الخنادق في الطرق الزراعية لتعطيل سيارات قوات الاحتلال، من ثم هاجموا المديريات للاستيلاء عليها باعتبارها ممثلًا سياسيًّا لسلطة البريطانيين (أو المتعاونين معهم).

كما هاجموا ملكيات الأجانب والإقطاعيين المصريين، من بينهم في أسيوط كان محمود باشا سليمان، والد محمد محمود باشا عضو الوفد المصري، وعندما سُئلوا كيف يهاجمون ممتلكات الباشا وابنه عضو في الوفد المصري، أجابوا بأن الباشا لم يوزع عليهم العيش وهم جوعى.

أُفرج عن سعد ورفاقه في أبريل/نيسان، لتبدأ المرحلة الثانية من الثورة ويذهب سعد ورفاقه إلى باريس ليفاجأوا بأن المؤتمر قد أقر بالإجماع (بما في ذلك الولايات المتحدة) الحماية البريطانية على مصر.


وهم ضمير المستعمر

اتفق الوفد مع الحزب الوطني على «الإطار القانوني»، لكن الوفد مال أكثر ناحية التفاوض المباشر مع بريطانيا، أي الجلاء بوصفه «مناظرة عقلية» تقودها الحجة والإقناع ووعود بريطانيا بالاستقلال، حيث يمكن إحراجها أمام نفسها والعالم، وفضح ممارسات وسوء الإدارة البريطانية لمصر، واعتبار استقلالها تطبيقًا لمبادئ الحرية والعدل «التي تحمل رايتها بريطانيا العظمى»، لكن الجناح التقدمي للحزب بقيادة سعد زغلول مال بمرور الوقت ناحية «تدويل» المسألة المصرية.

انقسم حزب الوفد إلى تيارين: يمين محافظ، أقرب لقيم وارتباطات البرجوازية الزراعية، يتشكك في الجماهير بشكل مطلق، وعلى استعداد للتفاوض مع بريطانيا دون ظهير شعبي، وتحت أقل الشروط؛ وجناح تقدمي، أقرب للجماهير، وإن لم يثق تمامًا في اندفاعاتها، لكنه فضل الاعتماد عليها؛ أولًا: لأن مطالبه كانت أكثر راديكالية من التيار الأول، وبالتالي فقد احتاج إلى قاعدة شعبية تدعم توجهاته الأكثر مدينية وليبرالية، وثانيًا: لأن زعيمه سعد زغلول رأى أن مستقبله السياسي يتوقف على رضا الجماهير؛ رضا كان مشروطًا بوضوح بعد الثورة بعدم قبول أي تسوية في إطار الحماية البريطانية (حتى وإن قبل سعد ذلك الإطار خلال مرحلة ما قبل الثورة)، وقد انتشرت النقابات الوفدية على طول البلاد عقب الثورة.

وقد يصح القول بأن راديكالية ذلك الجناح تأسست منذ البداية على القاعدة الجماهيرية بالأساس، وحول شخصية سعد زغلول نفسه باعتباره ممثلًا لنفس الطليعة التي انتمى إليها مصطفى كامل، وقد شارك سعد بالثورة العرابية وفُصل من عمله بالحكومة على أثر ذلك، كما تتلمذ مباشرة على يد محمد عبده وعمل معه في صحيفة الوقائع المصرية.

سيقود هذا الجناح فيما بعد ما يسمى «الحقبة الليبرالية في مصر»، وقد تبنى قيمًا دستورية أقرب للبرجوازية الإنجليزية، وابتعد عن الحزب الوطني الذي برغم راديكاليته الواضحة تجاه الاحتلال، كان أقرب للدولة العثمانية وللمحافظة الاجتماعية والارتباطات الريفية، بينما مال الوفد تدريجيًّا (بحكم تدرج أعضائه وكوادره داخل الجهاز البيروقراطي للدولة وتشكيل الحزب للوزارة في 1924) إلى الشريحة الصناعية والتجارية الناشئة عقب الحر ب (حتى وإن لم تمل تلك الشريحة جذريًّا إلى قيم أكثر مدينية وحداثة لعدة أسباب من بينها اعتمادها على الفائض الزراعي).

هذا وقد انتشرت النقابات الوفدية على طول البلاد وعرضها عقب الثورة لتؤكد جماهيرية وسيطرة خطاب وتوجه الوفد في مسألة الاستقلال، وتؤكد في المقابل اعتماد سعد على الجماهير في مواجهة الجناح المحافظ للحزب، وفي مواجهة بريطانيا كذلك، حيث كان سعد (بمطالبته باستقلال سياسي دستوري وقانوني تام، وتراثه النضالي منذ عهد الثورة العرابية) مكروهًا بشدة إلى حد سيصفه فيما بعد رئيس الوزراء لويد جورج بأنه «رجل لا يُحتمل».

سعد زغلول رفقة عدد من قيادات الوفد المصري

عكس هذا الانقسام الأكبر داخل البرجوازية عقب الثورة إلى سعديين وعدليين (وهم أتباع عدلي يكن، رئيس حزب «الأحرار الدستوريين» ورئيس الوزراء حينئذ)؛ الانقسام الذي اتضح عند عرض الحكومة البريطانية التفاوض بناء على مقترحات «لجنة ملنر» التي شكَّلتها سلطة الاحتلال لدراسة أسباب الثورة.

كانت حملة الوفد لمقاطعة اللجنة قد نجحت نجاحًا باهرًا، وترتب عليها نفي سعد زغلول (الذي تراجع عن مفاوضة ملنر احتياطًا لردة فعل الجماهير) للمرة الثانية إلى جزيرة سيشل تمهيدًا لإعلان نتيجة التفاوض مع عدلي ومجموعته.

كانت النتيجة هي تصريح بريطانيا (من طرف واحد) في فبراير/شباط 1922 الذي ألغى الحماية والأحكام العرفية، لكنه حافظ على «حق» بريطانيا في تأمين مواصلاتها إلى الهند، والدفاع عن مصر ضد الاعتداءات الخارجية، وحماية المصالح الأجنبية والأقليات، وأخيرًا حق التصرف في السودان، ما كان يعني استمرار الاحتلال ومنع تكوين جيش مصري، واستمرار الرقابة المالية عن طريق المستشار البريطاني لوزارة المالية.


قدر اليعاقبة

سعد زغلول, ثورة 1919, حزب الوفد

هذا الانقسام داخل البرجوازية على مستوى الوفد، ثم على مستوى الأمة، شرحه ملنر في تقريره عن الثورة بأنه كان نتيجة لتعنت السياسة البريطانية منذ البداية؛ التعنت الذي تمثل في رفضها بعض المطالب المتواضعة، أي إن ذلك الانقسام لم يكن نتيجة طبيعية لمسار البرجوازية المصرية أو لرغبة أصيلة لدى جناحها التقدمي في تجذير مطالبه. بالعكس، فقد كانت البرجوازية بجناحيها ضعيفة وذات سقف طموح محدود، رغم سطوتها في فرض نفسها كممثل أوحد للوطنية المصرية.

كانت البرجوازية المصرية منذ نشأتها برجوازية تجارية مفتقدة للتخصص بصورة كبيرة، ما رهن وجودها (حتى خلال أفضل أحوالها الصناعية) بمجال عملها الرئيسي، وهو عمليات الوساطة التجارية (السمسرة) المتمثل في تخزين السلع الواردة، والتربح من توزيعها على السوق المصري أو إعادة تصديرها، لذا فقد كانت مرتبطة دومًا (تابعة) بالسوق العالمي بطريق الوساطة والسمسرة، ما شكل طابعها المتمثل في انعدام أي رؤية استراتيجية (مستقلة) لفك الارتباط مع أي طبقة أخرى سائدة من أجل حيازة السلطة منفردة.

كان أقصى طموح البرجوازية المصرية هو تعديل شروط التحالف مع هذه الطبقة أو تلك، ما دفعها دومًا لكبح الجماهير خلال أي نشاط ثوري، وذلك لخوفها من استفزاز الاستعمار مما سيلحق الخسائر بارتباطاتها التجارية الدولية (الطفيلية)، وأيضًا خوفها من حصول الجماهير على مكاسب اقتصادية وسياسية مستقلة عن مشروعها «محدود الطموح»، قد تصل إلى حد المطالبة بإعلان الجمهورية.

سعد زغلول مع عدد من قيادات حزب الوفد

كان الحل دائمًا بعيدًا عن جماهير الشعب المصري التي لم يتم حشدها كرأس حربة لنيل الاستقلال، وإنما تم استغلالها فقط كـ «فزاعة» لكسب بعض المطالب المحدودة. كما أن سوء حظ تلك البرجوازية قد جاء بثورتها في وقت كان معسكرها العالمي، أي البرجوازية الأوروبية، والمنوط بها دعم البرجوازيات المحلية، قد تحولت من مرحلة التحرر إلى مرحلة الاحتكار والإمبريالية، لذا فقد خسرت دعم معسكرها منذ البداية، لكنها استمرت في الاعتماد عليه دون أن تلتفت إلى أي تحركات أوروبية داخلية مناهضة للاستعمار كي تتحالف معها.

لقد سعت البرجوازية المصرية في كل هبة ثورية لتأطير وتحجيم الحراك الشعبي الذي لم ترد له أن ينشط بغير إذنها. فحينما أضرب طلبة الحقوق في صباح 9 مارس/آذار بغير علم من قيادات الوفد، وأرسلوا إلى بيت الأمة للسؤال عما إذا كان ذلك متفقًا مع خطة الحزب، أجابهم عبد العزيز فهمي (أحد ثلاثي الوفد الأوائل)بألا يزيدوا النار اشتعالًا، وأنه ينبغي العمل في هدوء.

وعمومًا، لم يكن رفض البرجوازية لـ «العنف الجماهيري» في 1919 بهدف توعيته وتنظيمه لإنهاء المساومة وإجلاء بريطانيا (المنهكة من الحرب العالمية الأولى) بدون شروط، ولكن بهدف تحسين شروط المساومة. لقد كانت حدود وعيها مرتبطة بمصالحها الضيقة المتمثلة في مشاركة السلطة وليس حيازتها كاملة.

كان قبول السير ريجنالد ونجت بعودة الزعماء من مالطا مستندًا إلى كون مطالبهم «غير عصية على المساومة»، في حين أن استمرار الحراك الشعبي في الشارع كان يهدد بتجذير أكبر لمطالب الزعماء. وهو ما حدث بالفعل، حيث مَثَّل سعد زغلول بعد عودته من المنفى الجناح «التقدمي» أو «اليعقوبي» داخل البرجوزاية، وهو الأكثر ليبرالية وقربًا من البرجوازية الصناعية الناشئة.

وحيث استمر ذلك الجناح في إطلاق الجماهير بدرجات متفاوتة تتناسب مع الدرجة التي وصلت إليها بريطانيا من المساومة التي استغلتها بريطانيا منذ صدور تصريح فبراير (الذي وصفه سعد بالكارثة القومية لأنه يحول بريطانيا من مركز الغاصب إلى المشرع)، في جمع أجنحة البرجوازية المختلفة إلى صفها، واستمرت في ذلك حتى دستور 1923 (الذي رفض سعد كتابته إلا من قبل جمعية منتخبة) وبرلمان 1924 ذي الأغلبية الوفدية، والذي مكن سعد من تشكيل الوزارة.

تحول الوفد لموقف المدافع عن دستور 23، وقد أتاحت تلك الظروف (حيث لم تتخل البرجوازية عن المساومة واستمرار عجزها عن رؤية الجماهير كمفتاح لحل المسألة برمتها) بقاء سلطات الاحتلال، ونجاحها في استيعاب الجناح «اليعقوبي» للبرجوازية بالتلويح بإقصائه عن موقع الشريك في السلطة إن لم يتخلَّ عن ضغط «الغوغاء» ومطالبهم.