لنفترض أن عُمر و آدم هما توأمان متطابقان فرقتهما الظروف، عاش عمر في أسرة هادئة ذات مستوى فوق متوسط وتلقى تعليمًا جيدًا حتى تخرّج من كلية التجارة في إحدى الجامعات الكبيرة وعمل محاسبًا في أحد البنوك الشهيرة، واشتهر بالذكاء وهدوء الطبع. بينما اتخذ مسار حياة آدم منحنى مختلفًا، فلقد تربى بين أبوين فقيرين في بيت متوتر، و تلقى تغذية سيئة وتربية قلقة وتعليمًا متقطعًا ثم توقف قبل الدخول للمرحلة الثانوية. التقى بعد ذلك ببعض الرفاق وعلموه السرقة، فتكونت عصابة صغيرة كان آدم هو أكثر أفرادها عنفًا. لم تستمر تلك العصابة كثيرًا، حيث وقعت في أيدي رجال الشرطة وكان أول يوم لآدم في السجن هو أول يوم لعُمر في البنك.

بالطبع يمكن للبيئة وظروف المعيشة أن تغير من شكل سلوكنا ومستقبلنا، ذلك أمر طالما تناقش فيه رجال علم النفس بنفس القدر الذي تنافس الروائيون في سرده عبر قصص التوائم بداية من The man in the iron mask، لكن أحدًا لم يبتعد لأكثر من الحديث عن قدرة الظروف على صنع تغيرات سلوكية فقط، لم يتصور أيهم أن لتلك الظروف ربما قدرة على تغيير جوهرنا، محتوانا من الحمض النووي نفسه، أو قل طريقتنا في التعبير عنه!


فئران لاعقة

http://gty.im/79809859

لنحقق فهمًا أفضل لتلك الفكرة دعنا نبدأ مع مجموعة تجارب شهيرة لمايكل ميني متخصص العلوم العصبية والنفسية في جامعة ماكجيل، كندا، وهي ما أثار الانتباه بالفعل لإشكالية كبيرة سوف نطرحها بعد قليل. كالعادة، سوف نبدأ من الفئران.

إحدى أهم صفات الأم في عالم الفئران هي قدرتها على لعق أطفالها، ومن المعروف أنه كلما ازدادت درجة لعق الأم لأطفالها كلما أصبح الأطفال فيما بعد أكثر لطفًا وهدوءًا و ابتعادًا عن المشكلات. والعكس صحيح أيضًا، كلما قل اللعق كانت الفئران أكثر اضطرابًا وتوترًا. تلك الصفة تتنوع درجاتها في الفئران، فيمكن بسهولة أن نجد أمًا لاعقة وأمًا غير لاعقة، وتكون النتائج دائمًا واحدة. نعم سيدتي، الأمر بسيط: العقيه كثيرًا يصبح مواطنًا مستقيمًا.

في التجربة سوف نكوّن مجموعتين من الفئران، المجموعة الأولى لفئران –أمهات- لاعقة مع أطفالها، والثانية لمجموعة أقل لعقًا. سندون النتائج الأولية لمجموعتينا وهي ذات علاقة بمستقبل هؤلاء الأطفال وسوف تظهر كما قلنا منذ قليل، هنا سوف يظهر أول الأسئلة: هل من الممكن أن تكون تلك النتائج مرتبطة بجينوم الأم؟؛ أي أن تلك الأم اللاعقة كانت هادئة في الأساس -جينيًا- و مررت تلك الصفة لأطفالها؟.

بالطبع ممكن، لذلك في تجربة ثانية سوف نقوم بتبديل الأطفال بين الأمهات، في المجموعة اللاعقة سوف نضع أطفال الأم غير اللاعقة والعكس، ثم ندون النتائج، وهنا تظهر أول النتائج الأكثر غرابة، فلقد تطور الأطفال ليس بحسب جيناتهم كما كنا نظن، و لكن بحسب كمية اللعق التي يتلقونها من الأم، بل ليس ذلك فقط، بل قام هؤلاء الأطفال –حينما نضجوا و تزاوجوا– بتمرير نفس الصفة لأطفالهم، ثم أطفال أطفالهم، ثم أطفال أطفال أطفالهم، …إلخ. اضطر ذلك مجموعات الباحثين لمحاولة فهم ما يحدث هنا عبر دراسة محتوى الـ DNA الخاص بكل منهم.


فوق الجين

الحمض النووي DNA هو شيفرتنا الخاصة، كل سمنتيمتر مربع من جلدك يحتوي على 100 ألف خلية، كل خلايا جسمك تحتوي في نواتها على نفس الشيفرة المخزنة عبر تتابع وحدات شريط طوله مترين تقريبًا من الـ DNA. ولفهم ذلك يمكنك تخيل أن هذا الحمض النووي هو كتاب ضخم يحتوي على كل معلوماتنا عبر تتابع الحروف في الكلمات، إنها نفس الحروف الثمانية والعشرين، لكنها رغم ذلك عبر تتابعها يمكنها خلق معنى/معلومة مختلفة.

بسبب طول الحمض النووي خاصتنا، فإنه يلتف حول بروتينات تدعى «الهستونات» صانعًا –في النهاية– مجموعاتنا الخاصة المكونة من 46 كروموسومًا. كانت المشكلة دائمًا هي التساؤل عن سبب تنوع أشكال خلايا الجسم، فهناك تقريبًا 200 نوع من الخلايا متنوعة التشريح والوظائف في جسمك، بينما نمتلك نحن نفس الحمض النووي في كل خلية. كيف إذن يعرف الحمض النووي الخاص بكل خلية منهم أنه يريد صنع تلك الخلية تحديدًا وليست الأخرى؟، كيف يعرف أننا نريد «كبدًا» هنا و«رئة» هناك و«مثانة» آخر الشارع؟.

يرتبط ذلك بما نسميه التعبير الجيني Gene Expression، وهو ببساطة عملية تحويل تلك المعلومات المحملة على الحمض النووي لبروتينات ثم خلايا فعلية تكوّن أجسامنا. لكن ما اتضح لنا هو أن ذلك يتم بشكل انتقائي، عبر مجموعة من العلامات Tags الكيميائية –كإضافة مجموعة ميثيل- التي يمكن لها أن ترتبط بالحمض النووي نفسه أو ببروتينات الهستون لتفعيل أو تثبيط جين ما على حساب الآخر. فحينما نود مثلاً صناعة «كبد» هنا أو هناك، فإن تركيز تلك العلامات الكيميائية المسؤولة عن تفعيل القطع من الحمض النووي التي تصنع خلايا كبدية سوف يكون كبيرًا في تلك الخلايا تحديدًا، فتحت تلك العلامات الكيميائية بابًا لعلم جديد ندعوه الـ فوق-جيني Epigenetics

يدرس علم ما فوق الجينات تلك التأثيرات للعلامات الكيميائية، كذلك –وهي نقطة اهتمامنا– يدرس قدرة بعض العوامل الخارجية والبيئية -كالظروف النفسية والتغذية- التي تثبّط أو تنشّط عمل الجينات؛ أي كيفية تأثير تلك العوامل على عملية قراءة –والتعبير عن– محتوانا الجيني. دعنا هنا نوضح نقطتين رئيسيتين:

  • المحتوى الجيني نفسه لا يتغير، يظل كما هو وينتقل من الآباء لأبنائهم كما هو، ما قد يتغير هو عملية «التعليم Tagging» التي تتم في الحمض النووي نفسه أو بروتينات الهستون. يشبه الأمر أن تكتب نفس الجملة بعلامات ترقيم مختلفة، كأن تقول إحداهن لك «أحبك كصديق طيب. أنت تدعمني كثيرًا» أو «أحبك. كصديق طيب أنت تدعمني كثيرًا»، فالمعنى قد يختلف تمامًا رغم أنها نفس الكلمات.
  • قد يتم تمرير تلك العلامات وقد لا يتم تمريرها، في البداية ظن الباحثون أن تلك العلامات يتم حذفها أثناء نقل جيناتك لأطفالك، لكن تبين فيما بعد أن ذلك لا يحدث لكل أنواع تلك العلامات الكيميائية.

ما حدث للفئران في تجربتنا السابقة كان عملية تثبيط للجين المتعهد بالاستجابة العنيفة. وكان الباحثون في جامعة ماكجيل سنة 2004 هم أول من أعلن عن نتائج تجريبية تؤكد وجود ارتباط بين عوامل اجتماعية ذات علاقة بتعديل فوق جيني.

علم ما فوق الجينات هو مجال حديث نسبيًا بدأ تأثيره يظهر في الثمانينات، على الرغم من ذلك أظهرت العديد من الأبحاث تواجد تلك التغيرات فوق الجينيّة حين يتعرض الخاضع للتجربة لمؤثرات بيئية معينة، كالتعرض مثلاً لنمط تغذية محدد. وظهر ذلك واضحًا في تغير معدلات وزن الفئران ولون الفرو وقابلية كل منهم لنشوء السرطان. تجارب أخرى أظهرت قدرة الفئران على تمرير مشاعر محددة للأجيال القادمة عن طريق العوامل فوق الجينية، كأن تنجب أطفالاً لديهم نفور/خوف من أدوات معينة كانت مصدرًا لتجارب سيئة لك أو لآبائك. تم تسجيل أكثر من 100 ظاهرة وراثية فوق جينية في مدى واسع من الكائنات الحية.

ظهرت تلك التأثيرات فوق الجينية في البشر، و أكدت دراسة التوائم المتطابقة في ظروف بيئية مختلفة نتائج مشابهة، حيث لم بجد الباحثون فروقًا بين التوائم في سن مبكرة، لكنها ظهرت فيما بعد حينما تقدموا في السن اختلافات فوق جينية واضحة، كذلك في تجربة «أوفر كاليكس» الشهيرة ظهرت تأثيرات واضحة على أحفاد رجال ونساء تعرضوا لمجاعة كبيرة في القرن التاسع عشر بالسويد، و لا زلنا لا نعرف بعد مدى وأفق تأثير ذلك النوع من التغيرات.


وجهة نظر علمية جديدة

عنصرية جينية فوق جينات epigenetics

فتح ذلك المجال بابًا جديدًا تمامًا لوجهة نظر مختلفة عن العالم البيولوجي. تقول وجهة النظر القديمة إن جيناتنا هي بصمات أصابعنا التي نورثها لأطفالنا، وهي ما يحدد كل شيء تقريبًا، بداية من لون العينين حتى معدلات الغضب والعاطفة والذكاء والقابلية للتعلم. هنا تدخلت فكرة الحتمية الجينية، وهي القول إن جيناتنا هي الشفيرة الثابتة التي نرثها من أسلافنا، والتي تتحكم تمامًا في مصيرنا. لكننا الآن أمام دور جديد قوي للبيئة، لظروف التربية، ولقراراتك الشخصية بالتدخين، تجنب الحمية الغذائية، الاستمرار في العمل رغم تسببه في ضغط عصبي، ولمتغيرات أخرى تظهر وتختفي مع مرور الزمن. لذلك سوف نتفهم جيدًا ما يقصده روبن هوليداي حينما يعرّف علوم ما فوق الجينات على أنها تلك التي «تُعنى بدراسة آليات التحكم الزماني والمكاني بنشاط الجينات، خلال تطور الكائنات الحية المعقدة». نعم، راقب تصرفاتك لأنها لا تؤثر فقط في مستقبلك، بل قد تمرر كسلك أو قلقك أو ميلك للتدخين لأطفالك أيضًا!.

في يوليو الفائت نشرت النيويورك تايمز تصريحًا لستيف كينج، عضو الكونجرس السابق، يتساءل فيه عن «ما الذي قدمه غير البيض للحضارة؟»، مستدلاً بأن معظم الإنتاج البشري العظيم كان من قبل أناس بيض البشرة. بالطبع تلقى كينج كمًا مناسبًا من الهجوم جراء عنصريته، لكن ما يهمني هنا هو ذلك التساؤل القابع في أعماق الجميع، هناك في الخلفية، فرغم ترديد الكثيرين لشعارات المساواة بين البشر إلا أنه لا زالت هناك بقايا تبحث عن إجابة لسؤال كينج: هل يمكن فعلاً أن نعتمد على نتائج كتلك لنقول أن البيض –مثلاً– أفضل –بشكل ما- من السود؟!.

الـ Epigenetics على غلاف مجلة التايم الشهيرة عدد يناير 2010

يعتمد ذلك السؤال في جوهره على مجموعة من القواعد التي سمحت بظهوره في المقام الأول، إحدى تلك القواعد هو ما نسميه «الحتمية الجينية»، وآخر له علاقة بمعنى «العرق» وهل هو اصطلاح علمي أم اجتماعي، والأخير له علاقة بمدى جدوى أسئلة كتلك وعلاقة العلم أو فلسفته بالبت فيها. دعنا نعتبر مقالنا هنا هو جزء أول من سلسلة قصيرة لتوضيح مدى تهافت الادعاءات العنصرية المبنية على أساسات تدعي أنها حقائق/نظريات بيولوجية. فحينما يكون للظروف البيئية تأثير واضح على جيناتنا يجب أن نتوقف لنسأل: من صنع من؟، هل هذه المجموعة من الأشخاص هناك هي من يتسبب في صنع حالة من العنف، أم أن تعامل المجتمع المحيط معها – بمستوى جمعي –وبمرور الزمن وتراكم الصفات– وعبر عمليات تغذية رجعية متتالية- على أنه كذلك هو ما صنع العنف؟

المراجع
  1. Can epigenetics underlie the enduring effects of a mother's love?
  2. Environmental programming of stress responses through DNA methylation
  3. Maternal methyl supplements in mice affect epigenetic variation
  4. Transposable elements: targets for early nutritional effects on epigenetic gene regulation
  5. Epigenetic differences arise during the lifetime of monozygotic twins.
  6. LIMBIC REGULATION OF HYPOTHALAMO-PITUITARY-ADRENOCORTICAL FUNCTION DURING ACUTE AND CHRONIC STRESS
  7. Epigenetics lessons from twins: prospects for autoimmune disease.
  8. Epigenetic programming by maternal behavior
  9. Lick Your Rats