سمح الفقه الإسلامي للمسلمين بالتخلص من «النفايات المقدسة» كالمصاحف البالية مثلاً، عن طريق الحرق أو الإغراق بالماء أو التمزيق، وهو ما لم يعتنقه اليهود الذين كانوا يتخلصون من أوراقهم المقدسة عن طريق الدفن فقط؛ لكي تبلى بطريقة طبيعية مثل أجساد الموتى.

هذه «القداسة الورقية» انسحبت ليس فقط على نصوص العهد القديم، ولكن على أي ورقة مكتوبة باللغة العبرية، فاللغة العبرية لغة مقدسة بحسب اعتقاد اليهود؛ لأنها لغة الرب، وبذلك فقد رأوا أن أي طريقة غير الدفن مثل: الإغراق بالماء أو التمزيق، هي طرقٌ غير مناسبة يمكنها أن تعرض المواد المقدسة المراد التخلص منها للتدنيس.

من هنا نشأت عادة طمر تلك المواد أو دفنها، وتطورت تلك العادة حتى أصبحت ظاهرة شائعة لدى اليهود في جميع البلدان، وكان يسبق ذلك تجميع تلك المواد البالية في المعابد بصفة مؤقتة إلى أن يحين وقت نقلها للدفن بمغارات في باطن الأرض، أو في القبور ولا بد أن تكون قبورًا لعلية القوم وليست المقابر الشعبية، ويطلق على هذه المواد اسم «الجنيزا – גניזה».

فما الجنيزا؟

كلمة الجنيزا هي كلمة عبرية، ولا توجد كلمة تشبهها في أي لغة أخرى، غير أنها اسم مشتق من الفعل الثلاثي «גנז – جَنَزَ»، وهو فعل موجود في معظم اللغات السامية، ففي اللغة العبرية يأتي بمعنى كَنز أي «حفظ، علق، خبأ، طمر، دفن»، وفي اللغة الآرامية (ܓܝܙ) بمعنى أخفى، وفي اللغة العربية بمعنى ستر.

وفي معجم لسان العرب جاء «جنز الشيء يجنزه جنزًا» أي ستره، والجنازة هي الرجل الميت، والشيء الذي ثقل على القوم فاغتموا به، وكلمة الجنازة أصلها نبطي[1]، ومصطلح «جنيزا»، في لغة الحاخامات (المشنا)[2]، لا يعني فقط دفن الأشياء من أجل الحفظ والاكتناز، انتظارًا لإمكان إعادة استخدام الضروري والثمين منها، بل يعني أيضًا: الدفن من أجل التخلص من المادة بشكل طبيعي، بطريق التحلل والاندثار، وهذا مماثل لدفن الجسد البشري بعد مفارقة الروح له[3].

تم تطبيق مفهوم دفن الأشياء على الكتابات الدينية اليهودية، سواءً لإعادة استخدامها من جديد (ولكن لم يحدث ذلك كثيرًا) أو التخلص منها باندثارها بصورة طبيعية مثل: جسد الميت.

والراجح أنه لما كان من غير المعقول القيام بدفن كل سِفر يُبلى في المقابر بصورة فردية، فقد كان يتم تجميع هذه المواد البالية في أي مكان مناسب في المعبد بصورة مؤقتة إلى أن تستدعى الحاجة إلى نقل هذه المواد عندما يضيق المكان بها، إلى مكان الدفن المستديم الذي لا بد أن يكون في المقابر من منطلق وجوب معاملة هذه المواد معاملة الأموات.

أطلقت كلمة «جنيزا» على المكان المؤقت أو المستديم وعلى المواد الموضوعة أو المدفونة فيه على حدٍّ سواء.

ومن الممكن أن يكون مكان «الجنيزا» من السعة؛ بحيث تمضي مئات السنين قبل أن يضيق بما يلقي فيه من مواد مجنوزة، كما هو الحال بالنسبة للجنيزا الموجودة في معبد بن عزرا بالفسطاط، والتي أطلق عليها اسم «جنيزا القاهرة» بعد أن اكتشافها وأعلن عنها العالم البريطاني اليهودي «شلومو شختر» عام 1896م، وبمرور الزمن لم تعد المواد التي تُلقى في «الجنيزا» قاصرة على الكتابات الدينية، بل شملت كذلك أوراقًا ومواد كتابية أخرى كثيرة لا تحمل من التقديس إلا القليل، والتي لا قدسية لها في أكثر الحالات.

ولما كان دفن مواد الجنيزا في المقابر هو بغرض تحللها واندثارها بطريقة طبيعية كالأموات، فقد بنيت مقابر الجنيزا تحت الأرض بالطوب المحروق أو الحجارة، حتى لا تتعرض تلك الكتابات المقدسة للتدنيس أو انتهاك حرمتها، رغم كونها خرجت عن نطاق الاستخدام، وكانت تلك المواد تنقل من مخابئها المؤقتة في المعابد إلى المقابر في موكب جنائزي؛ يتسم بطابع احتفالي بهيج في يوم يتم الإعلان عنه مُسبقًا، يسمى «يوم الجنيزا»، ولم يكن لهذا اليوم موعد محدد، بل كان يأتي حسب ما تمليه الظروف المحيطة بالجنيزات المؤقتة في المعابد كُل على حدة.

وعثر في جنيزا المقابر اليهودية في منطقة البساتين، التي تم استخراج بعض محتوياتها عام 1987م، على وثيقة تمثل إعلان عن «يوم الجنيزا» تدعو فيه اللجنة الإسرائيلية بالقاهرة جمهور اليهود، للمشاركة والاحتفال بنقل جميع كتب الصلوات القديمة غير الصالحة للاستخدام، والتي جمعت على مدار ثمانية أعوام من معبد «الأستاذ» بالقاهرة إلى مقبرة الجنيزا في حوش عائلة الموصيري، بالمقابر اليهودية بحي البساتين، وتحدد ذلك يوم الأحد الموافق السابع والعشرين من شهر كسليف سنة 5710 عبرية، الموافق الثامن عشر من ديسمبر سنة 1949م من معبد «الأستاذ» بحارة اليهود، الساعة الثامنة والنصف صباحًا بعد صلاة الفجر «תפילת שחרית»[4].

أحد مستندات «جنيزة القاهرة، المكتشفة في معبد «بن عزرا»

ذكريات اليهود المدفونة

لم يقتصر محتوى الجنيزا على المواد الدينية فقط، فقط عُثر على صور فوتوغرافية وصور أشعة وعظام وجماجم بشرية، وقطع من النسيج وستائر وأقمشة وسيور جلدية تمثل أجزاء من التفلين[5]، وأغلفة كتب من الخشب والجلد عليها تعاويذ سحرية.

ولكن يختلف أماكن وجود الجنيزا في معابد بلدان الشرق الأوسط الأخرى؛ حيث كانت توجد في المعابد أو فيما حولها، وكان مكان الجنيزا في المعبد يختلف من طائفة إلى أخرى وحتى في الطائفة الواحدة كان مكانها يختلف من معبد إلى آخر.

أشار مارك كوهين أستاذ التاريخ اليهودي إلى أنها من الممكن أن تكون في تجويف في الجدار كما في حائط البراق بالقدس، أو في الجزء الأسفل من دولاب الهيكل[6]، كما في معبد «صلا برمالي» ببنغازي في ليبيا، ومعبد «صنعاء» في اليمن، أو أسفل منصة الحزان[7]، كما في معبد «سقز» في مدينة سقز بإيران، أو تحت السلالم المؤدية من الفناء إلى السطح كما في معبد «قصر شيرين» في كوردستان الإيرانية.

المولى الحاخام سمحا، حفظه الله، يدفع لحاملها الفرج بعد الشدة، سُرعة سُرعة لأنني مُسِتعجل
ترجمة لأحد نصوص جنيزا بن عزرا

من المسموح له بدفن تلك المواد؟

في مصر كان الرجال ينقلون المواد المراد وضعها في الجنيزا، وأحيانًا الأطفال أيضًا والنساء ولكن شرط طهراتهم من الحيض، إلى حاخام المعبد والذي بدوره يقوم بدفنها، أما في البلدان الأخرى فقد اختلف الأمر.

طقوس نقل أوراق الجنيزا

ذكر مارك كوهين، أن هذه المهمة اقتصرت في إيران على قضاة المحاكم الدينية الذين كانوا يجمعون المواد من البيوت ويأتون بها إلى المعبد، وفي الدار البيضاء كان القضاة وطلبة العلم هم الذين يجمعون مواد الجنيزا، أما في أفغانستان فكانت جمعية «حافرا قاديشا» هي المسئولة عن جمع المواد من البيوت والقيام بدفنها.

أماكن وجود الجنيزا المؤقتة في القاهرة

أولًا: جنيزا معبد «ابن عزرا»

بمصر القديمة في الفسطاط، وهى حجرة بالطابق الثاني في المعبد، تكاد تكون صماء بلا نوافذ أو أبواب، إذا ليس بها سوى فتحة صغيرة نسبيًا في أعلى واجهتها الغربية، والمطلة على الجناح الشمالي من شرفة النساء؛ حيث كانت تلقى من خلال تلك الفتحة، والتي لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق سُلم، ولكون هذه الحجرة كبيرة الحجم فقد استوعبت وثائق كثيرة تغطي فترة كبيرة من التاريخ، (تقع بين سنتي 969م: 1869م).

اكتشفها شلومو شختر العالم البريطاني اليهودي، وأفرغها من كل محتوياتها، والتي أصبحت تشكل فيما بعد مجموعات مهمة من الوثائق في المؤسسات العلمية والأكاديمية في بعض بلدان أوروبا، والولايات المتحدة ولم يتبقَ منها أي وثيقة في مصر الآن.

ثانيًا: جنيزا معبد اليهود القرائين في العباسية

يعرف أيضًا بِاسم معبد «موسى الدرعي»، (25 شارع أحمد سعيد/ العباسية)، وفي هذا المعبد تقع الجنيزا في حجرة تحت سطح الأرض أسفل أرضية الحجرة الواقعة على يمين دولاب الهيكل، اكتشفت هذه الجنيزا بالصدفة؛ حيث كان يغطي أرضية الحجرة المذكورة، غطاء حديدي بمستوى أرضيتها على يمين الداخل، وعند إزاحته اتضح أنه يغطي فتحة مربعة الشكل، ولم يكن في هذه الحجرة أي شيء بالغ الأهمية، سوى صندوق توراة متهالك ومجموعة من الحروف العبرية المصنوعة من الخشب، ربما كانت تستخدم كلوحات إرشادية وغيرها.

ثالثًا: جنيزا معبد الأستاذ

كان هذا المعبد موجود في حارة اليهود بحي الجمالية بالقاهرة، ولا وجود له الآن، وإنما تم الاستدلال أنه يحتوي على جنيزا مؤقتة من خلال وثيقة بعنوان «يوم الجنيزا» تم العثور عليها بين وثائق جنيزا المقابر اليهودية بالبساتين التي قام المجلس الأعلى للآثار باستخراجها، سنة 1987م ضمن وثائق الجنيزا القاهرية الجديدة.

أحد مستندات «جنيزة القاهرة، المكتشفة في معبد «بن عزرا»

أشهر أماكن الجنيزا الدائمة في القاهرة

جنيزا المقابر اليهودية في «حوش الموصيري» بحي البساتين القاهرة

يرجع تاريخ المقابر اليهودية بتلك المنطقة إلى القرن التاسع الميلادي؛ حيث ذكر أن والي مصر آنذاك «أحمد بن طولون» خصص هذه المساحة من الأرض لدفن موتى اليهود المصريين، ولدى الطائفة اليهودية بمصر «حُجة» مسجلة تحمل شهادة الأطراف المعنية من اليهود والمسلمين، تتضمن حُكمًا قضائيًا من المحكمة الشرعية بمصر سنة 1059م، تثبت تخصيص هذه المساحة لليهود.

يا جميع خدامه إلا ما أعنتموني على جلب «ف ب ف» بحق موسى وعيسى ومحمد … العَجَل
تعويذة سحرية يهودية قديمة ضمن وثائق جنيزة بن عزرا

موضوعات الجنيزا التي تم إخراجها

  • معظم المخطوط العبري لابن سيرا.
  • أجزاء من الترجمة اليونانية للمقرا التي أعادها عيقلاس[8].
  • كتاب عهد دمشق.
  • أشعار قديمة لشعراء من فلسطين وبابل وإسبانيا.
  • مادة وفيرة عن تاريخ اليهود في فلسطين ومصر منذ الفتح الإسلامي حتى الحملة الصليبية الأولى، وهى فترة لم يعرف عنها الحاخامات أي شيء.
  • مادة وفيرة عن تاريخ طائفة القرائين.
  • وثائق أصيلة وتوقيعات شخصيات مهمة.
  • مادة تاريخية ووثائقية من بينها «بيوطيم» (قصائد دينية للإشكيناز)، وكتابات وخطابات وأشعار، من القرن الثالث عشر حتى القرن الخامس عشر بعبرية إشكنازية.

اشتملت وثائق الجنيزا أيضًا على معاملات حياتية ويومية، ووثائق تحث على التبرع، وكتابات وقضايا تخص الورث والزواج والطلاق، والحالات الوفاة، ووثائق لإنشاء المدارس، وقطع من ملابس الرجال.

تنوعت لغة الوثائق بين عبرية خالصة، وعربية بحروف عبرية، ولغات أجنبية مكتوبة بحروف عبرية، ومن هذه اللغات لغة الييديش ولغة اللادينو، والعربية اليهودية. (والتي تشبه في الشكل كتابة الفرانكو حاليًا)، ويمكننا اعتبارها بمثابة شاهد على الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية بين الطوائف اليهودية قديمًا في مصر ومختلف البلدان التي عاشوا فيها.

المراجع
  1. المعجم الوسيط
  2. المشنا: هي كتاب اليهود المقدس الثاني، والذي يأخذون منه الشرائع والأحكام
  3. وثائق الجنيزا اليهودية في مصر، جهلان إسماعيل، سعيد عبد السلام العكش.
  4. صلاة السحر أو الفجر، ووقتها حسب ما قررته المشنا حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأزرق إلى ارتفاع عمود النهار، وهناك صلاة نصف النهار «منحاه – מנחה»، وتجب عند انحراف الشمس عند نقطة الزوال إلى ما قبل الغروب، وصلاة المساء «الغروب ערבית»، ووقتها منذ غروب الشمس وراء الأفق إلى ان تتم ظلمة الليل الكاملة، أي ما قبل وقت العشاء عند المسلمين.
  5. التفلين: يستخدم التفلين أثناء الصلاة، والصندوق الأول يُسمى «תפילה של ראש» أي الجزء الخاص بالرأس ويوضع فى مُقدمة الرأس بين العينين على الجبهة بشريط من الجلد كعصابة حول الرأس ويسمى هذا الشريط الجلدي بـ«رصوعا» ويربط حول الرأس على شكل حرف الدال فى العبرية «ד»، وفى هذا التفلين المُخصص للرأس خلاصة العقيدة اليهودية فتحتوي على: قبول مملكة السماء، أيات التوحيد والخروج من مصر الذي يرمز إلي تجديد روح اليهودية لذلك فسر الحاخامات الأمر الإلهي على إنه تفلين يوضع بين العينين ليحفظه. أما الصندوق الثاني فهو مُخصص لليد ويُسمى « תפילה של יד « ويوضع على اليد اليُسرى ويربط بشريط طويل من الجلد « رصوعا « وتحتوي علي بيت واحد يوضع به رق واحد من الجلد مكتوب عليه أربع فقرات من التوراة كما ذكرنا.
  6. دولاب الهيكل: هو مكان يحفظ فيه لفائف التوراة.
  7. الحزان: هو مرتل التوراة وقت الصلاة في المعبد.
  8. عيقلاس: اسمه باليونانية أقيلاس أو أخيلاس، وهو أحد المتهودين الذي عاش في زمن الربي «عقيبا» أحد أحبار اليهود المعاصرين للمشنا في الفترة الأولى من تكوينها، وقد ورد عنه أنه ترجم المقرا إلى اليونانية.