يبدو الأمر وكأنك تنظر إلى أبواب الجحيم، نهاية الزمان والمكان، ونقطة اللاعودة.
البروفيسور «هينو فالك»، من جامعة رادبود في هولندا

ستخلد هذه الجملة، مع أول صورة لأفق الحدث لثقب أسود في التاريخ. هذا الجسم الكوني هائل الحجم، الذي يتواجد في مجرة «ميسييه 87 – M87»، والتي تبعد عنا مسافة 55 مليون سنة ضوئية.

ولكن لنتمكن من تصوير مثل هذا الثقب الأسود الهائل احتاج العلماء لتمويل هائل في المقابل؛ احتاج برنامج «تلسكوب أفق الحدث» تمويلًا من المؤسسة الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة، ومجلس البحوث الأوروبي التابع للاتحاد الأوروبي، وبعض وكالات التمويل من شرق آسيا. فمثلًا صرَّح مجلس البحوث الأوروبي أنه منح فريق (BlackHoleCam)، الذي تعاون مع فريق تلسكوب أفق الحدث في تصوير الثقب الأسود، ما يقدر بـ 14 مليون يورو أو ما يعادل 19.3 مليون دولار.

قد يتقمص أحد أصدقائك شخصية سياسية شهيرة، ليسألك بسخرية:

أنا كمواطن استفدت إيه؟

هل يمكنك أن تخبرني لماذا يجب أن تعني الأشياء التي يراها العلماء في التلسكوبات أي شيء بالنسبة لي؟ ما أهميتها لدرجة أننا يجب أن ننفق كل هذه الأموال عليها؟ ألا يجب أن ننفقها على فقراء العالم، على الصحة، أو التعليم مثلًا؟

معظم العلوم لها صلة مباشرة -أكثر من علم الفلك- بحياتنا هنا على الأرض، لكن لأن علم الفلك -بحكم تعريفه- هو دراسة الأشياء خارج كوكب الأرض، فهل يفتقد علم الفلك للعلاقة بحياتنا اليومية، أم أنه ذو صلة ولكن بشكل مختلف، أم أن الجواب يعتمد على من تكون أنت، وعلى سياق السؤال نفسه؟


إجابات معتادة وأشياء أخرى

هناك بالطبع الإجابات المعتادة على هذه الأسئلة، وهي إجابات صالحة بالفعل، وقد تكون مُرضية للبعض.

أولها، القوة الناعمة للدول. فكل هذه الأموال التي تصرفها الحكومات على أبحاث الفلك والفضاء أقل بكثير مما تصرفه على ميزانية جيشها مثلًا، وعلى الحروب، لكنها تكسبها مركزًا وقوة، ونتذكر سويًّا الصراع الأمريكي السوفييتي إبان الحرب الباردة على الوصول للقمر والذي حطم فيه الأمريكان غرور السوفييت.

كما أننا لسنا في عالم يوتوبي هنا، ولن تتوقف الدول عن دفع الأموال في هذه الأبحاث لتدفعها لفقراء العالم، أو للتخلص من الأمراض المستعصية مثلًا! فمثلًا في العام المالي 2015، كان الإنفاق العسكري يمثل 54% من إجمالي الإنفاق الفيدرالي التقديري في الولايات المتحدة، أي ما مجموعه 600 مليار دولار، بالمقارنة مع ما أنفقته على العلم بحوالي 3% (30 مليار دولار)، أو ما أنفقته على الرعاية الطبية والصحة بحوالي 6% (66 مليار دولار).

ثاني الإجابات هنا هي عن العلاقة غير المباشرة بين أبحاث علم الفلك ونمو التقنية وتطورها، مما يؤدي إلى ابتكارات يمكن استخدامها بعد ذلك رفاهة للبشرية.

بالطبع هذا صحيح، لكنه على الجهة الأخرى ليس بالضرورة الطريقة الأسرع أو الأكثر كفاءة اقتصاديًا لتحسين مستوى الحياة. فمع أن بعض أهم الابتكارات ظهرت أثناء إجراء البحث العلمي من أجل البحث العلمي في حد ذاته، فإن المزيد من الابتكارات القابلة للتطبيق بشكل مباشر على حياة الإنسان قد تحدث عندما تُنفق الأموال مباشرةً لهذا الغرض. ولكن في نهاية الأمر، قد يدفع العلم التقنية في اتجاهات ربما لم تكن لتسلكها من البداية، ونحن لا نعرف كيف كان سيبدو المشهد التكنولوجي الحالي من دون هذا الدفع.

ثالثًا، دائمًا ما تطلع البشر إلى السماء، وبحثوا عن الإلهام؛ فيجيبنا هنا علم الفلك عن بعض الأسئلة الجوهرية. من أين جئنا؟ إلى أين سنذهب؟ لماذا نحن هنا؟ هل نحن وحيدون في هذا الكون؟ وإذا لم نكن وحيدين، هل تنتظر الكائنات الفضائية نسختها الخاصة من فيلم Avengers: End Game، أو حتى Game of Thrones؟ بالفعل يمكن لعلم الفلك أن يلهم البشرية، كما فعل دائمًا، وكما قدم لنا العديد والعديد من الإجابات على هذه الأسئلة الجوهرية.

ولكن من جهة أخرى، ليس هذا هو الحال دائمًا في الأبحاث العلمية العادية التي تصدر يومًا بعد الآخر. فغالبًا ما يركز الباحثون على استقصاء أسئلة صغيرة ومحددة للغاية، والتي لن يعرف عنها أحد سوى من يدرس هذا المجال.

وهو ما يقودنا لسؤال آخر، لماذا تتميز الأبحاث العلمية الحديثة بالتركيز المفرط على موضوع ما؟


كيف تأكل فيلًا؟

سؤال غريب، لكن أحسبك تعرف الإجابة، وهي قضمة بقضمة، بكل هدوء، لكن لا تنسَ في البداية أن تضعه على النار.

للإجابة على الأسئلة الكبيرة، عليك تقسيمها إلى أسئلة أصغر. فعلى الأرجح قد جرى البحث في الجوانب الأكثر وضوحًا لموضوع علمي ما، بالنظر للفترة الطويلة التي ظللنا نرقص فيها مع النجوم. ومن أجل إجراء بحث أصيل، غالبًا ما يكون من الضروري التركيز على مشكلة محددة وصغيرة للغاية، واختيار تفاصيل البحث فيها.

وكذلك من أجل أن تبقى على قيد الحياة كأحد الباحثين، يجب عليك نشر الأوراق العلمية، ومن أجل نشر هذه الأوراق، يجب أن تجد شيئًا جديدًا لتضيفه، ومن أجل أن تجد هذا الشيء، يجب أن تخطو حيث لم يخطُ أحد من قبلك. وأعتقد أن الأسئلة الأصغر الموجهة نحو التفاصيل مهمة للغاية، والإجابة على هذه الأسئلة هي وسيلتنا الوحيدة لشق طريقنا نحو فهم أفضل لكوننا الشاسع. ولكن هل كل سؤال مهم في حد ذاته، بمفرده؟

من السهل عليك اعتقاد هذا، عندما تجلس على مكتبك لمدة 9 ساعات يوميًّا تكتب كودًا خاصًّا بهذا البحث. ولكن ماذا لو كنت لا تفعل هذا؟ من وجهة نظر المعرفة البحتة، هذه الأسئلة مهمة بمفردها، بدون سياق محدد، فكل شيء جديد نعرفه عن الكون هو شيء جديد نعرفه عن الكون، وهذا أمر رائع. ولكن ما مدى روعة رؤيتك لصورة أفق الحدث لثقب أسود في مجرة تُسمى «ميسييه 87» وتبعد عنَّا 55 مليون سنة ضوئية؟

لنتحدث بصراحة هنا، ليس من الرائع في شيء أن يوجد هذا الثقب تحديدًا في هذه المجرة البعيدة،ـ ولكنه رائع بسبب ما يمكن أن نستنتجه عن الأحداث الأخرى المشابهة وأسبابها، وما تعنيه هذه الأسباب والآثار حول المبادئ التي تحكم الكون، ثم ما تعنيه هذه المبادئ حول كيفية تفاعلاتنا مع الكون.

يمكنك أن تعيش حياتك بأكملها، وتعيش في سعادة بالغة، وأنت لا تعرف أي شيء عن الثقوب السوداء. يمكنك، في الواقع، أن تكون سعيدًا جدًّا. ولا يهم حقًّا أن النظريات التي قد وضعها أينشتاين منذ أكثر من مائة عام تثبت صحتها مجددًا، سواءً كنَّا نعرف أو لا نعرف شيئًا عن الثقوب السوداء.

لذا فإن سياق السؤال وإجابته أكثر أهمية من محتوى السؤال نفسه.


«أنا كمواطن استفدت إيه؟»

عندما ادَّعى كوبرنيكوس أن الأرض لم تكن مركز الكون، أحدث بذلك ثورة هائلة، ثورة أوجبت معها تغيير وجهة نظر الدين والعلم والمجتمع للعالم الجديد.

على مر التاريخ، تطلع البشر إلى السماء للغوص في محيطاتها الشاسعة، ليعرفوا متى عليهم زراعة المحاصيل، وليبحثوا عن إجابة لأسئلة من أين أتينا، وكيف وصلنا إلى هنا. فهو المجال الذي يفتح أعيننا، ويمنحنا السياق لمكاننا بالنسبة للكون، كما يمكنه إعادة تشكيل كيفية رؤيتنا للعالم. لطالما امتلك علم الفلك تأثيرًا هائلًا على نظرتنا إلى العالم والكون بأكمله.

ومع اكتشافنا أن العناصر الأساسية التي نجدها في النجوم، والغازات والغبار الكوني المحيطين بها، هي نفس العناصر التي تشكل أجسادنا، أضيف مزيد من العمق للعلاقة بيننا وبين الكون. تمس هذه العلاقة حياتنا نفسها، وربما تكون الرهبة التي تلهمها هي السبب في أن الصور الجميلة التي يوفرها لنا علم الفلك تحظى بشعبية كبيرة في هذا الزمن.

والآن لنرَ كيف استفاد المواطن العادي بما قدمه علم الفلك على مدى السنين.

1. تتضمن بعض الأمثلة المفيدة لنقل التكنولوجيا بين علم الفلك والصناعة تطور أدوات التصوير والاتصالات. على سبيل المثال، هناك فيلم تصويري بالأبيض والأسود من إنتاج شركة كوداك يستخدم على نطاق واسع في التحليل الطيفي في مجال الصناعة والطب، وكذلك يستخدمه الفنانون، وكان قد صُنع في الأساس حتى يتمكن علماء الفلك من تسجيل التغيرات في بنية سطح الشمس.

2. كما تُعد كاميرا هاتفك الذكي جهاز اقتران الشحنة (CCD)، وهي أداة تعمل على تحويل حركة الشحنة الكهربائية إلى قيمة رقمية. وطُورت هذه الأداة في الأصل من أجل علم الفلك، ولكنها تستخدم الآن في معظم الكاميرات، وفي كاميرات الهواتف المحمولة.

3. منذ تطوير التلسكوبات الفضائية، تحول اقتناء المعلومات لأجل أغراض الدفاع والتجسس من استخدام التقنيات الأرضية إلى التقنيات الجوية والفضائية.

4. يناضل علماء الفلك باستمرار لرؤية الأجسام الفلكية الباهتة بعيدة المنال. ويكافح الطب مع مشكلات مماثلة، لرؤية الأشياء الغامضة داخل جسم الإنسان. يتطلب كلا المجالين صورًا عالية الدقة ومفصلة للغاية. ولعل أبرز مثال على نقل المعرفة بين هاتين الدراستين هو تقنية قياس الموجات الراديوية، والتي طورها عالم الفلك الراديوي والحائز على جائزة نوبل مارتن رايل عام 1974، حيث استخدمت هذه تقنية مشابهة في التصوير بالرنين المغناطيسي، والعديد من أدوات التصوير الطبي الأخرى.

5. وبجانب تقنيات التصوير، طوَّر علم الفلك العديد من لغات البرمجة التي تجعل معالجة الصور أسهل بكثير، وتحديدًا لغات IDL وIRAF. إذ تُستخدم هذه اللغات على نطاق واسع في التطبيقات الطبية.

6. ومثال آخر على كيفية تأثير علم الفلك على مجال الطب، هو تطوير مساحات العمل النظيفة. إذ يتطلب تصنيع التلسكوبات الفضائية وجود بيئة نظيفة للغاية لمنع الغبار الذي قد يؤثر على عمل مرايا التلسكوبات. وتُستخدم الآن بروتوكولات الغرف النظيفة ومرشحات الهواء والأطقم المعقمة التي طُورت لتحقيق ذلك في المستشفيات والمختبرات الصيدلانية.

7. هناك العديد من الأشياء التي نصادفها بشكل يومي مستمدة من التقنيات الفلكية. ولعل أكثر اختراعات علم الفلك استخدامًا في حياتنا اليومية هي شبكة الإنترنت اللاسلكية (WLAN)، ففي عام 1977، طور جون سوليفان طريقة لصقل الصور من التلسكوب اللاسلكي. تم تطبيق هذه الطريقة نفسها على الإشارات الراديوية بشكل عام، وعلى وجه التحديد على تلك المخصصة لتعزيز شبكات الكمبيوتر، والتي أصبحت الآن جزءًا لا يتجزأ من جميع تطبيقات الإنترنت.

ما زلت أؤيد فكرة أن علم الفلك يضع خبرتنا الأرضية في السياق، ويمكن أن يلهمنا أن نتأمل فيما هو أبعد منَّا، وأبعد من حاضرنا. وأعتقد أن هذا المنظور بالغ الأهمية، لكنني أعتقد أيضًا أن الجوانب المذهلة لعلم الفلك ليست بهذا الوضوح، ما لم تُوضع الاكتشافات في سياق الأسئلة الجوهرية التي تساهم في إجاباتها. وهو الأمر الذي لا يحدث في الغالب. ولكن بنفس المنطق، يمكننا أن نطرح هذه الأسئلة:

لماذا نقرأ ونكتب قصص الخيال؟ لماذا نستمع لموسيقى بيتهوفن؟ لماذا نجلس ليلًا ونستمع لأم كلثوم؟ لماذا ننتظر في شغف الموسم الأخير من Game of Thrones، أو ماذا سيحدث لثانوس في Avengers: End Game؟

بينما تُكلف هذه الأشياء أموالًا أقل من دراسة علم الفلك، لكنها تظل فلسفيًّا تملك ذات المغالطة التي يقع بها البعض عندما يسألون «لماذا ندرس علم الفلك؟». فنحن نحب قراءة الروايات، وموسيقى بيتهوفن، ونستمع لأم كلثوم، وننتظر الموسم الأخير من Game of Thrones، ونحب علم الفلك -أو ربما هذا أنا فحسب- لأن كل هذا يضيء جزءًا من وجودنا كبشر.

علم الفلك، في أفضل حالاته، يشبه الكتاب الجيد؛ فهو يساعدنا على فهم ما يعنيه أن نكون أنفسنا في هذا العالم، في الكون، وأن نحيا في عالمٍ هو جزء صغير للغاية من هذا الكون الشاسع.