محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2018/08/29
الكاتب
لويس باسِت

تُبشر دعوة جيريمي كوربين لتأسيس إعلام حر وديمقراطي بكسر الاحتكارات القائمة في هذا المجال، مما يعني أيضًا مناهضة مليارديرات قطاع التكنولوجيا مثل مارك زوكربيرج.

ففي الوقت الذي توضع فيه الصحافة التقليدية تحت رقابة متزايدة، خلال الأعوام الأخيرة، لا تزال وسائل التواصل الاجتماعي عالقة في الفوضى الناتجة عن غياب القانون، ومن الواضح أن منصة فيسبوك تتعرض لمشاكل جمة، بداية من التقارير الصحفية حول تجميع البيانات دون موافقة أصحابها، ومروراً بالفزع حيال العملاء الأجانب الذين يُقرصنون على الديمقراطية الغربية، وصولاً إلى جرائم الكراهية الناتجة عن الأخبار المزيفة. وفي ظل مرور أكبر منصة للتواصل الاجتماعي في العالم بهذه السلسلة من الأزمات، تحين الفرصة لمناقشة ضوابط تلك المواقع.

اتخذ جيريمي كوربين، زعيم حزب العمال البريطاني، خطوة جريئة في هذا المضمار، في 23 أغسطس/آب الماضي، حيث أعلن «سلسلة من الأفكار الراديكالية لتأسيس إعلام ديمقراطي وحر للعصر الرقمي». وأوضح كوربين في خطاب له في مدينة إدنبرة أن رؤيته تسعى لفرض المبادئ الديمقراطية على كل من قناة (بي بي سي) المملوكة للدولة والصحافة التجارية. كما دعا إلى فرض ضرائب على شركات التكنولوجيا الكبرى ومزودي خدمات الإنترنت، وذلك لتحسين فرص المنافسة بين الشركات المحتكرة للإعلام الرقمي ووسائل الإعلام المملوكة للدولة.

وتعد تلك الدعوة الرامية لإصلاح الإعلام تحولاً فكرياً بارزاً، في وقت تثير فيه شركات كبرى في المجال، مثل فيسبوك، الكثير من اللغط، إذ أضر كل من انتهاك الخصوصية، والرعب من تأثير اللجان الإلكترونية الروسية، والمخاوف حيال تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية، والنمو الهائل السابق في أسعار أسهم شركة فيسبوك، بثقة الجماهير في منصة فيسبوك. وعلى الرغم من إظهار فيلم الشبكة الاجتماعية (The Social Network) زوكربيرج بمظهر العبقري الذي يرتكب أخطاء يمكن التجاوز عنها، فإن جلسة الاستماع الأخيرة التي عقدت له في الكونجرس الأمريكي قوبلت بصور ساخرة تصفه بالثري الجشع الذي يبتسم ابتسامات متبلدة.

ولسنوات طويلة، تخوفت الحكومات من تحدي عمالقة التكنولوجيا، ورفضت فرض ضرائب على تلك المنصات الجديدة أو وضع تشريعات تحكم حركتها، وهي المنصات التي أضفت على نفسها هالة شبه سحرية. ولكن خطاب كوربين حقق تقدمًا هائلاً في الحوار المجتمعي حول وسائل التواصل الجديدة، وأصبح وادي السيليكون في الولايات المتحدة، والذي كان في السابق مكاناً لليبراليين المتحررين، مصدراً كبيراً للقلق للدول والحكومات على نحو متزايد، ففي ظل تزايد غلبة التوجهات السياسية على الشركات الاحتكارية الكبرى لوسائل التواصل الاجتماعي، فإن الاقتراحات الأخرى باستحداث رقابة ديمقراطية على هذه المنصات قد تقدم طريقة للسيطرة على هذه المواقع التي أصبحت في عداد المرافق العامة في كل شيء إلا في ملكيتها.


أيديولوجية الإنترنت

إذا تحرر حزب العمال البريطاني وغيره نهائياً من مشاعر تبجيل المثاليات الليبرالية في وادي السيليكون، فسيلح التساؤل حول، لماذا لم يحدث ذلك في وقت أبكر؟

لقد كان السبب في ذلك هو قدرة الفيسبوك على تجاوز الإعلام التقليدي والسماح للأصوات المعارضة بالتعبير عن نفسها، وبالتالي كانت وسائل التواصل الاجتماعي هبة لكل من أراد مجابهة التحيزات المؤسسية لوسائل الإعلام التقليدية. ومن وجهة نظر تيار اليسار السياسي، كان لوسائل التواصل الاجتماعي الفضل في صعود كوربين في المملكة المتحدة والاشتراكيين الديمقراطيين في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ كانت قادرة على كسر التجاهل والهجوم الإعلامي، لقد أدى ذلك إلى دعم الأسطورة القائلة إن الإنترنت يعد مساحة غير مركزية ولا هرمية، وهي الفكرة التي اختبأ وراءها المؤسسات الاحتكارية الرقمية.

لقد سمحت هالة الغموض التي أحاطت بعمالقة التكنولوجيا الجدد لتلك الشركات بالالتفاف حول التشريعات التي تنظم الصحافة التقليدية، كما أن الأسطورة المؤسسة للإنترنت رسمت صورة لعالم تنمو فيه الشركات المبتدئة من حجرات المدن الجامعية ومرائب السيارات لتصبح منصات عالمية، تمثل تقدماً في الإبداع ووسائل التواصل بين البشر.

وكانت القوة الأيديولوجية المحركة لتلك السردية هي فكرة أن حرية التعبير على الإنترنت مقدسة، وهو المبدأ الذي كرسه القانون الأمريكي، ولكن ذلك يعني أيضاً أن وسائل التواصل الاجتماعي لا تخضع لنفس الضوابط التي تخضع لها وسائل الإعلام الأخرى.

ومع ذلك، أوضح الجدل الأخير أن فيسبوك ليس محايداً على الإطلاق، ففي سعيه لمكافحة ما سماه «الأخبار المزيفة»، أخذ فيسبوك بفخر زمام المبادرة من وكالات الاستخبارات الأمريكية بإزالة الصفحات والمجموعات والحسابات «غير الموثوقة». وفي ظل هيمنة مجموعة صغيرة من الشركات الخاصة على مجال التواصل الاجتماعي، يمكن لفيسبوك اتخاذ قرارات تشكل المجال العام الأكبر للعالم، دون أي رقابة ديمقراطية.

وفي نفس الوقت، فإن التغيرات الأخيرة في تبويب «آخر الأخبار» (Newsfeed) على فيسبوك -التي قللت من المحتوى غير الفعال لصالح المحتوى التفاعلي، في سعي المنصة للحفاظ على مستويات تفاعل المستخدمين عليها- قد أثارت استياء الناشطين الذين اعتمدوا على فيسبوك لنشر آرائهم المختلفة.

لقد همّشت تلك التغييرات من الممارسات الاحتكارية الأخرى للموقع، مثل إجبار مستخدمي المحمول على الوصول للمحتوى خارج فيسبوك من خلال مستعرض إنترنت بطيء للغاية، إلى درجة تدفع المستخدم غالباً للعودة للتفاعل على المنصة نفسها.


منفعة محتكرة

مما سبق يتضح أن فيسبوك بعيد كل البعد عن المساحة المحايدة التي تتشكل فيها الصفحة الأساسية للمستخدم، فقط من خلال تفاعلاته مع شبكات معارفه، وبذلك يعد فيسبوك ناشراً احتكارياً عملاقاً، تحركه في الأساس محفزات ودوافع السوق، وكما قالت «زينب توفيكشي»:

ومن الخطأ الرد على الانتقادات المنطقية لفيسبوك بالقول إن أمامنا الاختيار بعدم التعامل مع الموقع إذا لم يكن يعجبنا، كما قال معهد آدم سميث، وإن ما طالب به كوربين يرقى إلى الدعوة لإضاعة المال العام على بناء بديل مزيف للمنصة.

وتكمن الميزة الأكبر لفيسبوك، وكذلك بالنسبة لمستخدميه، في الكتلة الضخمة من المستخدمين، إذ إننا نعتمد عليه لأن الجميع موجودون فيه، ولأننا لا نريد – وفي بعض الأحيان لا نستطيع تحمل كلفة- تفويت الفرص الموجودة فيه.

ويعمل فيسبوك كمرفق عام، من خلال مشاركة حجم كبير من المعلومات والتواصل مع أكبر عدد ممكن من المستخدمين، وهذا الحجم الضخم هو ما يجعل فيسبوك شركة احتكارية تلقائياً، وهو سبب كاف للإطاحة بحرية المستخدمين في الاختيار بين استخدامه والتخلي عنه.

وبعيداً عن ذلك، فإنه ببساطة يقدم منفعة عامة، محكومة بنموذج عمل تجاري يتمحور حول الإعلانات، ويقرر لنا ما نراه ونفعله على تلك المنصة، وهذا الدافع هو ما يحفز المنطق الإدماني الذي تستخدمه الخوارزميات التي تقرر ما إذا كنت ستشاهد المزيد من الحركات الفكاهية للقطط، أم صوراً ساخرة حول القضية الفلسطينية، أم منشوراً من صديق قديم.

وعلى الرغم من الادعاءات الإنسانية لوادي السيليكون، فإن ما يهدف إليه فيسبوك في الأساس هو رفع عدد مستخدمي المنصة إلى أكبر قدر ممكن لأطول مدة ممكنة، فكلما استخدمت فيسبوك، زاد عدد الإعلانات التي يمكن لفيسبوك أن يريك إياها، وكلما زاد حجم البيانات التي استطاع فيسبوك جمعها عن تفاعلاتك، زادت قدرة تلك الإعلانات على استهداف احتياجاتك، وبالتالي تزيد قيمتها.

ومثل أي ناشر تقليدي، فإن فيسبوك يتحكم بوضوح فيما يراه 2.2 مليار مستخدم فعال، ولكن بدلاً من دفع المال لإنتاج المحتوى، فإن فيسبوك يحصل على هذا المحتوى مجاناً من مستخدميه والناشرين الآخرين. وبدلاً من الاعتماد على محررين حقيقيين، فإنه يعتمد على جيش من الخوارزميات لضبط وتنقيح المحتوى لتبقيك على الموقع لأطول فترة ممكنة.


التواصل الاجتماعي الاشتراكي

إن عمل شركات التكنولوجيا الكبرى عمل وضيع، فهم مجرد سماسرة إعلانات.

لم تدرك شركة فيسبوك الإمكانيات الحقيقية للإنترنت، وقدرته على إتاحة التواصل العالمي وقوة البيانات الضخمة، والتي يمكن استخدامها في دفع التقدم البشري بطرق لانهائية، ولكنها استخدمت تلك الإمكانيات كلها لأجل غرض واحد بسيط، وهو الربح.

ولكن ما البديل؟

يمثل مقترح كوربين المرتكز على إعادة توزيع الأرباح العائدة من شركات التكنولوجيا الكبرى لتستفيد منه وسائل الإعلام العامة كبداية جريئة، وتتوافق رؤيته لشركة بريطانية رقمية مع التقاليد الأبوية البريطانية للديمقراطية الاجتماعية، التي تعتبر الصحافة المستقلة منفعة عامة.

ولكن خطاب كوربين تجاوز هذا المستوى إلى اقتراح إنشاء بديل يطور تكنولوجيا جديدة عبر الإنترنت، لصناعة القرار وإنتاج برامج يتحكم فيها المشاهدون، ومنصة تواصل اجتماعي عامة تتمتع بخصوصية حقيقية ورقابة جماهيرية على البيانات، والتي جعلت فيسبوك وأشباهها شركات ذات ثروات طائلة.

ومثل إذاعة «بي بي سي»، يواجه البديل الديمقراطي الاجتماعي لفيسبوك تحديات، إذ يتمتع فيسبوك بتأثير سياسي ضخم وقدرة هائلة على تجنب الضرائب، كما يمثل تحديد السوق الذي يعمل فيه فيسبوك وتقديم تعريف حقيقي للاحتكار الرقمي تحديين كبيرين لقدرة الدولة على فرض ضرائب.

وعلاوة على ذلك، فعندما يُطبق منطق المنافسة الرأسمالية على الإعلام، فإن البدائل ذات الملكية العامة ستعاني في سوق يتسم بالصراع على شد انتباه الجماهير. وتوجد بدائل لفيسبوك بالفعل، إلا أن أياً منها لم يحقق الكتلة الحرجة من المستخدمين التي تجعلها قادرة على المنافسة، وحتى إذا كُسر احتكار زوكربيرج، فإن المحفزات الرأسمالية التي تقود بيئة الإعلان قد تحافظ على وجود فيسبوك أو المنصات التي تشبهه إلى أجل غير مسمى من خلال تطوير الأساليب الإدمانية باستمرار.

وبعيداً عن مقترح كوربين، فإن الإجابة كما يراها البعض هي تأميم فيسبوك، ولكن موارد شركات التكنولوجيا العملاقة، التي تتكون في الأساس من البيانات والمستخدمين النشطين، ليست موجودة كمناجم الفحم في مكان بعينه، فهي موارد منقولة، ولذلك فإن تحرير قيمة التواصل عبر الإنترنت وقوة البيانات الضخمة يتطلب تدمير نموذج الأعمال الذي يتبناه فيسبوك، وضمان استبداله بنموذج أفضل. وللوصول لتلك الغاية، يمكننا اقتراح انتهاج سياسة أخرى قد تقوض التسليع الذي تنتهجه المنصات العملاقة، وتحقق توازن الفرص أمام البدائل، وهو منع الإعلانات على الإنترنت، سواء التجارية أم السياسية.

تبدو هذه السياسة بعيدة المنال في الوقت الراهن، ومع ذلك، فإن أي إصلاح يستطيع استعادة النشاط البشري من سيطرة السوق، فإنه يثير تساؤلاً سياسياً أبدياً، وهو في هذه الحالة سيكون حول من سيتحكم في الوصول إلى المعلومات.

يوفر خطاب جيرمي كوربن بعض الإجابات، إذ يمكن لفيسبوك ما بعد الرأسمالية أن يجمع بين استخدام برمجة مفتوحة المصدر والرقابة الديمقراطية، مثل ويكيبيديا، إذ يمكن لتكنولوجيا الشبكات السماح بوجود منصة بديلة مبنية على جهود جماعية، سواء في كتابة لغة البرمجة، أو في إنتاج المحتوى وتنظيمه والمشاركة في حوكمته.

ومع ذلك، سيكون من السذاجة الظن بأن التغلب على وادي السيليكون سيكون بهذه السهولة، فإن الخوارزميات المنشأة في بيئة مفتوحة لن تكون عصية على التلاعب، مثلما حدث عندما اخترعت مايكروسوفت روبوتاً برمجياً على منصة تويتر، وبدأ ينشر عبارات عنصرية في أقل من يوم.

يجب أن تتشكل النسخة الاشتراكية من فيسبوك من خلال الإمكانيات اللانهائية للمشاركة المتزايدة على الإنترنت بالإضافة إلى الرقابة التحريرية المسئولة سواء البشرية أو من خلال الخوارزميات.