غير أن الدراسة المتعمقة لحياة وفكر سيد قطب قد تمكننا من بلورة تصور لطبيعة وسمت أفكاره على مدى مراحل عمره والتي تركت أثرا عميقا على كتاباته الإسلامية المتأخرة، ويمكن بلورتها في «رومانتيكية سيد». ونحن لا نقصد بالرومانتيكية هنا ذلك المذهب الأدبي المعروف، بل هي الروح والأيديولوجية والنظرة للحياة والعالم التي تدور حول فكرة أساسية هي فكرة «الذات» باعتبارها معيار الحقيقة ومصدر المعرفة ومعنى الوجود. فكلما اكتسبت ذات ما هذا الوضع؛ فهي ذات رومانتيكية سواء كانت ذاتا فردية أو مجردة، ذات جماعة من الجماعات أو أمة من الأمم.

الرومانتيكية هي حالة وجدانية لا عقلية بالضرورة، تكتسب مفهومها عن نفسها بمعزل عن كل سياق اجتماعي أو تاريخي أو مادي

وأولي خصائص الذات في السياق القطبي، هي كونها ذاتا مصمتة، جوهر، وحدة أولية لا تنقسم، لا تجري بداخلها صراعات، وإذا عانت فإن معاناتها في نظرها تنبع من بشاعة الواقع الخارجي الذي يفتقر إلى نقائها وتفردها. وعلى ذلك، فالذات الرومانتيكية تصور نفسها على أنها خالية من التناقضات، وحتى إذا أحست في داخلها بعوامل الصراع فإنها تفسره على أنها تأثيرات الوسط المعادي الذي يرمي إلى هدم نقائها الخاص.

وهي أيضا ذات مشعة، ترمي في تفاعلها مع الواقع إلى هدف واحد، هو إعادة تشكيله على صورتها ومثالها. ومن ثم فهي بطبيعتها تفتقر إلى النظرة الموضوعية للعالم، وتجنح إلى إصدار أحكام قيمية عليه، معه أو ضده وفقا لمقاييسها الخاصة، فصراعها مع مخالفيها هو صراع الحياة والموت، صراع الخير ضد الشر، والوجود الحقيقي ضد العدم.

وعلى ذلك فـالرومانتيكية هي حالة وجدانية لا عقلية بالضرورة، تكتسب مفهومها عن نفسها بمعزل عن كل سياق اجتماعي أو تاريخي أو مادي، رغم أنها طبعا من الناحية الموضوعية، نتاج اجتماعي تاريخي مادي. وهذا الرومانتيكي الذي يقدر مشاعره تقديرا عاليا ويعتبرها معيار الحقيقة وجوهر المعرفة حين يخضع ذاته الفردية لذات عليا قومية أو إلهية فإنه يضفي عليها فورًا الخصائص ذاتها، ويحولها إلى ذات مقدسة معزولة تمتلك جماع الحقيقة وتنطلق إلى اعتبار كل ما يخالفها زيفًا وتشوهًا وضآلةً وشرًا، وتتحول الذات الرومانتيكية – إلهية أو قومية – إلى آلية سريعة إلى إصدار الأحكام على العالم.

مرت هذه الروح الرومانتيكية عند سيد قطب بعدة مراحل أساسية: تمثلت المرحلة الأولى في الرومانتيكية الأدبية، قبل أن تعيد تموضعها في العالم الحي فيما يمكن تسميته بـالروح الرومانتيكية الوطنية، قبل أن تخلي الأخيرة الساحة لمرحلة الرومانتيكية النخبوية الأصولية كما تمثلت في أيديلوجية العصبة المؤمنة التي مثلت ذروة تطور الروح الرومانتيكية عند سيد قطب.


الرومانتيكية الأدبية.. سيد قطب وأحلام العظمة الأدبية:

تبنى سيد قطب أفكار المدرسة الرومانتيكية في الأدب ولكن على نحو خاص جرى فيه التأكيد على قدسية ذات الشاعر وعالمه ومنحه دورا رائدا في مسيرة البشر يفوق دور المفكرين والفلاسفة في فهم العالم والإحساس به والتأثير فيه علي حد سواء، بكل ما ينطوي عليه هذا الموقف من إعلاء للمشاعر فوق العقل وللنوازع الذاتية فوق الحقيقة الموضوعية. ولا يتورع سيد قطب في أول كتبه الذي صدر عام 1933 «مهمة الشاعر في الحياة» عن الاستشهاد بشعره الخاص كنموذج يحتذى وكدور لا تجد ألاعيب وسطحيات البحتري والمتنبي مكانا بجانبه.

هو في نقده الأدبي شهيد، فقد الأصدقاء واكتسب أعداء من جراء أمانته وصدقه، كما ضحى بوقته الذي من الممكن أن يستغله في إنشاء أعمال أدبية

وهو وإن كان لا ينقصه الطموح والغرور في الشعر فإن النجاح ينقصه، ومن هنا لا بد أيضا من اضطهاد وكفاح واستشهاد، فالشعراء الشبان أناتهم تتلاشى لأنهم لا يعرفون كيف يهرجون ويزيفون ولا يستسيغون أن يتخذوا هذا الشعر وسيلة للشهرة وقضاء المصالح الرخيصة، بينما المشهورون الكبار لا يتورعون عن تقاوض الثناء فيما بينهم ومحاربة الناشئة ومنعهم من الظهور.

كما يعظم سيد قطب من نفسه كذلك كناقد أدبي كما عظم من نفسه كشاعر، فيعتبر نفسه أمل النقد الأدبي الوحيد بعد أن اعتزل شيوخُ الأدبِ النقدَ لتؤول هذه المهمة المقدسة إلى بضعة نفر من «محرري الصحف اليومية الجهلاء»فآلى سيد قطب على نفسه أن يقتحم الميدان.

وهو في نقده الأدبي شهيد، فقد الأصدقاء واكتسب أعداء من جراء أمانته وصدقه، كما ضحى بوقته الذي كان بإمكانه أن يستغله في إنشاء أعمال أدبية لا تستغرق منه في تقديره أكثر مما تستغرقه مقالة صغيرة في النقد الأدبي. يلح سيد قطب دوما على تقديم نفسه في صورة الداعية صاحب الرسالة، الذي تسوقه الظروف سوقا على مذبح أسمه متطلبات العصر.


الرومانتيكية الوطنية.. تطور التفكير الاجتماعي والسياسي لسيد قطب:

كانت سنوات 1943-1948 سنوات جديدة للتكوين في حياة سيد قطب، انطفأت فيها جذوة حبه القديم الذي عبر عنه في روايته «أشواك»، وموهبته الشعرية، واهتماماته النقدية، وفقد فيها -باختياره- صلته بـالعقاد، وانطلق جائعا يبحث عن الانسياب في الطبيعة في منحى شبه صوفي تحول سريعا إلي الرغبة في «الانسياب الفعال المتمرد في المجتمع». فأصبح يطلب من الأدب ألا يكون منفصلا عن ملابسات الحياة الواقعية، وتحولت الروح الرومانتيكية إلى طموح شديد إلى «فعل رومانتيكي» يرمي إلى إضفاء طابعها الذاتي على العالم كله، فكان ذلك إيذانا بمرحلة جديدة في حياته يسعى خلالها إلى صياغة برنامج اجتماعي وسياسي وثقافي شامل انطلاقا من الحالة الرومانتيكية التي نذر نفسه لها منذ شروق شمس حياته إلى أفولها.

وتفسير ذلك أنه إذا كانت أوهام قطب حول الدور الطليعي للشاعر ممكنة في عالم الثلاثينات المستقر بعد الحرب العالمية الأولي، فقد ووجهت بتحد كبير في الأربعينات حين اشتعلت الحرب العالمية الثانية وظهرت الأفكار الاشتراكية في مصر مرة أخرى، وتفاقمت حدة المشكلات الاجتماعية، ذلك كله فضلا عن نضج سيد قطب النسبي وتخليه عن النزعة العقّادية الأدبية؛ فضلا عن فشله في إحراز مكانة متميزة في الأدب تناسب طموحه في العظمة النابع من تربيته ومن الروح الرومانتيكية على حد سواء.

ويحتل برنامج سيد قطب في الإصلاح الاجتماعي في تلك الفترة موقعا وسطا بين البرنامج الاشتراكي أو اليساري بالأدق والبرنامج المحافظ، وإن كان ينطلق من ذات المبدأ المحافظ المسمى المصلحة العامة ولكن بأكثر تفسيراته راديكالية.

كما تتضح رؤيته البيروقراطية الفوقية للإصلاح، إلى حد أنها تتطلب في المقام الأول استبعاد الصراع السياسي، ليواصل الجهاز البيروقراطي عمله في هدوء، ومعنى هذا أن الإدارة الحكومية تحمل في مشروع سيد قطب العبء الرئيسي والمسؤولية الرئيسية في مشروع الإصلاح، بدءا بتحديد الهدف وحتى التنفيذ، أما دور الشعب فهو أن يراقب وينتقد وفي كل الأحوال ينفذ ويتعاون مع الإدارة.

وعليه فإن الإصلاح الاجتماعي في مفهوم سيد قطب في هذه الفترة هو مشروع غير سياسي، يشبه أي مشروع تجاري أو صناعي من حيث أنه يقوم على التخطيط المبني علي معرفة علمية بالمجتمع الذي لا يزيد عن كونه موضوع الإصلاح لا أحد فواعله. والحكومة – الإدارة في هذا السياق ليست تنظيما اجتماعيا يعكس التركيب الاجتماعي وتناقضاته وإنما بالأحرى رأسه وقلبه وإرادته المستقلة، في حين أن الشعب، أفراده وطبقاته، ليس هو المستهدف بالإصلاح، وإنما هي الأمة، ذلك الكيان المجرد من تكويناته الحية ومصالحه المتناقضة المتشابكة، والذي يدخل في سباق مجرد مع الأمم الأخرى وعليه واجب اللحاق بها.

والأمة فضلا عن ذلك، جسم غفل هلامي، أما الرأس الموجه القائد فهو الإدارة الحكومية التي يمكنها وحدها أن تعرف مصلحة الأمة.

الملاحظ أن مشروع رؤية سيد قطب للإصلاح الاجتماعي في هذه الفترة هو في صميمه مشروع رومانتيكي وطني ينطلق من فكرة الذات المصرية

والملاحظ هنا أن مشروع رؤية سيد قطب للإصلاح الاجتماعي في هذه الفترة هو في صميمه مشروع رومانتيكي وطني ينطلق من فكرة الذات المصرية، ويدعو إلى إحياء هذه الذات والفخر بماضيها وتراثها وخصوصيتها والتمسك بها في إطار رؤيته المحافظة لهذه الذات؛ وإشاراته المختلفة للإسلام والروح الشرقية يجب ألا تفهم كـنزعة إسلامية في هذه المرحلة من تطور فكره، فهي الآن ليست سوى إحدى خصائص الروح المصرية تمتزج بالثقافة المصرية الفرعونية المتمثلة في العادات والخرافات، والمدنية الأوروربية التي تغلغلت في كافة مناحي الحياة، ليشكل هذا المزيج الثلاثي إطارا مهما لبعث الروح القومية وتفردها.

ثم لا يلبث قطب أن يدرك أن دعوات الاصلاح الفردية تلك لن تفلح إلا في زعزعة النظم الاجتماعية القائمة، ومن ثم فلا بد من دور للهيئات الحزبية والجمعيات في بلورة برنامج اجتماعي والدفاع عنه، فيهبط سيد قطب من علياء توحده مع الدولة – الحكومة – الإدارة في مشروعه للإصلاح الاجتماعي.

وينفصل الداعية عن الإداري لينفتح الطريق أمام الداعية ربما بعد مدة من الحيرة والقلق للبحث عن صيغة جديدة تهبط بمفاهيم الإصلاح الاجتماعي إلى ساحة العمل السياسي المباشر، وتطور بها وضعية جديدة يتحول بها المشروع الإصلاحي إلى مشروع سياسي مقاتل، لا يدعو إلى اتفاق سياسي عام على برامج الإصلاح الاجتماعي، ولا يتوجه إلى «عقلية عامة» مبهمة، وإنما يتبنى اتجاها ضد آخر، فيقاتل على الساحة السياسية من أجل حقوق الفقراء في مواجهة النظام، وتزامن ذلك مع عودة زخم الحركة الجماهيرية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

ألقى سيد قطب آماله على أكتاف الدولة القائمة ثم على كل أحزابها بالتناوب، وانتهى في كل الحالات إلى الفشل، وما من مرة عُرض فيها مشروع يمس رؤوس الأموال أو ينصف بعض الطوائف الفقيرة إلا تغير النظام الحزبي أو انهار، ووقف ممثلوا رؤوس الأموال من جميع الأحزاب جبهة واحدة متناسين مصالحهم الحزبية.


تطور الاتجاه الإسلامي في الفكر القطبي:

خرج سيد قطب من تجربته في محاولة تحقيق برنامجه للإصلاح الاجتماعي من خلال النظام، محملا بالمرارة والسخط، ثم ما لبث أن عثر على المفتاح الذي يحل تناقضاته في إطار رؤيته المثالية الفوقية حين اطلع على كتاب «الإسلام والأوضاع الاقتصادية» لـمحمد الغزالي الذي صدر عام 1947.

فقد التقى الغزالي مع خلاصة فكر سيد قطب في نقاط عديدة: فهو يضع على الحكومة واجب إصلاح أحوال الفقراء، ويجعل استئصال الحرمان وتوفير فرص العمل ومحو الأمية وتعميم التعليم الابتدائي والثانوي ملزما للحكومة أن تجبي في سبيله أي قدر من أموال الأغنياء، إضافة إلى إجراءات أخرى تمثل برنامجا، على عدم دقة صياغته، يوازي، بل يتجاوز، يسارا برنامج سيد قطب للإصلاح الاجتماعي الذي طرحه في النصف الأول من هذا العقد، ويحمل ذات النبرات الغاضبة الأخلاقية التي تتفق وميول سيد قطب.

وقد اجتهد سيد في الاستفادة من هذا الكنز وتطويره. وفي حين أن الغزالي لم يهدف من كتابه إلا لتبرئة الإسلام من تهمة تبرير الاستغلال الطبقي، وتفسيره تفسيرا اشتراكيا، سعى قطب إلي وضع تصور فقهي فلسفي شامل للتفسير الاشتراكي للإسلام، وتقديمه في هيئة قواعد مجردة تؤدي إلى برنامج محدد.

في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» روج للإطاحة بالدولة القائمة لصالح دولة إسلامية طوبوية تعلو بدورها على المصالح الاجتماعية

وفي كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» أصبحت المهمة تتمثل في الإطاحة بالدولة القائمة لصالح دولة إسلامية طوبوية تعلو بدورها على المصالح الاجتماعية. وتحولت الهيئة القومية التي كانت محور الاعتزاز بالذات القومية والإيمان بها، لتحل محلها الفكرة الإسلامية المتميزة بدورها، والتي لها «ذاتها» المستقلة، أي لها كل خصائص الذات الرومانتيكية، غير أنها لم تكن قد تجسدت بعد في صورة ملموسة خاصة، وهو التطوير الذي سيقوم به سيد قطب في مرحلة لاحقة.

اقتضى تحول سيد قطب إلى الفكرة الإسلامية وما تبع ذلك من محاولة صياغة فلسفة اجتماعية – سياسية – ثقافية شاملة، التخلي عن محاولة «تغيير العقلية الاجتماعية» لصالح وضع برنامج لإعادة تربية الانتلجنسيا (النخب المتعلمة في المجتمع ) المصرية فكريا على أفكاره الإسلامية وحدها، لتكون بمثابة النخبة البديلة القادرة على تحقيق مشروعه الطوبوي، وساهم في ذلك تغير نظرة قطب إلى دور الجماهير جذريا بعد اندلاع حريق القاهرة في 26 يناير 1952 وإعلان الأحكام العرفية وتراجع الحركة الشعبية، ورأى أنه ما دامت الجماهير قد فشلت في انتزاع حريتها بيدها، فثمة الطريق القديم، أن تنتزعها من أجله نخبة مخلصة متجردة. ولما كانت الانتلجنسيا المدنية قد فشلت في الحصول على السلطة، فلا ضير من اللجوء إلى الانتلجنسيا العسكرية، ولعل هذا أحد تفسيرات اندفاع سيد قطب إلى تأييد حركة الضباط في يوليو 52، وسخر قلمه لتمهيد الطريق لديكتاتورية عسكرية، فراح يناشد محمد نجيب أن يقيم «ديكتاتورية عادلة نظيفة شريفة لستة أشهر» دون التفات إلى الدستور، بحسبان ذلك ضروريا لتحقيق التطهير السياسي الشامل والعدالة الاجتماعية.

(حريق القاهرة 1952)

وبالرغم من أن هذه الأفكار لم تكن بعيدة تماما عن مخططات بعض الضباط على الأقل، وبالرغم من أنه قد تقدم ركب الضباط مناديا بتصفيتهم للدستور والحياة السياسية وإقامة ديكتاتورية عسكرية، فإنه لم يكن بوقا لهم، وإنما كان يرى في حكمهم أداة لتحقيق مشاريعه الإصلاحية من منطلق سلطوي نخبوي. ومن أجل تحقيق برنامجه السياسي دعاهم إلى الاعتماد على الإخوان المسلمين والحزب الاشتراكي والحزب الوطني.

بالرغم من الاتفاق الهائل بين مخطط سيد قطب ومخطط الضباط، فقد كان اتفاقا في الأسلوب وليس في استراتيجية الحكم. وكانت خيبة أمل سيد قطب حين لم يقوموا بتوظيف «التطهير» والديكتاتورية لصالح البرنامج الاسلامي الأخلاقي وبالتعاون مع الاخوان وتبني أفكارهم، مما أدى إلى انصرافه عنهم في نهاية المطاف.


الطريق إلى الأصولية .. الرومانتيكية النخبوية تتجسد في «العصبة المؤمنة»

حرصت الناصرية على ربط مجمل سياساتها بالاسلام في الوقت الذي يتمتع فيه النظام بمصداقية شعارات العداء للاستعمار والعدالة الاجتماعية بلغة قريبة للجمهور واعدة بتحقيق آماله سيما الفئات الوسطى. وبالنسبة للإخوان فإن المطالب السياسية والاجتماعية كما طرحت في برنامج أول اغسطس 1952 يحققها النظام ويزيد عليها، فكان على سيد قطب الذي قضى عشر سنوات في ليمان طرة أغلبها في مستشفاه أن يعيد صياغة أفكاره ويدخل معترك النظرية السياسية لتصبح هي محور عمله بعد أن كان النظام الاجتماعي الاسلامي محور عمله في المرحلة السابقة.

وهكذا تصبح الأصولية الإسلامية في حد ذاتها جوهر الدعوة الإسلامية، وينحسر الضوء عن النظام الاجتماعي وتوضع في البؤرة فكرة تميز الإسلام في حد ذاته عن كل نظام وضرورة الخضوع لما يفترض أن النظام الإسلامي –بألف ولام التعريف– خضوعا غير مشروط، وغير مرتبط بالكلام عن محاسن النظام الاسلامي أو عيوبه، وتلك هي الأصولية في أعمق معانيها، تفرد الإسلام، والربط المباشر بين الله والإنسان ربطا يقوم علي معنى الطاعة العمياء والخضوع المطلق لما يعتبر جوهر الإرادة الإلهية.

يمثل تطوير سيد قطب لمفهوم «العصبة المؤمنة» تغييرا لاستراتيجية الحركة الإسلامية، حيث أصبحت تنطلق من استبعاد دور الجماههير صراحة

عمد قطب إلى بلورة استراجيته الجديدة من شأنها أن تقدم حلا نظريا «فقهيا» لأزمة الإسلام السياسي من وجهة نظر الجناح المتشدد، سواء المزمنة منها أو التي نشأت في ظل الدولة الناصرية، وتدور هذه «الفكرة الجديدة»حول ثلاثة مقولات جوهرية: الحاكمية التي تضع في صيغتها القطبية أسس الدمج التام بين الدين والسياسة، وشمول الجاهلية الذي يشمل تحديد الموقف من الدولة الناصرية، والعصبة المؤمنة التي تضع أسس بناء حزب انقلابي إسلامي قادر على استخدام العمل السري في ظل الدولة الشمولية.

يمثل تطوير سيد قطب لمفهوم «العصبة المؤمنة» تغييرا لاستراتيجية الحركة الإسلامية تغييرا جذريا، فبعدما كان هدف الدعوة في البداية اجتذاب أوسع للجماهير والانتليجنسيا، نحو مشروع من المفترض أنه يعيد للجماهير حقوقها الاقتصادية والاجتماعية المغتصبة، ويمنحها عن طريق التأكيد على هويتها الإسلامية المفترضة شعورا بكرامتها وأهميتها في المجتمع بل والعالم كله، بدلا من ذلك الهدف وما ارتبط به من خطة طويلة المدى للدعاية الفكرية، أصبحت الاستراتيجية الإسلامية الجديدة تنطلق من استبعاد دور الجماههير صراحة.

وبدلا من التوجه للأمة وهدم الدولة، يتوجه «الداعية سيد قطب» إلى فئة مختارة، صفوة، عصبة مؤمنة تصبح هي بذاتها الأمة الإسلامية –بألف لام التعريف– المنوط بها إقامة النظام الإسلامي على هواها، ووفقا لتفاعلاتها الداخلية ونهمها للقرآن الذي هو في تصور سيد قطب الفهم الصحيح الوحيد له.

ويجسد هذا التصور أقصى مدى الرؤية الرومانتيكية لسيد قطب، إذ يوحد بين مفهوم الإنسان ذاته وبين عضويته في العصبة المؤمنة أو الخضوع لمجتمع الحاكمية ليحول نفسه إلى وعاء للإرادة الإلهية، ويُكسب ذاته ونشاطه، انطلاقا من ذلك، مصداقية مطلقة غير قابلة للنقاش أو الفهم أو التعرض لتفاعل اجتماعي حقيقي مفتوح، تمنحه تعاليا وتمده بشعور يتمحور حول ق السيادة علي البشر انطلاقا من توحده المزعوم بالمطلق.
(سيد قطب وجمال عبد الناصر)
لقد مثلت هذه المرحلة ذروة تطور الروح الرومانتيكية عند سيد قطب، وفيها حقق توازنه النفسي واكتمل إحساسه بعظمته الشخصية بعد أن حقق موقعه كمفكر للمهمشين من أصحاب النزعة المحافظة، الراغبين في تحقيق العظمة الشخصية والجماعية عن طريق الاستيلاء على السلطة وفرض رؤيتهم الخاصة للعالم فرضا، باسم الله والقرآن.