هناك تساؤل شهير ارتبط بطفولة شريحة كبيرة منّا؛ وهو إذا ما حفرنا حفرة عميقة لباطن الأرض يومًا ما، هل سنصل لنهايتها، أم سنخرج من الجهة الأخرى من الأرض؟، أو ماذا سنجد في طريقنا أثناء الحفر؟.

حسنًا؛ يبدو أن الحفر حتى نصل لنهاية خيالية للأرض أمرًا مستحيلًا على البشرية، لكن هناك طريقة وحيدة استطاعت أن تصل لتلك الأعماق السحيقة، مستكشفة ماهيّة الكوكب أسفل السطح الذي نعيش عليه. هذه الطريقة تتمركز وتتمثل في علم الجيوفيزياء، وهو العلم الذي يعد أحد أهم فروع «علوم الأرض – Geo science»؛ ويعرف أيضًا بمصطلح «علم فيزياء الأرض»، ويعني استخدام المبادئ والقوانين الفيزيائية لدراسة كل ما يتعلق بكوكب الأرض.

الأرض ليست وحيدة في الكون الشاسع، تدور في مدار حول الشمس كمرافق أبدي لها في رحلتها الكونية غير اامحدودة بأعمارنا؛ مما يجعلها جزءًا حقيقيًا من فضاء خارجي أوسع كثيرا من خيالنا.

ما يميّز الجيوفيزياء هو أنه عِلم متعدد التخصصات، ويُستخدم بشكلٍ عام لدراسة باطن الأرض من أجل التعرّف على التغيرات الفيزيائية التي تطرأ على طبقات الصخور فيه مثل اختلاف التوصيلة الحرارية والكهربية، والخواص المغناطيسية والجاذبية. وبما أنه علم متعدد التخصصات، فإنه مُرتبط بشكلٍ مباشر بعلوم أخرى متنوعة مثل الفلك والرياضيات، وعلم المحيطات، والكيمياء؛ بالإضافة إلى أن الجيوفيزياء كانت أهم الطرق العلمية التي كشفت لنا عن أعماق الكوكب وعرفتنا على طبقاته، سمكها ومكوناتها الداخلية المنصهرة. ويأتي ارتباطه بالعلوم الأخرى كونه علم مُتخصص في دراسة كوكب الأرض وكل ما يحتويه.

ونعلم -بديهيا- أن الأرض ليست وحيدة في الكون الشاسع؛ يحيط بها غلاف جوي، ولها محور دوران يميل بزاوية مُحددة، وتدور في مدار حول الشمس كمرافق أبدي لها في رحلتها الكونية غير اامحدودة بأعمارنا؛ مما يجعلها جزءًا حقيقيًا من فضاء خارجي أوسع كثيرا من خيالنا.


تاريخ علم الجيوفيزياء

كانت الدوافع الرئيسية لتطور تاريخ علم الجيوفيزياء هما عاملان مُهماّن؛ أولهما هو فضول البشر وبحثهم عن ماهيّة كوكب الأرض ومكوناته، والأحداث والظواهر الطبيعية التي تحدث به، والمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها البشر عليه مثل الزلازل والبراكين وموجات المد البحري «تسونامي»، والفيضانات.

أما العامل الثاني فهو اقتصادي يهدف لاستخدام واستغلال الموارد الاقتصادية الموجودة في الأرض مثل المعادن، والمواد الخام، ومختلف مصادر المياه وغيرها من الموارد الأخرى.

في العام 240 قبل الميلاد؛ قام «إراتوستينس القيرواني» بقياس محيط كوكب الأرض باستخدام علم المثلثات وزاوية الشمس عند أكثر من خط عرض في مصر. كما قام الفيلسوف اليوناني «إمبيدوكليس» (490 – 430) قبل الميلاد بتفسير طبيعة البراكين لأول مرة، وكان لديه اعتقاد بأن العالم مقسّم إلى أربع قوى رئيسية هي؛ الأرض، الهواء، النار والماء. كان يعتبر البراكين مظهرا من مظاهر عنصر النار، والرياح والزلازل تلعب دورا رئيسيا في حدوث أو اندلاع البراكين.

أما «تيتوس لوكريتيوس كاروس» الفيلسوف والشاعر الروماني (99 – 55) قبل الميلاد فكان يعتقد أن جبل «إتنا – Etna» عبارة عن مكان أجوف تمامًا لكنه مليء بالنيران تحت سطح الأرض، وتحركها الرياح الموجودة والمنتشرة قرب مستوى سطح البحر. ومن المعروف أن لوكريتيوس هو شاعر روماني معروف بقصيدته الفلسفية الملحمية De rerum natura والتي تعني «على طبيعة الأشياء، أو على طبيعة الكون».

وأخيرًا «أثناسيوس كيرشر» العالم الألماني الذي عاش في القرن السابع عشر (1602-1680) فقد شهد ثوران جبلي «إتنا – Enta» و«سترومبولي – Stromboli»، ثم زار فوهة بركان فيزوف ونشر وجهة نظره بشأن البراكين الذي قال إنها حلقة نار متصلة ببعضها، وهي ناجمة عن حرق الكبريت والفحم.

صورة تظهر أول جهاز لقياس الزلازل الذي اخترعه تشانغ

وفي العام 132 ميلاديًا قام عالم الفلك والرياضيات والمهندس والمخترع الصيني « تشانغ هنغ» بصناعة أول جهاز لقياس الزلازل «seismometer» وتحديد اتجاه الزلازل عن طريق اختراعه أداة تشبه جرة النبيذ قطرها ستة أقدام، موضوع عليها ثمانية تنانين وجهها للأسفل وفي اتجاهات البوصلة الأساسية، ويوجد في فم كل تنين كرة برونزية صغيرة. وفي مقابل كل تنين على قاعدة التصميم؛ يوجد ثمانية ضفادع برونزية مفتوحة الأفواه. عندما يحدث زلزال تسقط إحدى الكرات الموجودة في أحد التنانين في فم الضفدع، وبالتالي يتم تحديد اتجاه الزلزال الأصلي وفقًا للكرة التي سقطت.


مجالات العلم وكيف يتم تطبيقه

يخوض علم الجيوفيزياء في مجالات عديدة منها المرتبط بتركيب كوكب الأرض، وأُخرى ترتبط بعلوم الفلك والأرصاد الجوية والطقس، والجغرافيا. ويتم تطبيق الجيوفيزياء عمليًا عن طريق شعبتين رئيسيتين وفقًا لنوع الهدف المراد البحث عنه أو تطبيقه كالآتي:

  • الجيوفيزياء الاستكشافية – Exploration Geophysics.

تهتم هذه الشعبة بتطبيق المبادئ الفيزيائية للتعرّف على الخواص الفيزيائية للصخور في باطن الأرض، ورسم الخرائط والتضاريس الأرضية تحت السطحية مثل الفوالق والطيات في الصخور، وتوضيح التوزيع المكاني للوحدات الصخرية، وتحديد أماكن وجود المواد الهيدروكربونية، والمياه الجوفية والكهوف.

  • الجيوفيزياء العامة أو الشاملة – Global Geophysics.

تهتم هذه الشعبة بدراسة طبيعة الزلازل، المجال المغناطيسي الأرضي، فيزياء المحيطات، الأرصاد الجوية، والتغيرات الحرارية للأرض.

تعتمد طريقة المسح الجيوفيزيائي على مبدأ عمل مُوّحد وهو إرسال موجات صوتية من نوع «P – Wave & S – Wave» إلى الطبقات تحت سطح الأرض من مصادر موجية، وتستقبلها مُستقبلات خاصة تُعرف بالـ «Geophones»، وتتعدد مصادر الموجات وتتغير حسب طريقة المسح التي يتم استخدامها في الاستكشاف حيث يوجد عدد من طرق المسح الجيوفيزيائي:

  • المسح السيزمي – Seismic Method – reflection & refraction

تستخدم هذه الطريقة لدراسة طبيعة الزلازل، والهزات الأرضية وانتشارها في باطن الأرض، بالإضافة إلى محاولة تصور ومحاكاة باطن الأرض عن طريق استخدام إحدى طرق المسح السيزمي وتُدعى Seismic Tomography والتي تستخدم لمحاولة فهم وتصوّر باطن الأرض عن طريق استخدام الموجات السيزمية (P, S).

كما تستخدم الطريقة الانعكاسية لمحاولة فهم خصائص سطح الأرض من الموجات السيزمية المنعكسة عن سطح الصخور في باطن الأرض. أما الطريقة الانكسارية فتستخدم في مجالات متعددة مثل الهندسة الأرضية، والاستكشافات الجيوفيزيائية.

  • مسح الجيوديسة – physical Geodesy Method.

تُعرف بأنها دراسة الخواص الفيزيائية لمجال الجاذبية الأرضية والذي يتضمن إحدى أشهر طرق المسح الجيوفيزيائي المعروف باسم Gravity Method.

  • مسح المغناطيسية – magnetic Method.

يستخدم الجيوفيزيائيون هذه الطريقة لتحديد وقياس التغيرات الصغيرة التي تحدث في المجال المغناطيسي للأرض، كما تساعد هذه الطريقة على تحديد المواد المغناطيسية الخام والصخور النارية الأساسية.

  • مسح المقاومة الكهربائية – Electrical Resistivity Tomography.

هي طريقة يستخدم فيها تيار كهربي مباشر لمحاولة تصوّر الهياكل تحت السطحية من خلال قياسات المقاومة الكهربائية الناتجة من سطح الطبقات، أو عن طريق أقطاب كهربائية يتم تثبيتها في الأرض.

  • مسح الرادار – Method Ground Penetrating Radar – GPR.

هي طريقة يُستخدم فيها تردد عال مُستقطب في مدى من 10 ميجاهيرتز إلى 2.6 جيجاهيرتز لتحديد ورسم صورة للطبقات الصخرية تحت سطح الأرض من خلال ملاحظة الإشارات الراديوية المنعكسة من تلك الطبقات، وتستخدم عادة لأغراض التعدين، والبحث عن الآثار.

  • تقنية الاستشعار عن بُعد – Remote sensing techniques.

تستخدم للكشف عن خبايا سطح الأرض أو الكهوف أو غيرها من المواد المدفونة تحت سطح الأرض من خلال قياس انعكاسات الأشعة الكهرومغناطيسية المرتدة من هذه الأجسام تحت سطحية، أو عن طريق قياس الإشعاعات التي تصدرها هذه الأجسام.

كما تستخدم هذه الطريقة لتحديد حركة الرمال من خلال ملاحظة تغير شكل التضاريس الأرضية من مكان لآخر، أو جفاف بعض المسطحات المائية، أو تلف غابات وغيرها من الظواهر الأرضية السطحية.

  • تسجيلات الآبار – Well Logging

تستخدم هذه الطريقة لتسجيل ورصد مفصل لطبقات الأرض، حيث يتم حفر بئر بمسافة معينة لأخذ عينات من طبقات الأرض، أو قياس الخواص الفيزيائية للصخور من خلال أجهزة رصد يتم إنزالها للبئر.

  • المسح الجوي – Airborne.

هي عملية قياس التباين في العديد من المعالم الفيزيائية أو الجيوكيميائية الرئيسية من الأرض مثل قياس وتحديد التوصيلية الكهربائية، والقابلية المغناطيسية، كثافة الصخور، وتركيز العناصر المشعة.

يتم قياس هذه الخواص عن طريق الموجات الكهرومغناطيسية، مطياف أشعة غاما، والمغناطيسية، والجاذبية.


الجيولوجيا الكوكبية

جيو فيزياء الأرض
صورة معبرة عن استخدام إحدى الطرق الجيوفيزيائية في استكشاف الفضاء

يعتمد علم الجيولوجيا الكوكبية على تطبيق مبادئ العلوم كافة، من أجل استكشاف وتحديد خواص الكواكب والأقمار والنيازك وغيرها من الأجرام السماوية؛ من بينها علم الجيوفيزياء.

يتم استخدام مبادئ علم الجيوفيزياء في الفضاء من خلال تطبيق آلية عمله بواسطة أجهزة تُثبت على المسبارات والتلسكوبات الفضائية لمعرفة خواص الكواكب الفيزيائية، وتحديد جاذبيتها أو حقولها المغناطيسية، أوالظواهر الكونية مثل قياس وغيرها من الخصائص المتعلقة بالكواكب، وتُستخدم طُرق شهيرة لتلك المهمات مثل: الاستشعار عن بُعد والرادار لتُعطي نتائج أفضل.

في التقرير القادم سنتحدث تفصيلًا عن كيف نحدد طريقة المسح المناسبة لمنطقةٍ ما؟، وما هي الأدوات اللازمة لتلك الطريقة؟، وماذا يجري للبيانات بعد الحصول عليها حتى يتم رسم صورة كاملة التفاصيل للمنطقة التي أُجري المسح فيها.

المراجع
  1. 1
  2. 2
  3. 3
  4. 4
  5. 5
  6. 6