في صيف عام 1989 نشرت مجلة «The National Interest» الأمريكية مقالًا للمنظر وعالم السياسة الأمريكي فرانسيس فوكوياما بعنوان «نهاية التاريخ»، وهو المقال الذي شكل الأساس لاحقًا لأطروحة كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» في عام 1992، ونال بسببه فوكوياما الشهرة العالمية التي يتمتع بها الآن.

في أطروحته شديدة التفاؤل قدم لنا فوكوياما تصورًا عن الديموقراطية الليبرالية التي خرجت منتصرة من الحرب الباردة باعتبارها الأفق الأخير لمستقبل المجتمعات البشرية، ونهاية تطورها الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي.

في رد مباشر على أطروحة فوكوياما كتب عالم السياسة الأمريكي الشهير صمويل هنتجنتون خلال عام 1993 مقالًا في مجلة Foreign Affairs بعنوان «صدام الحضارات»، العنوان ذاته الذي صدر تحته كتابه الأشهر «صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي» الذي توسع خلاله في أطروحته التي قدمها في ذلك المقال، الذي ذهب إلى أن المحرك الرئيسي للصراعات بين البشر في السنوات القادمة. في طريقه للتحول بعد انتهاء الحرب الباردة من الاختلاف الأيديولوجي، إلى اختلافات الهوية والثقافة.

اليوم وبعد مرور حوالي ثلاثين عامًا تقريبًا على أطروحة فوكوياما، يقدم لنا الأخير في مقاله المنشور حديثًا في عدد مجلة Foreign Affairs لشهري سبتمبر وأكتوبر من هذا العام، مقالًا تحت عنوان «ضد سياسات الهوية: العشائرية الجديدة وأزمة الديمقراطية»، وفيها تراجع جديد عن أطروحته الشهيرة «نهاية التاريخ»، هو الثاني بعد دراسته المنشورة في عام 2009 تحت عنوان «نهاية الريجانية»، ولكن في تقاطع لافت هذه المرة مع الأطروحة ذاتها التي قدمها هنتجنتون في نقد أطروحته المبكرة في نهاية عقد الثمانينات.


الهويات الصاعدة في زمن متصدع

خلال مقالته التي تشكل خلاصة كتابه الجديد «الهوية: الطلب على الكرامة وسياسات الغضب». المزمع صدوره في يوم 27/أيلول سبتمبر الجاري خلال حفل توقيع بجامعة ستانفورد الأمريكية، يقدم لنا فوكوياما قراءة ماتعة شديدة الواقعية لتحولات عالمنا الراهن، بعيدًا عن الصيغة الحالمة التي طبعت أطروحته الأشهر «نهاية التاريخ».

يبدأ فوكوياما مقالته المطولة بعرض التحولات الدراماتيكية التي شهدها العالم منذ أوائل السبعينيات وحتى العقد الأول من هذا القرن، حيث ارتفع عدد الديمقراطيات الانتخابية من حوالي 35 إلى أكثر من 110، وتضاعف الإنتاج العالمي للسلع والخدمات أربعة أضعاف، وتوسع النمو ليشمل كل منطقة في العالم تقريبًا، وانخفضت نسبة الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع ، حيث انخفضت من 42 في المائة من سكان العالم في عام 1993 إلى 18 في المائة في عام 2008.

يعقب فوكوياما على هذا الإحصاءات والمؤشرات باستدراكه، بأن الجميع لم يستفد من هذه التغييرات في العديد من البلدان، ولاسيما في الديمقراطيات المتقدمة، حيث ازداد التفاوت الاقتصادي بشكل كبير، وتدفقت فوائد النمو في المقام الأول إلى الأثرياء والمتعلمين، وأدت زيادة حجم البضائع والمال والأشخاص الذين ينتقلون من مكان إلى آخر تغييرات اجتماعية كاسحة.

كما انتقل التصنيع بثبات من الولايات المتحدة وأوروبا إلى شرق آسيا ومناطق أخرى مع انخفاض تكاليف العمالة. وفي الوقت نفسه، تعرض الموظفون في أسواق العمل التي تهيمن عليها صناعات الخدمات للتسريح بشكل متزايد، واستبدل العمال ذي المهارات المنخفضة محل آلات ذكية.

بنهاية المطاف، أدت هذه التحولات إلى تباطؤ الحركة نحو نظام عالمي يتسم بالانفتاح والليبرالية، وكانت الضربات الأخيرة هي الأزمة المالية العالمية في عام 2007– 2008 ، وأزمة اليورو التي بدأت في عام 2009. وفي كلتا الحالتين ، أنتجت السياسات التي وضعتها النخب فترات ركود هائلة، وارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض الدخول لملايين العمال العاديين.

ولأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هما النموذجان الرائدان للديمقراطية الليبرالية ، فإن هذه الأزمات قد أضرت بسمعة ذلك النظام، وهو ما تزامن مع تراجع ملموس للديموقراطية في جميع مناطق العالم تقريبًا. في نفس الوقت، حيث أصبحت العديد من الدول الاستبدادية ، بقيادة الصين وروسيا، أكثر حزمًا وتأثيرًا. وانزلقت بعض الدول التي بدت ديمقراطيات ليبرالية ناجحة خلال تسعينيات القرن الماضي إلى الوراء تجاه الاستبداد.

ورغم أن الثورات العربية في الفترة من 2010-2011 أدت إلى تعطيل الأنظمة الديكتاتورية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فإنها لم تسفر عن شيء يذكر فيما يتعلق بالديمقراطية، حيث حافظت معظم الأنظمة الاستبدادية في أعقابها على السلطة،واندلعت حروب أهلية طاحنة في ليبيا وسوريا واليمن.

الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب».

الأمر الأكثر إثارة للدهشة وربما الأكثر أهمية بحسب فوكوياما هو نجاح القومية الشعوبية في الانتخابات التي أجريت عام 2016 من قبل اثنتين من أقوى الديمقراطيات الليبرالية في العالم: المملكة المتحدة، حيث اختار الناخبون مغادرة الاتحاد الأوروبي، وفي الولايات المتحدة، حيث سجل دونالد ترامب مفاجأة انتخابية مروعة في السباق للرئاسة.

يعزو فوكوياما هذه التطورات التي تبدو ناجمة عن التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية للعولمة، إلى ظاهرة أخرى أكثر جذرية ألا وهي صعود سياسة الهوية. عوضًا عن سياسة القرن العشرين التي تم تعريفها بالأساس من خلال القضايا الاقتصادية،حيث تركزت سياسة اليسار في هذا الإطار على العمال، والنقابات، وبرامج الرعاية الاجتماعية، وسياسات إعادة التوزيع. وعلى النقيض من ذلك، وكان اليمين المحافظ مهتمًا في المقام الأول بخفض حجم الحكومة وتعزيز القطاع الخاص.

في المقابل أضحت السياسة اليوم تتمحور أقل فأقل حول الاهتمامات الاقتصادية أو الأيديولوجية في مقابل مسائل الهوية، حيث أصبح اليسار في العديد من الديمقراطيات، يركز بشكل أقل على خلق مساواة اقتصادية واسعة والمزيد على تعزيز مصالح مجموعة واسعة من الجماعات المهمشة، مثل الأقليات العرقية والمهاجرين واللاجئين والنساء والمثليين. في الوقت نفسه الذي أعاد خلاله اليمين ترتيب أولوياته ومهامه الأساسية التي انتقلت شيئًا فشيئًا من ضمان حرية السوق إلى مهمة حماية الهوية الوطنية التقليدية التي ترتبط في كثير من الأحيان صراحة بالعرق أو الثقافة أو الدين. ولكل هذه الأسباب أصبحت سياسة الهوية بحسب فوكوياما مؤشرًا هامًا ورئيسيًا لتفسير الكثير مما يجري في الشؤون العالمية.


الهوية والجراح النرجسية للكرامة

يقول فوكوياما إن الحرية ودرجة الاختيار الموجودة في مجتمع ليبرالي حديث يمكن أن تجعل الكثير من الناس غير سعداء وغير مرتبطين برفاقهم من البشر. حيث يجدون أنفسهم يحنون إلى مجتمع وهيكل الحياة التقليدية التي يعتقدون أنهم فقدوها، أو التي كان من المفترض أن يمتلكها أسلافهم.

يغري بعض الذين يتملكهم هذا الشعور، خطاب القادة والزعماء السياسيين الذين يقولون لهم إنهم تعرضوا للخيانة وعدم احترام هياكل السلطة القائمة، وإنهم أعضاء في مجتمعات مهمة سيتم الاعتراف بعظمتها مرة أخرى.

غلاف كتاب فرازر الأشهر: حظوظ النسوية

في هذا السياق ظهرت الحركة النسوية، التي سعت بالمثل إلى معاملة متساوية للنساء، وهي قضية ظل يشكلها ويحفزها تدفق هائل من النساء إلى سوق العمل، أدى إلى ثورة اجتماعية موازية، نتج عنها تحطيم الأعراف التقليدية فيما يتعلق بالجنس والأسرة.

خلال السنوات اللاحقة نشأت تحركات جديدة تعزز حقوق المعاقين والأميركيين الأصليين والمهاجرين والمثليين من الرجال والنساء والأشخاص المتحولين جنسيًا، في هذا السياق طالبت حركة الحقوق المدنية المبكرة لمارتن لوثر كنغ الابن، المجتمع الأمريكي بمعاملة السود بالطريقة التي يعامل بها البيض.

إلا أنه مع نهاية ستينيات القرن العشرين، ظهرت جماعات مثل «الفهود السود» و«أمة الإسلام»، جادلت بأن السود لديهم تقاليدهم ووعيهم الخاص، وأن على السود أن يفخروا بأنفسهم بهويتهم غير مهتمين بما يريده المجتمع الأوسع.

طالبت المجموعات المهمشة بشكل متزايد ليس فقط بأن تعاملها القوانين والمؤسسات على أنها تعادل الجماعات العرقية المهيمنة، بل كذلك أن المجتمع الأوسع يدرك ويحتفل حتى بالفوارق الجوهرية التي تميزها. وأصبح مصطلح «تعدد الثقافات» الذي يشير أصلًا إلى مجرد نوع من المجتمعات المتنوعة، علامة على برنامج سياسي يقدر كل ثقافة منفصلة وكل تجربة تعيش على قدم المساواة.

بحسب فوكوياما؛ مثّل انتخاب ترامب في هذا الإطار علامة صارخة على احتضان اليمين لسياسات الهوية. حيث يشعر العديد من أنصار الطبقة العاملة البيضاء. والمحافظون الذين يعيشون في المناطق الريفية، الذين هم العمود الفقري للحركات الشعوبية ليس فقط في الولايات المتحدة ولكن أيضًا في العديد من البلدان الأوروبية. بأنهم تعرضوا للتجاهل من قبل النخب. وعلى الرغم من كون الغالبية العظمي من هؤلاء أعضاء في مجموعة عرقية مسيطرة، فإن العديد من أعضاء الطبقة العاملة البيضاء أولئك يرون أنفسهم ضحية ومهمشة، هذه المشاعر مهدت الطريق لظهور سياسة الهوية اليمينية التي اتخذت، في أقصى حالاتها، شكل القومية البيضاء العنصرية الصريحة.


أزمة اليسار الغربي

بعد تعليق الماركسيين والديمقراطيين الاجتماعيين آمالهم في زيادة المساواة الاجتماعية والاقتصادية من خلال استخدام سلطة الدولة، وذلك عبر توسيع نطاق الوصول إلى الخدمات الاجتماعية لجميع المواطنين وإعادة توزيع الثروة. إلا أنه ومع نهاية القرن العشرين، اقتربت حدود هذه الاستراتيجية من نهايتها.

حيث كان على الماركسيين في ذلك الوقت مواجهة حقيقة أن المجتمعات الشيوعية في الصين والاتحاد السوفييتي قد تحولت إلى ديكتاتوريات غاشمة وقمعية. بينما في الوقت نفسه، أصبحت الطبقة العاملة في معظم الديمقراطيات الصناعية أكثر ثراءً وبدأت في الاندماج مع الطبقة الوسطى.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، انحسرت الماركسية إلى حد كبير، وعقد الديمقراطيون الاجتماعيون سلامهم مع الرأسمالية. وتقلصت طموحات اليسار في الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي الواسع النطاق، ليحتضن عوضًا عن ذلك سياسات الهوية والتعددية الثقافية في العقود الأخيرة من القرن العشرين. حيث استمر شغف اليسار بالمساواة كما هو، ولكن جدول أعماله تحول هذه المرة من التركيز السابق على مطالب الطبقة العاملة إلى مطالب دائرة متزايدة الاتساع من الأقليات المهمشة.


الهوية الموحدة عبر الدمج القسري

فرازر الأشهر، حظوظ النسوية

أكثر ما تناوله فوكوياما في مقالته خطورة هو دعوته الديمقراطيات الغربية إلى التعزيز الأيديولوجي لهوياتها القومية، التي لا يتم بناؤها كما يقول حول الخصائص الشخصية المشتركة، أو الخبرات المعيشية، أو العلاقات التاريخية، أو المعتقدات الدينية، بل حول القيم والمعتقدات الوطنية.

في هذا السياق يلوم فوكوياما ما وصفه بدعم اليسار الأوروبي في العقود الأخيرة شكلاً من أشكال التعددية الثقافية، الذي قلل من أهمية دمج القادمين الجدد في الثقافات القومية العقائدية. تحت راية مناهضة العنصرية.

في أطروحته الجديدة يدعو فوكوياما الدول الأوروبية إلى فرض شروط صارمة على تجنيس مواطنين جدد، وهو ما فعلته من قبل بحسبه الولايات المتحدة لسنوات عديدة، حيث تتوافر لديها العديد من الشروط والإجراءات الجادة، كالحاجة إلى إثبات الإقامة المستمرة في البلاد لمدة خمس سنوات، والقدرة على القراءة والكتابة والتحدث باللغة الإنجليزية. بجانب فهم تاريخ الولايات المتحدة وحكومتها، وإثبات التعلق بمبادئ ومثل الدستور الأمريكي عن طريق أداء قسم الولاء للولايات المتحدة.

يقترح فوكوياما لتعزيز الهوية القومية الأمريكية العقائدية أيضًا متطلب أداء الخدمة الوطنية، وذلك إما بالتجنيد في الجيش أو من خلال العمل في دور مدني، مثل التدريس في المدارس أو العمل في مشاريع للحفاظ على البيئة ممولة من القطاع العام.

جنود الجيش الأمريكي بالعراق، 25 مارس/آذار 2008م.

ويعتقد الأخير أنه إذا تم تنظيم هذه الخدمة الوطنية بشكل صحيح، فإنها ستجبر الشباب على العمل مع الآخرين من الطبقات الاجتماعية المختلفة، والأقاليم، والأعراق، تماماً كما تفعل الخدمة العسكرية، كما يدعو أيضًا في هذا الإطار إلى تدشين نظام وطني لتحديد الهوية الشخصية، لتتبع هويات العمال في الشركات وتمييز المواطنين والمقيمين من المهاجرين غير الشرعيين.

رغم إدراك فوكوياما للمخاوف المستقبلية من عواقب الاستبداد البيروقراطي الكبير والمركزي الذي يهدد الفردانية والخصوصية، ولاسيما ما تناولته الأعمال الأدبية الديستوبية كرائعة جورج أورويل «1984»، التي كانت بمثابة تحذير مفيد شكل رمزًا قويًا لملستقبل الشمولي الذي أراد الناس دومًا تجنبه، إلا أن فوكوياما يقلل من تلك التوجسات على حساب تخوفه من عواقب صعود سياسات الهوية الراهن.

ولكن بنهاية المطاف عندما نتأمل فحوى ما يدعو إليه فوكوياما كمطالبته بفرض الخدمة العسكرية والمدنية على المواطنين الأمريكيين، ودعوته إلى تدشين نظام وطني لتحديد الهوية، فإننا سنجد أن مثل هذه السياسات ستترك في الأخير آثارًا وخيمة على ملامح ونمط الحياة الأمريكي نفسه الذي يشكل الهوية العقائدية السياسية التي يدافع عنها فوكوياما.