كل الحقائق سهلة الفهم بعد اكتشافها، الصعوبة والجدّ يكمنان في اكتشافها.

جاليليو جاليلي

عندما تنظر إلى سماء الليل الصافية في 9 يوليو/تمّوز ، انظر إلى القمر وسترى بالقرب منه نجمًا أبيض لامعًا، ذلك «الضوء» هو المشتري، الذي يعكس كميّةً من الضوء أكبر من تلك التي يتلقاها من الشمس، واليوم أو غدًا ستصل إليه المركبة الفضائيّة ذات الخمسة أعوام: جونو، فكيف كانت رحلتها الطويلة؟.


الانطلاق

انطلقت المركبة الفضائية جونو على متن الصاروخ Atlas V551 الذي يُعتبر أكثر الصواريخ من فئة Atlas V قوة وقدرة، وبدأت الرحلة في 5 أغسطس/آب 2011 في الساعة 16:25 حسب التوقيت العالمي المنسق UTC.

وبعد وصولها الفضاء وانفصالها عن الصاروخ، بدأت مرحلة أخرى وهي مرحلة نشر ألواح الطاقة الشمسية الثلاثة التي ستستخدمها المركبة للتزوّد بالطاقة، واستمرت هذه العمليّة 3 دقائق. بعد التأكد من سلامة المركبة وجميع الأجهزة والأنظمة عليها، وبعد نشر ألواح الطاقة الشمسية، تأكدت ناسا من فعاليّة الهوائيين الموجودين على المركبة، وانطلقت المركبة في مسارها المرسوم لها، وقد قامت ناسا بتصحيح مسار المركبة عدة مرات خلال الرحلة.

لكن رغم قدرة Atlas V وقوته الجبارتين، إلا أنّه لا يستطيع دفع المركبة البالغ وزنها 3,625 كغ إلى المشتري (وجاذبية الشمس تلعب دورًا كبيرًا في ذلك)؛ لذلك قامت المركبة -وحسب مخطط ناسا طبعًا- بالحصول على مساعدة جاذبيّة من كوكب الأرض؛ لزيادة سرعتها ودفعها نحو المشتري مرةً أخرى. قامت كاميرا جونو بتصوير الأرض والقمر خلال عودتها للحصول على هذه الدفعة، ويمكنك مشاهدة الفيديو هنا:


مدار جونو

المنطقة حول المشتري ليست مكانًا مناسبًا للتنزه، حقل مغناطيسيّ كبير، يوّلده محيط من الهيدروجين المعدنيّ السائل- وذلك ليس مؤكدًا حتى الآن- يتواجد عميقًا تحت سطح الكوكب. وحسب النظريات، فإنّ حركة هذا السائل تسبب توليد تيارٍ كهربائي وبالتالي حقل مغناطيسي الذي يعرف باسم «الغلاف المغناطيسي»، وهو أقوى ب 20,000 مرةً من الحقل المغناطيسي الخاص بالأرض، ويمتد لملايين وملايين من الكيلومترات حول المشتري، ليكون بذلك المشتري «أكبر كيانٍ في النظام الشمسي» حسب سكوت بولتون، أحد المشرفين على مهمة جونو.

يتفاعل الحقل المغناطيسي بشكلٍ مستمرٍ مع الرياح الشمسيّة – جزيئات مشحونة تنطلق باستمرار من الشمس- لتغيّر شكله باستمرار. يصطاد هذا الحقل الجزيئات المشحونة، لتقوم الأخيرة بتخليق أحزمة إشعاع هائلة تحيط بالمشتري، ووجود هذه الأحزمة يجعل وضع أي مركبةٍ حول المشتري أمرًا صعبًا، فهي «تشوي» الإلكترونيات على سطح المركبات الفضائية حرفيًا،لذلك فإنّ أدوات جونو محميّة داخل خوذتها المعدنية، حيث ستحاط الأدوات العلميّة والإلكترونيّة بخزينة جدرانها من التيتانيوم، تبلغ ثخانتها سنتيمترًا واحدًا، لتحفظ هذه الأدوات خلال رحلة جونو من الإشعاعات الخطرة، ولتفادي مقدار الأشعة التي ستتعرض له، والذي يُقدّر بحوالي 100 مليون صورة شعاعية من تلك التي يستخدمها أطباء الأسنان.

لذلك ستستخدم جونو مدارًا مختلفًا، يسمح لها بالنجاة من الاحتراق بواسطة هذا الحقل الهائل، توضع أحزمة الإشعاع بشكلٍ شبه بيضوي منطلقةً من خط استواء المشتري؛ مما يعني أنّها أضعف في القطبين. لذلك في كلّ مرة تقترب جونو من الكوكب، تقترب جونو من القطب الشمالي ثم تقترب من خط الاستواء متموضعةً بين الكوكب وأحزمة الإشعاع، ثم تقفز مبتعدةً مرةً أخرى بعد مرورها قرب القطب الشمالي. يمكنك مشاهدة مسار المركبة في هذا الفيديو:


الدخول في المدار حول المشتري

تهتم ناسا بشكلٍ خاص بعملية دخول جونو في المدار حول المشتري، عندما يحترق المحرّك الخاص بها، سامحًا للمركبة بالإبطاء والدخول في حقل الجاذبية الخاص بالمشتري، وفي هذا الوقت ستطفئ جميع الآلات العلمية على المهمة، وهذه اللحظة مهمةٌ جدًا، فهي فرصة وحيدة لن تتكرر. إذا فشلت ناسا في إدخال المركبة في المدار في تلك اللحظة بالتحديد، انتهى الأمر كليًا؛ ذلك لأنّ المركبة ستعتمد على نفسها في تلك النقطة، فالإشارات الراديوية المنبعثة من الأرض تحتاج حوالي ساعة من الوقت للوصول إلى المشتري، ولكن لا تمتلك المركبة من الوقت سوى 20 -30 دقيقةً للدخول في المدار. للأسف لا تمتلك ناسا أيّ فرصةً لإرسال الإشارات التصحيحية مرةً أخرى من الأرض إلى جونو.

نقطة دخول المشتري هي أهم مرحلة في كلّ المهمة، أيّ خطأ في هذه المهمة سيؤدي لفشل ذريع.

ستتحقق ناسا تأكيد دخول المركبة في المدار في 11:18 مساءً حسب توقيت الساحل الشرقي من الولايات المتحدّة يوم الرابع من يوليو/تمّوز (5:18 صباحًا في مصر في اليوم الذي يليه) وبالتالي نجاح المهمة .البدئي

لن تقوم جونو بأيّ مهمات علميّة تذكر في أول 53 يومٍ لها، لكن بعد إتمامها الدورة الأولى في 27 أغسطس فإنّها ستبدأ بالاقتراب من المشتري للحصول على نظرةٍ أقرب لها ولمعداتها. ستكون هذه أول صورٍ قريبةٍ،

بعد ذلك ستدخل المركبة مرة أخرى في مدار للمشتري لمدة 53 يومًا، بواسطة كاميرا المهمة JunoCam، وتقوم بالوصول إلى أقرب نقطة في المدار إلى المشتري في 19 أكتوبر.


الموت الباهر

بعد أنّ تمر بأقرب نقطة في مدارها الـ37 حول المشتري، تقوم جونو بآخر مناورة وعند وصولها إلى أبعد نقطة في مسارها تبدأ عملية إخراج المركبة من المدار، وتستغرق هذه العملية 5 أيام ونصف اليوم بعد انتهاء المدار 37، لترسل جونو في نهايتها إلى عناقٍ أخير مع المشتري.

لكن لماذا ندمر جونو؛ المهمة التي كلفت ناسا أكثر من 1.13 مليار دولار؟. تمّ تضمين هذه المناورة الأخيرة لتحقيق متطلبات ناسا في حماية أقمار المشتري، ولتجنب الحوادث والاصطدام بأقمار المشتري، والسبب الأهم هو الاعتقاد بأنّ هذه الأقمار-التي تحوي محيطات ومياه سائلة تحت سطحها الجليديّ- قد تكون مأوى لحياة فضائيّة. ولذلك لا بدّ من التضحية بالعزيزة جونو للتأكد من عدم تلويث هذه الأقمار بالكائنات الحيّة والميكروبات الأرضية. في نهاية هذه المرحلة ستحترق جونو في الغلاف الجوي الخاص بعزيزها المشتري، ويكون يوم وفاتها :20\2\2018.


جاليليو؛ ارقد بسلام

جاليليو، جونو وجوبيتر على متن المركبة جونو. (مصدر الصورة: ناسا)

في 1610 وبعد التعديلات التي أدخلها على التلسكوب، استطاع جاليليو اكتشاف أقمار المشتري الأربعة، والتي سُميت بعد ذلك باسمه: أقمار جاليليو الأربعة وهي: أيو وأوروبا وجانيمدي وكاليستو. في 21 يونيو قامت الكاميرا الموجودة على المركبة بالتقاط صورةٍ للمشتري وأقماره، على بعد 10.9 مليون كيلومتر تقريبًا. ستقوم هذه الكاميرا المُسماة JunoCam بالتقاط صورٍ عالية الدقة للمشتري، وستعطينا جوانب لم نكن نعرفها أو نراها من هذا العملاق الكبير.

على متن جونو، يوجد ثلاثة ركاب صغار يمكنك أن تراهم في الصورة التالية وهم من اليمين إلى اليسار: جاليليو مصطحبًا معه تلسكوبه في رحلته الطويلة، جونو حاملةً العدسة المكبرّة للتعبير عن بحثها عن الحقيقة، جوبيتر(المشتري) كبير الآلهة والصاعقة في يده، وتهدف ناسا بوضع هذه القطع الصغيرة من الليغو إلى تشجيع الأطفال على حب العلوم والاسكتشاف والمعرفة، كما أنها إشارة عرفان وتكريمٍ للعالم والفلكيّ جاليليو جاليلي.

كل ذلك هو القليل عن جونو والمشتري، مجرد مقدمةٍ بسيطة عن مهمةٍ من أعظم مهمات ناسا، وهي الجزء الثاني من مشروع New Frontiers، إضافةً إلى شقيقتيها : نيوهورايزنزواوزيرس ريكس، المشروع الذي يهدف لاستكشاف نظامنا الشمسي ومعرفة المزيد عن أصله ونشأته وأصل تطور الحياة في هذا الجزء الصغير من كوننا الواسع.

المراجع
  1. Jupiter Orbit Insertion
  2. Mission Juno
  3. NASA’s Juno spacecraft will soon reach Jupiter and start unlocking the planet’s secrets