على الرغم من أن الحضارات القديمة قد عرفت أنواعاً مختلفة من التعذيب، وطرقاً متعددة للقتل والتخلص من الأعداء، فإن طريقة قطع الرأس قد استحوذت على القدر الأكبر من الشهرة والذيوع.

كثير من الثقافات عرفت عادة قطع الرؤوس باعتبارها العادة الأكثر فاعلية على الصعيد السياسي، إذ ذخرت المصادر التاريخية بأخبار الضحايا الذين رُفعت رؤوسهم– بعد قطعها- على أسنة الرماح، لتتسبب مناظرهم البشعة في تثبيط همم الثوار والمعارضين من جهة، ولتسهم تلك الصور في تضخيم هالات السلطة المحيطة بكل من الحكام والسلاطين والخلفاء من جهة أخرى.

من ميدوسا إلى الجيلوتين: تيمة قطع الرؤوس عبر العصور

على الرغم من أن الميثولوجيا اليونانية قد عرفت تيمة قطع الرأس في كثير من أساطيرها المثيرة للشغف، فإن قطع رأس ميدوسا كان أشهر تلك القصص على الإطلاق. بحسب ما شاع في الأساطير اليونانية، فإن ميدوسا كانت كائناً مرعباً، تحيط الأفاعي والحيات بوجهه من كل جانب، وكانت تمتلك قوة غريبة، تتمثل في أنها تحول من تراه لقطعة من الحجر.

بحسب الأسطورة، فإن البطل بيرسيوس- والذي كان يعمل على إنقاذ حبيبته أندروميدا من وحش البحر- ذهب إلى مسكن ميدوسا وقطع رأسها، وأخذه بعدها ليسلطه على الوحش محولاً إياه لتمثال من الحجر، لينقذ حبيبته ويتزوجها.

أما إذا انتقلنا للكتاب المقدس، فسنجد أن تيمة قطع الرأس قد وردت بأشكال متعددة في كثير من أسفاره.

على سبيل المثال، من أشهر الوقائع التي تناول فيها العهد القديم تلك التيمة، ما تحدث عنه سفر صموئيل الأول عما دار في المواجهة بين داود وجليات الجبار، وكيف أن داود بعد أن استخدم مقلاعه في إصابة غريمه، فإنه قد قطع رأسه بعدها «فَرَكَضَ دَاوُدُ وَوَقَفَ عَلَى الْفِلِسْطِينِيِّ وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَاخْتَرَطَهُ مِنْ غِمْدِهِ وَقَتَلَهُ وَقَطَعَ بِهِ رَأْسَهُ. فَلَمَّا رَأَى الْفِلِسْطِينِيُّونَ أَنَّ جَبَّارَهُمْ قَدْ مَاتَ هَرَبُوا».

قطع الرؤوس يظهر أيضاً في سِفر الملوك الثاني، والذي يتحدث عن ياهو الذي مسحه النبي أليشع ليصبح ملكاً جديداً على مملكة إسرائيل، فقام ياهو عندها بمراسلة أهل السامرة وأمرهم بالقضاء على الأبناء السبعين للملك السابق أخاب لكونهم كانوا يعبدون الإله بعل.

بالفعل قام أهل السامرة بقطع رؤوس أبناء أخاب السبعين وأرسلوها إلى ياهو فأمر بوضعها في كومتين على مدخل الباب، ليظهر أمام الناس المصير الدامي الذي ينتظر من يحيد عن طريق الإله.

في العهد الجديد، ظهرت تلك التيمة في إنجيل متى، عندما ورد الحديث عن قطع رأس يوحنا المعمدان، وكيف أن هيروديا التي كانت تكره يوحنا لما كان قد عارض زواجها من أخي طليقها، قد أوصت ابنتها سالومي أن تطلب من الملك هيرودس، أن يهبها رأس المعمدان، فلما طلبت سالومي ذلك من الملك الذي نالت نشوة الخمر من وعيه، فإنه قد قتل يوحنا وقدّم لها رأسه على طبق من ذهب.

الرمزية الكبيرة لقطع الرأس ستظل حاضرة في العصور القرن أوسطية، إذ نظرت العديد من الحضارات إلى قطع الرأس على كونه نوعاً من أنواع الموت المشرف، والتي يحظى بها النبلاء والنخبة، لما فيها من موت سريع غير مؤلم. أما في العصر الحديث، وعقب اندلاع الثورة الفرنسية في 1789م، فقد تم تنفيذ أحكام الإعدام بقطع رؤوس الآلاف من الملكيين أو معارضي الثورة، عن طريق المقصلة المشهورة، والتي عُرفت باسم مقصلة جيلوتين.

أبو جهل ومالك بن نويرة

من المُرجح أن عادة قطع الرؤوس قد عُرفت بين العرب قبل زمن الدعوة الإسلامية، وأنها قد عُدّت الطريقة المُثلى للقصاص في حالة القتل العمد، الأمر الذي ظل قائماً بعد انتشار الإسلام، ودخل في حزمة التشريعات والقوانين التي طبقها الرسول وخلفائه في دولة المدينة.

في سياقٍ آخر، يدور الاختلاف حول حقيقة تطبيق تلك العادة في ميادين القتال في زمن النبي والراشدين، إذ تذكر بعض الروايات أن أول رأس قُطعت وحُملت إلى النبي كانت هي رأس أبي جهل عمرو بن هشام بعد أن وقع قتيلاً في غزوة بدر في العام الثاني للهجرة، من تلك الروايات ما ذكره سليمان بن أحمد الطبراني المتوفى 360هـ في «المعجم الكبير»، عندما روي عن عبد الله بن مسعود قوله «أتيت النبي برأس أبي جهل، فقلت: هذا رأس أبي جهل! قال: والله الذي لا إله غيره؟ وهكذا كانت يمينه، فقلت: والله الذي لا إله غيره، إن هذا رأس أبي جهل، فقال: هذا فرعون هذه الأمة».

على الرغم من شهرة تلك الرواية، فإن العديد من الروايات- الأصح سنداً- قد عارضتها، وأكدت أن الرسول قد ذهب بنفسه لساحة المعركة ليتأكد من مقتل أبي جهل.

بعض المصادر التاريخية تحدثت عن أن عادة قطع المسلمين لرؤوس أعدائهم قد ظهرت للمرة الأولى في حروب الردة، وأن المسلمين الذين دخلوا في معارك حامية الوطيس ضد المرتدين، كانوا يعاملونهم بنفس المعاملة التي عاملهم بها المرتدون من قبل، ولذلك قاموا– أي المسلمين- بقطع رؤوس بعض المرتدين، وحرق بعضهم، وإلقاء البعض منهم من فوق الجبال الشاهقة.

إحدى أشهر الحوادث التي ارتبطت بقطع الرؤوس في حروب الردة، كانت تلك التي قام فيها القائد خالد بن الوليد بقتل مالك بن نويرة اليربوعي وقطع رأسه بعدها وألقاها في النيران لتغلي عليها القدور، الأمر الذي ذكره محمد بن جرير الطبري المتوفى 310هـ في كتابه تاريخ الرسل والملوك «كَانَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ شَعْرًا، وَإِنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ أَثَفُّوا بِرُءُوسِهِمْ الْقُدُورَ، فَمَا مِنْهُمْ رَأْسٌ إِلا وَصَلَتِ النَّارُ إِلَى بَشْرَتِهِ مَا خَلا مَالِكًا، فَإِنَّ الْقِدْرَ نَضَجَتْ وَمَا نَضَجَ رَأْسُهُ مِنْ كَثْرَةِ شَعْرِهِ…».

على الرغم من شهرة تلك الرواية، فإنه لا يسعنا أن نعدّها دليلاً على تقبل المجتمع المسلم لتلك العادة في هذا الوقت، والشاهد على ذلك ما ذكره أبو بكر البيهقي المتوفى 458هـ في كتابه «السنن الكبرى»، أنه وفي أثناء الحروب التوسعية في بلاد العراق والشام، فإن بعض القادة المسلمين قد أرسلوا رؤوس قادة الأعداء لأبي بكر، فلما وصلت تلك الرؤوس عند أبي بكر أنكر ذلك بشدة، ولما قيل له «يا خليفة رسول الله، فإنهم يصنعون ذلك بنا»، فإنه– أي أبي بكر- قد رد غاضباً عندها «أَفَاسْتِنَانٌ بفارس والروم؟ لا يحمل إليَّ رأس، فإنما يكفي الكتاب، والخبر». وفي رواية: أنه طلع المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «لم تكن لنا به حاجة، إنما هذه سنة العجم».

الحب والثورة: قطع الرؤوس في المِخيال الشيعي

من المؤكد أن عادة قطع الرؤوس كنوع من التنكيل قد بدأت في الانتشار على نطاق واسع في الدولة الإسلامية بالتزامن مع الأحداث الدامية التي عرفها المسلمون منذ لحظة مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان في أواخر سنة 35هـ.

الأمر المُلاحظ على تطبيق تلك العادة في تلك الفترة، أنها قد ارتبطت بمجموعة من الأسماء المهمة على الصعيد المذهبي الشيعي على وجه الخصوص، وأن ذكراها قد بقيت حاضرة ومؤثرة في نفوس كثير من المحبين والمتعاطفين عبر القرون.

أول تلك الشخصيات كان محمد بن أبي بكر، الذي قام أتباع معاوية بن أبي سفيان بقتله وحز رأسه عندما كان والياً لعلي بن أبي طالب على مصر، الأمر الذي أحزن علي وشيعته كثيراً وقتها، ويقال إن أسماء بنت عميس –أم محمد بن أبي بكر- لما عرفت ما وقع لابنها فإنها قد «قامت إلى مسجد بيتها وكظمت غيظها حتى شخب ثدياها دماً»، وذلك بحسب ما يذكر ابن حجر العسقلاني المتوفى 852هـ في كتابه «الإصابة في تمييز الصحابة».

أما الصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي، فقد اشتُهر عنه أنه كان أول من حُملت رأسه في الإسلام. ابن الحمق الذي كان واحداً من أهم مؤيدي علي بن أبي طالب، تحدثت المصادر الشيعية أن الخليفة الرابع قد تنبأ بما سيحدث له في المستقبل، وذلك عندما قال له «يا عمرو إنك لمقتول بعدي، وإن رأسك لمنقول، وهو أول رأس ينقل في الإسلام. والويل لقاتلك»، وذلك بحسب ما يذكر الشيخ عباس القمي في كتابه «سفينة البحار».

بحسب ما تذكره كثير من المصادر التاريخية الإسلامية، فإن الأمويين لما شددوا قبضتهم الأمنية على العراق بعد وفاة علي بن أبي طالب وصلح ابنه الحسن مع معاوية في 41هـ، فإن عمرو قد هرب من الكوفة واختبأ في بعض الأماكن النائية، وتوفي هناك، فلما عثر الأمويون على جثمانه قطعوا رأسه وأرسلوا به لمعاوية.

مشهد حمل رأس عمرو بن الحمق أثار الشجن واللوعة في نفوس كثير من محبيه، لا سيما زوجته آمنة بنت الشريد التي لما وضعت رأس زوجها بين يديها «وضعت كفها على جبينه ولثمت فمه وقالت: غيبتموه عني طويلاً، ثم أهديتموه إلي قتيلاً، فأهلاً بها من هدية، غير قالية ولا مقلية»، وذلك بحسب ما يذكر ابن كثير المتوفى 774هـ في كتابه «البداية والنهاية».

أما أشهر الرؤوس التي قُطعت وحُملت إلى الملوك، فكان رأس حفيد الرسول الحسين بن علي، الذي قُتل في معركة كربلاء سنة 61هـ، قبل أن يقوم شمر بن ذي الجوشن بقطع رأسه بعدها.

ابن عساكر المتوفى 571هـ تحدث في كتابه «تاريخ مدينة دمشق»، عن مصير تلك الرأس بعد المعركة، فذكر أنها قد وصلت ليد والي الكوفة عُبيد الله بن زياد، والذي لما رآها «أخذ قضيباً فجعل يفتر به عن شفته –أي شفة الحسين- وعن أسنانه…».

بعدها حُملت الرأس على الرمح حتى وصلت دمشق عند الخليفة الأموي الثاني يزيد بن معاوية الذي لما وجدها بين يديه هو الآخر «دعا بقضيب خيزران فجعل ينكت به ثنايا الحسين» وذلك بحسب ما يذكر محمد باقر المجلسي المتوفى 1111هـ في كتابه «بحار الأنوار». تلك الرأس المقدسة ظلت تنتقل عبر القرون من مكان إلى آخر، إذ تتحدث المصادر التاريخية أنها قد حُملت لتوضع في خزائن الأمويين، وبعدها انتقلت لتُدفن في مدينة عسقلان، حتى إذا ما قدمت الحملة الصليبية الأولى إلى المشرق، خاف الفاطميون أن يقوم الصليبيون بتدنيس الرأس، فحملوها ودفنوها في المشهد الحسيني في القاهرة.

الصداقة والحكمة والمِخيال الشعبي: من عبد الملك إلى نزار

لم ترتبط عادة قطع الرأس بالبشاعة والدموية فقط، ولكنها ارتبطت ببعض القيم الأخلاقية والعلاقات الإنسانية المركبة أيضاً، ومن ذلك ما يذكره ابن كثير في البداية والنهاية، أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان لما تمكن من فرض سيطرته على العراق، وقتل مصعب بن الزبير، وحُملت إليه بعدها رأس مصعب، فإنه– أي عبد الملك- قد بكى بكاءً مراً، وتذكر صداقته القديمة مع صاحب هذا الرأس، وقال: «والله ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له، حتى دخل السيف بيننا، ولكن الملك عقيم‏».

المعنى نفسه ذكره الخليفة العباسي الأشهر هارون الرشيد لابنه عبد الله المأمون، وذلك عندما تعجب الأخير من تقدير هارون للإمام العلوي موسى الكاظم رغم تضييقه عليه وحبسه، إذ تحدث الرشيد عندها عن طبيعة الملك وهدد المأمون بقطع رأسه إذا ما حاول أن يأخذه لنفسه، وقال عندها كلمته الشهيرة «والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك فإن الملك عقيم»، وذلك بحسب ما ورد في كتاب «عيون أخبار الرضا» للشيخ الصدوق المتوفى 381هـ.

قطع الرؤوس في بعض الأحيان، ارتبط بالحكمة والتأمل في حال الدنيا التي لا يبقى فيها شيء على حاله، ومن ذلك ما ذكره أحمد بن أعثم الكوفي المتوفى 314هـ في كتاب «الفتوح»، أن الإمام عامر الشعبي المتوفى 100هـ لما دخل قصر الكوفة ليجد عبد الملك بن مروان وقد وضعت أمامه رأس مصعب بن الزبير، فإنه خاطبه قائلاً:

«دخلت هذا القصر فرأيت عُبيد الله بن زياد في موضعك هذا قاعداً ورأس الحسين بن علي بين يديه، ثم دخلت بعد ذلك فرأيت المختار بن أبي عبيد قاعداً في موضعك هذا ورأس عُبيد الله بن زياد بين يديه، ثم دخلت بعد ذلك فرأيت مصعب بن الزبير قاعداً في موضعك هذا ورأس المختار بن أبي عبيد بين يديه، وقد دخلت الآن فرأيت رأس مصعب بن الزبير بين يديك! قال: فقال عبد الملك بن مروان: صدقت يا شعبي! ولله، عز وجل، في أمره تدبير»

أيضاً، ارتبطت الرؤوس المقطوعة أحياناً ببعض الكرامات والخوارق، ومن ذلك ما ذكرته المدونات السنية عن رأس الإمام أحمد بن نصر الخزاعي، والذي قُتل على يد الخليفة العباسي هارون الواثق بالله في سنة 231هـ بسبب موقفه الرافض للقول بخلق القرآن. بحسب ما يذكر الذهبي في كتابه «سير أعلام النبلاء»، فإن الخزاعي بعدما قُتل، شوهدت رأسه وهي تقرأ القرآن، وكانت تستدير ناحية القبلة، كما كانت تُسمع منها الأصوات ليلاً وهي ترتل سورة يس من القرآن الكريم.

على صعيد المِخيال الشعبي الجمعي، فقد حضرت صورة مسرور السياف، ذلك الجلاد الرهيب الذي وظفه الخليفة هارون الرشيد في بلاطه، وكانت مهمته الوحيدة هي قطع رؤوس أعداء الخلافة، والذين كان من بينهم صديق هارون، جعفر بن يحيى البرمكي لما تجرأ على هتك ستر العباسة أخت الرشيد.

مسرور نفسه يطالعنا في قصص ألف ليلة وليلة وهو يقف خلف سيده شهريار، وقد أعدّ السيف والنطع للتخلص من زوجات الملك واحدة بعد أخرى. كل هذا حدا بالشاعر السوري الكبير نزار قباني ليكتب في إحدى قصائده عن مسرور، ويعدّه رمزاً للهيمنة السلطوية، التي احتشدت فيها المؤثرات الذكورية، والبطريركية، المقترنة بالديكتاتورية السياسية، فكان مما قاله في هذه القصيدة:

ملايينٌ من السنوات… والسياف مسرور
يفتش في خزائننا… يفتش في ملابسنا… عن الأحلام نحملها
عن الأسرار تكتمها الجوارير… عن الأشواق تحملها التحارير
ملايينٌ من السنوات… والسياف مسرور
مقيمٌ في مدينتنا
أراه في ثياب أبي… أراه في ثياب أخي
أراه… ها هنا… وهنا
فكل رجال بلدتنا.. هم السياف مسرور…