في الوقت الذي لا يمكن أن تجد فيه شخصًا يُصرِّح بِاسم أُمه، كانت مصر كلها تعرف أمه شخصيًا، وليس اسمها فقط.

الابن هو الأديب الكبير «إحسان عبد القدوس»- أو سانو كما كانت تناديه أمه- والأم هي السيدة «فاطمة اليوسف»- أو روزا كما كان يناديها الجميع- صاحبة مجلة «روز اليوسف»، بل يمكن أن تقول إنها المجلة ذاتها.

علاقة فاطمة وإحسان لم تكن مجرد علاقة ابن بأمه، فلهذه العلاقة وجوه كثيرة جدًا؛ فرغم حب إحسان الشديد لأمه تمنَّى ألا تكون زوجته مثلها، ورفض أن يكتب قصة حياتها للسينما رغم كثرة الإغراءات التي عُرضت عليه، وتزوج دون علمها، فلم تحضر فرح ابنها الوحيد.

أما فاطمة فرغم أنها تضع ابنها في عليين قلبها فكانت لا تجلس معه إلا في أوقات فراغها القليلة، وأحضرت له مُرضعة، وتركته لعمته تتولى رعايته، وكانت تجلس في المجلة أكثر من جلوسها بجواره، ولم تجتهد الأم في البحث عن اسم لابنها، فقد قررت قبل أن يولد أن يحمل اسم واحدة من صديقاتها اسمها إحسان.

روز اليوسف بصحبة ابنها إحسان عبدالقدوس

لماذا لا أُصدر مجلة؟

وُلِد إحسان قبل شهرين وثمانية أيام من ثورة 1919، فوجد أن المسرح يُقاسمه حب أمه التي ظلت تقف على خشبته طوال فترة حملها، بل إنها بمجرد أن استعادت عافيتها بعد أن وضعت مولدها، عادت إلى المسرح مرة أخرى، وأحضرت لابنها مُرضعة تسهر على رعايته، لكنها اضطرت أن تبقى بجواره 35 يومًا حين مرضت تلك المرضعة، وأخبرها الطبيب أن الابن بحاجة إلى رعايتها.

وحين اطمأنت فاطمة أن إحسان بخير، عادت إلى المسرح، وخاضت واحدة من أكبر معاركها الفنية مع الفنان الكبير «يوسف وهبي»، وقررت أن تعتزل الفن، وهجرت خشبة المسرح إلى الأبد؛ لكنها لم تعتزل الشغف.

فقررت أن يسمع «يوسف وهبي» اسمها يتردد فى كل مكان، وما كان يتحقق لها ذلك إلا إذا أطلقت اسمها على مجلة فنية ينادي عليها باعة الصحف «اقرأ روزاليوسف»؛ لكن ربما لم يخطر ببالها أن باعة الصحف سيظلّون يُنادون عليها حتى اليوم وأن اسمها سيصل إلى مسامع أحفاد يوسف وهبي!

وهنا بدأت قصة أخرى

ففي أحد أيام شهر أغسطس عام 1925 كانت «فاطمة اليوسف» تجلس في وسط مدينة القاهرة بمحل حلوانى يُدعى «كسَّاب»، وتتحدث مع بعض أصدقائها عن حال الفن، وتطرق الحديث إلى حاجة السوق الصحفية إلى صحافة فنية محترمة، ونقد فني سليم يساهم في النهوض بالحياة الفنية، ويقف في وجه موجة المجلات التي تعيش على حساب الفن كالنباتات الطفيلية- على حد تعبير فاطمة اليوسف- وفجأة لمعت في رأسها فكرة، توقفت عندها بُرهة، ثم قالت لأصدقائها: لماذا لا أُصدر مجلة فنية؟

واتخذت القرار، وخلال أسبوع واحد فقط حصلت على الترخيص.

وقبل أن يتم إحسان عامه السابع، كانت أمه «روز اليوسف» قامت بتأسيس مجلة تحمل اسمها، وخرجت المجلة من المطبعة فى يوم الإثنين السادس والعشرين من أكتوبر، وشارك فيها عددٌ كبيرٌ من كبار الكتاب، والشعراء، والفنانين من بينهم: إبراهيم عبد القادر المازني، أحمد رامي، وزكي طليمات، وعبد الوارث عسر، ومحمد التابعي.

خلوها تاكل عيش

كبر إحسان، وكبرت مجلة «روز اليوسف»، وصار إحسان بمثابة الشقيق الأكبر للمجلة التي تشاركه قلب أمه فاطمة.

فعندما ترتفع درجة حرارة إحسان تبقى أمه بجواره، وحين تنخفض مبيعات المجلة تتفرَّغ فاطمة لها في محاولة البحث عن طريقة لمواصلة الصعود.

فحين كانت مبيعات المجلة ثلاثة آلاف نسخة فقط، قضت فاطمة ساعات طويلة بصحبة زوجها الثاني زكي طليمات (بعد أن انفصلت عن زوجها الأول محمد عبد القدوس)، ومحررها الأول محمد التابعي حتى استقروا على تغيير السياسة التحريرية، فبدلًا من أن تكون مجلة فنية ثقافية تستهدف النخبة وحدهم تكون مجلة فنية شبابية تشبه اسمها.

ونجحت الخطة، وارتفع التوزيع إلى تسعة آلاف نسخة، لكن هذا النجاح لم يكن مُرضيًا للسيدة فاطمة اليوسف.

روز اليوسف بصحبة طفليها غير الشقيقين طفليها أمل طليمات (يسار) وإحسان عبد القدوس (يمين)

وقبل أن يدخل إحسان عامه العاشر، قررت فاطمة أن تصبح مجلتها سياسية (ولم يكن يعلم إحسان وقتها أنه سيدفع ثمن هذا القرار حين يكبر) ولكن الجهات المعنية رفضت طلبها.

فذهبت فاطمة إلى رئيس الوزراء أحمد زيوار باشا، واحتجت على قرار المنْع، فابتسم «زيور» باشا، وقال: «اعطوها الترخيص.. خلوها تاكل عيش»، وانصرفت والترخيص فى جيبها.

ولم تنصرف فاطمة إلى بيتها بل انصرفت إلى المجلة، وصارت لا تغادرها إلا للنوم فقط، وتركت ابنها إحسان لعمته «نعمات» تتولى رعايته.

عاش إحسان سنوات طفولته بين بيت جده العالم الأزهري الشيخ «رضوان» الذي غضب على ابنه «محمد» لأنه تزوج من ممثلة، وبين بيت والدته الفنانة وصانعة الصحف «فاطمة اليوسف» التي يُعد بيتها بمثابة صالون ثقافي يزوره كبار الشعراء، والأدباء، والفنانين، والسياسيين أيضًا.

كان الانتقال بين هذين النقيضين يصيب الطفل الصغير بـ«الدوار الذهني»- على حد تعبيره- لكنه دربه على ثقافة الاختلاف، قبل أن يعرف معنى تلك الكلمة.

ومرت السنوات، وإحسان ينتقل بين بيت أمه، وبيت جده حتى كبر، وصار شابًا، وذهب إحسان إلى كلية الحقوق، وبدأ يتدرب في مجلة روز اليوسف، وبمجرد أن أنهى دراسته ظن أنه قد صار رئيسًا لتحرير المجلة، وعلى أمه أن تستريح، وتُفسح له الطريق.

لكن فاطمة فاجأت إحسان بأنه ليس مؤهلًا لتلك المهمة الصعبة جدًا، وأن عليه أن يتعلم أولًا أصول الصحافة، ويجلس على بلاط صاحبة الجلالة لعله يصلح لهذا المنصب في يوم من الأيام.

السجن طريقك لرئاسة التحرير

وفي التاسع من أغسطس عام 1945 نشرت مجلة «روز اليوسف» مقالًا للصحفي الشاب «إحسان عبد القدوس» يهاجم فيه السفير البريطاني بعنوان: «الرجل الذي يجب أن يذهب».

وجاء في التفاصيل: «من حق إنجلترا أن تتمسك بفخامة اللورد «كيلرن» سفيرًا لها في مصر، ولكن من حق مصر أيضًا أن تطالب بسحبه من منصبه، وإبداله بغيره، فقد فشل في مهمته كسفير لبلده لدى بلد آخر مستقل له سيادة».

وواصل إحسان حديثه عن السفير البريطاني قائلًا: «أعطى لنفسه حقوقًا فاقت حقوق المندوب السامي في بلد مستعمر؛ فالرجل الذي اقتحم قصر عابدين على رأس فرقة من الدبابات ليس سفيرًا، ولا مندوبًا ساميًا، إنما هو قائد جيش معتدٍ».

وقبل أن يخرج عدد مجلة «روز اليوسف» الذي يحوي هذا المقال، صدر قرار من رئيس الحكومة «محمود فهمي النقراشي» بمصادرته، لأنه يتضمن عيبًا في سعادة سفير بريطانيا.

ولم يتم الاكتفاء بمصادرة العدد، لكن صدر قرار بالقبض على «إحسان عبد القدوس»، ووضعه في السجن بدعوى أن المقال تسبب في إفساد العلاقات بين مصر وبريطانيا.

ومرت شهور، وخرج إحسان من السجن، وقالت له والدته: «إن كل رؤساء تحرير الصحف قد تعرضوا للسجن، وما دمت قد سُجنت، فإنك بذلك تكون قد قدمت أوراق اعتمادك لرئاسة التحرير».

ووقعت «فاطمة اليوسف» قرار تعيين «إحسان عبد القدوس» لرئاسة تحرير «روز اليوسف»، ولم يكن قد أتم عامه السابع والعشرين.

بعد هذا القرار أخذت علاقة فاطمة وإحسان مسارًا آخر.

أدرك إحسان أن أمه ليست السيدة التي تجلس في البيت لتُحضِّر له الطعام، وتدعو له، وتنتظر عودته من عمله، بل هي خُلقت لتقف في الصفوف الأولى تقذف الساسة بالحجارة في أبراجهم العاجية، وتسخر منهم، وتتحمَّل قصف مدافعهم.

كانت فاطمة هي المدرسة التي تعلم فيها إحسان سر صنعة الصحافة، وكواليس الحُكم، وكيف يكون الأقدر على التعبير عن أحاسيس المرأة، وما يريده القراء رغم أن البعض ادّعى أنها لم تكن تجيد القراءة والكتابة؛ لكني حين اتصلت بحفيدها محمد عبد القدوس نفى ذلك، وأكد أنها كانت تكتب مقالاتها بنفسها، لكن سواء كانت تفعل ذلك أو لا تفعله، ففي الحالتين المقال يحمل اسمها، وهي وحدها من تدفع ثمنه راضية.

فلم تكن مقالاتها مجرد حِبر على ورق، لكنها كانت بمثابة طلقات رصاص تخرج من فوهة بندقية قناص محترف يرى بدقة الهدف الذي يريد أن يصوب عليه، ويصيبه.

فحين قامت ثورة يوليو لم تغض فاطمة الطرف عن أخطائها، ولم تلتفت إلى أن جمال عبد الناصر هو صديق ابنها إحسان، بل كتبت خطابًا عنيفًا إلى عبد الناصر قالت فيه: «إنك بحاجة إلى الخِلاف تمامًا كحاجتك إلى الاتحاد، إن كل مجتمع سليم يقوم على هذين العنصرين معًا، ولا يستغني بأحدهما عن الآخر، وأنت تؤمن بهذا كله لا شك في ذلك، وقد قرأتُ لك غير بعيد حديثًا تطالب فيه بالنقد، وبالآراء الحرة النزيهة، ولو خالفَتْك، ولكن أتعتقد أن الرأي يمكن أن يكون حُرًا حقًا وعلى الفكر قيود؟».

وواصلت فاطمة حديثها قائلة: «لا تُصدق ما يقال من أن الحرية شيء يباح في وقت، ولا يباح في وقت آخر، فإنها الرئة الوحيدة التي يتنفس بها المجتمع ويعيش، والإنسان لا يتنفس في وقت دون آخر، إنه يتنفس حين يأكل، وحين ينام، وحين يحارب أيضًا».

لم يتحمس إحسان لإرسال هذا الخطاب إلى صديقه «جمال»، لكن فاطمة أرسلته، وقرأه جمال عبد الناصر، وقرّر أن يردَّ عليها بخطاب آخر جاء فيه: «أنا بطبعي أكره كل قيد على الحرية، وأمقت بإحساسي كل حدٍّ على الفكر على أن تكون الحرية للبناء، وليست للهدم، وعلى أن يكون الفكر خالصًا لوجه الوطن، وأنا لا أخشى من إطلاق الحريات، وإنما أخشى أن تصبح الحرية تُباع وتُشترى كما كانت قبيل 23 يوليو سلعًا تُباع وتُشترى.. ومع ذلك فأين الحرية التي قيّدناها؟».

ونُشر خطاب «عبد الناصر» بتوقيعه على صفحات مجلة «روزاليوسف».

ورغم أن إحسان لم يتحمّس لخطاب والدته، وكان يرى أن الثورة ما زالت في بدايتها، وتحتاج إلى الدعم، لكن في العام التالي أدرك «إحسان» أن والدته كانت على حق، حين رأى إعوجاجًا في مسار الحُكم فكتب مقالًا بعنوان «الجمعية السرية التي تحكم مصر».

وانتظر «إحسان» أن يآتي إليه الرد لينشره على صفحات روز اليوسف؛ ولكن جاءه الرد عبر سيارة تحمل بعض الجنود الذين قادوه ليدخل السجن للمرة الثانية، ولم تبكِ الأم على ابنها بقدر ما دعمته، وأخبرته أن هذه هي ضريبة الكلمة الحرة.

أهم نساء القرن العشرين

لم يدفع إحسان فقط ضريبة الكلمة الحُرة، فقد دفع قبلها ثمنًا غاليًا، لأن يكون ابنًا لواحدة من أهم السيدات في القرن العشرين إن لم تكن أهمهم.

فــ«فاطمة اليوسف» لم تكن مجرد صاحبة مجلة، وإنما كانت ثورة مثل ثورة 19، فقد وقفت رأسًا برأس أمام رؤساء الحكومات، وحين أغلقوا لها مجلة فتحت غيرها في أيام، ولم تخشِ أن تخسر أموالها أو تدفع حياتها ثمنًا لأفكارها، بل باعت ملابسها من أجل أن تنفق على حلمها في مجلة تبقى خالدة، لا يهزمها الزمن.

البعض ينظر لــ«فاطمة اليوسف» باعتبارها مثل «هدى شعراوي»، لكني أظن-وليس كل الظن إثم- أنه لا يمكن مقارنة فاطمة بامرأة أخرى، وإذا أردنا أن نضعها في المكانة التي تستحقها علينا أن نضعها بجوار الزعيم «سعد زغلول».

نعم بجوار «سعد» باشا، فمثلما أشعل «سعد» ثورة شعبية، أشعلت فاطمة ثورة أخرى صحفية، وثقافية، وأثبتت قبل قرن من الزمان أن المرأة ليس من حقها أن تعمل فقط، ولكن من حقها أن تكون هي صاحبة العمل.