محتوى مترجم
المصدر
متروبوليتيكس
التاريخ
2016/04/23
الكاتب
يوسف الشاذلي
كيف يؤثر تخطيط مدينة ما على الاحتجاجات بها؟ كيف تقيد المساحات العمرانية وتتيح الخيارات أمام المحتجين ماديًا ورمزيًا؟ كيف تختلف الاحتجاجات بين مدينة وأخرى؟ يصحبنا يوسف الشاذلي في جولة داخل ثورة الاسكندرية في يناير 2011 ويقارنها بالسيناريو المعروف للثورة ضد مبارك في 25 يناير 2011 في القاهرة، ليرينا كيف تضخمت الاحتجاجات في «العاصمة الثانية» لمصر بسبب الخيارات المتجاوزة جغرافيًا للمحتجين.
في يوم الثلاثاء، 25 يناير 2011، بدأت حركة احتجاجية، دشنتها مجموعة ضئيلة من النشطاء في الجزء الشرقي من الاسكندرية، في اجتذاب المزيد من المشاركين
في يوم الثلاثاء، 25 يناير 2011، بدأت حركة احتجاجية، دشنتها مجموعة ضئيلة من النشطاء في الجزء الشرقي من الاسكندرية، في اجتذاب المزيد من المشاركين. ومع نمو أعداد المتظاهرين، حاول النشطاء السيطرة على الحشود المتحمسة. يجلس سامح (اسم مستعار كجميع الأسماء الواردة في هذا المقال) على كتفي أحد أقرانه النشطاء، مرتديًا علم مصر كقبعة. وبينما يهتف بأعلى صوته، يحاول تقديم التعليمات للمحتجين، حيث قال: «أيًا من يمر بسيارة منكم، فلا يضربها، ولا يقف عليها، ولا يدمر أي ممتلكات، فنحن أناس محترمون».فيبتهج المحتجون ويصفقون ويلوحون بأعلامهم الصغيرة .. ويرددون شعار «تحيا مصر». يمر الحشد الصغير بمتاهة حي «أبو خروف»، وينضم إليهم المزيد من الأشخاص. يقترب ضابط من القادة الظاهرين للمسيرة، ويقول لهم «لا تغادروا محلكم، ابقوا في الأزقة من أجل سلامتكم». ولكن الناشط يتذكر بوضوح: «قال لنا ذلك، ولكن من الواضح، أن ذلك لم يكن من أجل سلامتنا… فهو لم يدر كيفية التعامل معنا .. لقد كانت الأعداد كبيرة جدًا. لذلك كان مهذبًا للغاية».ومع ذلك، عند تلك المرحلة، استمر شعور النشطاء بأن أعدادهم غير كافية، لذلك اذعنوا لنصائح الضابط، وتابعوا مسيرهم حول الحي، ليجتذبوا المزيد من الأشخاص مع تحركهم. وتصبح المسيرة الاحتجاجية بالفعل كبيرة جدًا. «شعرنا بأن الضابط كان خائفًا، وكأن مئات آلاف الأسئلة كانت تعصف بذهنه: من أين أتى كل هؤلاء الأشخاص؟ كيف سنتعامل معهم؟» حسبما يتذكر محمد. ولكن في هذه المرة عندما حاول الضابط مجددًا اقناعهم بالبقاء «بالداخل»، وعدم الخروج إلى الشارع الرئيسي، لم يذعنوا له. فقد كانوا مبتهجين بأعدادهم، وبالجدران المرتجفة لوقع هتافاتهم القوية. فاكتفى سامح بالتلويح على نحو مزدري للضابط المذهول، وتابع طريقه.«أصبحنا على الطريق الرئيسي. وعندما حدث ذلك، رأينا الأعداد الحقيقية لأول مرة… لم نتمكن من الرؤية بوضوح قبل ذلك، عندما كنا في الأزقة الضيقة. لقد كانت الأعداد ضخمة. وبشكل عفوي، نزلت دموعنا من هول المشهد». خلال تلك الدقائق القليلة، أجرى النشطاء إعادة تقييم أولي للوضع: «بينما بدأنا المسير، شعرنا بأنها ليست ثورة، بل بداية لإسقاط النظام.. إنها بداية سؤالنا عن حقوقنا، وتحقيق مطالبنا».

ما أهمية جغرافيا الثورة؟

إن كنا بصدد اختزال الثورة في أسبابها، فليس هناك حاجة للبحث بشكل خاص بشأن العلاقة بين المساحات والاحتجاجات. بل سنحتاج فقط إلى إلقاء نظرة على الآليات السببية الأوسع – على سبيل المثال، الاحباط، الذي يمثل في حد ذاته نتيجة لـالبطالة”، والفساد، وانعدام الحريات، وما إلى ذلك. ومع ذلك، إن درسنا الثورات كأحداث حيوية وبحثنا كيفية نجاح احتجاجات الشارع المحلية في اجتذاب المزيد من المشاركين، والتطور، وفي النهاية التحول إلى حشود جماهيرية واسعة، عند ذلك يصبح من المهم دراسة خصوصيات كل حالة محلية.
أن المساحات تصنع فارقًا. والجغرافيا، والطبوغرافيا، والتخطيط العمراني للمدينة يؤثر بشكل مباشر على طبيعة احتجاجات الشارع
وأوضح فيما يلي، وأتبع في ذلك نهج العديد من الباحثين، أن المساحات تصنع فارقًا، وأن الجغرافيا، الطبوغرافيا، والتخطيط العمراني للمدينة يؤثر بشكل مباشر على طبيعة احتجاجات الشارع. بشكل يفوق كونها مجرد مسرح أو خلفية للأحداث، تشكل المساحات التفاعلات بشكل مادي، وتعطيها الهدف، وتزود اللاعبين (أي المحتجين والشرطة) بالفرص، وتفرض قيودًا عليهم. سأوضح فيما يلي بعض تلك الأفكار ببيانات ميدانية مأخوذة من بحث أجريته في عاصمة مصر الثانية، الاسكندرية، منذ بدء ما أصبح معروفًا باسم «ثورة 25 يناير».بحلول نهاية العقد الماضي، أصبح النشطاء المصريين ممتلكين لشعور عملي ومتأصل بالقيود المكانية. وقد أدركوا أن اختيار موقع النشاط الاحتجاجي سيكون له عواقب عديدة. فعلى أساس الموقع، سيتغير مدى جذب الحركة الاجتجاجية للغرباء عنها؛ ستصبح قدرة قوات الشرطة على التعامل مع الاحتجاج أقل أو أكثر سهولة؛ والنشاط الاحتجاجي نفسه، وفق مورفولوجيته، سيصبح أقل أو أكثر أهمية. فالسير بالشوارع الضيقة لا يبدو أو يدل على ما قد يعنيه التظاهر بطول الطرق الواسعة. لقد مثل اختيار نقاط بدء احتجاجات 25 يناير 2011 موضوع ناقشٍ حادٍ بين النشطاء.حيث أراد البعض الالتزام بالنقاط المعتادة بوسط القاهرة، بينما اقترح آخرون بدء التحرك من أحياء الطبقة العاملة في ضواحي المدينة. واختاروا في النهاية تنظيم مسيرات تنتهي مساراتها بميدان التحرير، بدلًا من الدعوة لإقامة الاعتصامات المعتادة أمام نقابة الصحفيين أو المحكمة العليا. بالتأكيد لعبت الطريقة التي نُظمت بها الاحتجاجات الأولى دورًا هامًا في نجاحها.

الاسكندرية ليست القاهرة

يركز معظم التحليلات للثورة المصرية على القاهرة. ولكن إن وضعنا السمات المكانية لكل موضعٍ للاحتجاجات في الاعتبار، سنتمكن من رؤية إن كانت الأماكن والمواقع الجغرافية المختلفة تلعب دورًا في المدن الأخرى. فعلى سبيل المثال، لدى الاسكندرية جغرافيا مميزة جدًا: «تعطيها القيود المكانية صورة فريدة، فبينما يتبع التكتل الخط الساحلي لمسافة 40 كيلومتر،ويمتد عرضها بشكل متوسط إلى أقل من 4000 متر». أعطت تلك السمات الجغرافية الحشود الثورية في الاسكندرية تشكيلات مختلفة عن نظيراتها في القاهرة.وبينما تم التخطيط عادة للمسيرات في القاهرة لتبدأ من عدة نقاط حول ميدان التحرير ثم تتقارب للتجمع في النهاية بالميدان وتبدأ اعتصامًا، كان هناك تفضيلًا في الاسكندرية للمسيرات دون نقاط نهاية، بل تتزايد وتتحرك حول الشرايين الرئيسية للمدينة.وعندما حاول السكندريون استخدام النموذج القاهري عبر تدشين اعتصامات في مواقع مختلفة في المدينة (مثل، ميدان محطة مصر، أمام محطة السكة الحديد)، أدركوا سريعًا أنها لن تنجح بسبب تلك السمات الجغرافية؛ فليس هناك ميدان سكندري كبير ومركزي، ومتساوي البعد عن مواقع التظاهر كميدان التحرير. فأصبح معروفًا لدى النشطاء أن “الاعتصامات تفشل في الاسكندرية”. (اطلع على الرسم 1أ و1ب).
الشكل (1، أ) يوضح نقاط بدء التظاهرات والإشتباك، بالأسكندرية، فى 25 يناير 2011
كما كان الحال في القاهرة، تعين بدء المسيرات الأولى في الاسكندرية من أحياء مختلفة، وبشكل رئيسي من الأحياء الشرقية، التي يسكنها العديد من سكان العشوائيات ومنخفضي الدخل ( الصورة 2). وكما كان الحال في أجزاء عديدة من مصر، نادرًا ما تكون تلك الأحياء العشوائية في الاسكندرية شديدة الفقر. بل عادة ما تتكون من مبانٍ أسمنتية متوسطة الارتفاع منظومةٍ ضمن متاهة من الشوارع الضيقة والحارات، ما يجعل السيطرة على تلك الأحياء صعبة بشكل خاص.
الشكل (1، ب) يوضح التظاهرات فى القاهرة، بيوم 25 يناير 2011

تمركزت قوات الأمن المركزي (قوات مكافحة الشغب المصرية) في يوم 25 يناير 2011 في الشوارع الرئيسية التي شكلت الهيكل العظمي لتلك المتاهات من الأزقة. وقرر قادة التظاهرات ترك الحارات الضيقة والخروج إلى الشوارع الرئيسية. لم يكن ذلك قرارًا سهلًا. فقد صيغ النشاط الاحتجاجي في الاسكندرية، وفي مصر بشكل أعم، في السنوات التي سبقت الثورة بفعل العلاقة الضمنية بين المحتجين والشرطة.، التي يصفها فريديريك فايريل بأنها «تتمادى إلى الحد الكافي، ولكنها لا تتجاوز ذلك الحد أبدًا». فقد يؤدي تجاوز أحد الخطوط الحمراء، كسر أحد الحدود المتفاوض بشأنها ضمنيًا، مثل اتخاذ قرار قيادة تظاهرة إلى شارع رئيسي، إلى أحداث قمعية عنيفة.

الشكل (2): تظاهرات بشرق الأسكندرية

نتيجة لتلك الأساليب المستخدمة في يوم 25 يناير، وتحديدًا تدشين الاحتجاجات بالضواحي وليس بوسط المدينة، تعرضت قوات الشرطة للسحق؛ حيث تم نشرها ضمن مجموعات صغيرة نسبيًا حول المدينة، ما يصعب مهمة احتواء تحركات الحشود. وعبر جلب الاحتجاجات لتكون أقرب إلى منازل الأهالي وتحويل الأحياء السكنية إلى ميادين للمعارك؛ تغيرت طبيعة القتال بفعل تلك الأساليب. تشير سلوى إسماعيل إلى أن «الشرطة تميل إلى تنفيذ هجماتها في الشوارع الرئيسية بدلًا من الأزقة. ما يفسر جزئيًا سبب احتواء العديد من الأزقة على مقاهيها الخاصة واجتذابها لزبائن من الحي.يجب تذكر أيضًا أن حياة الزقاق لها قانونها الخاص للاختلاط المجتمعي، والذي يجب على الغرباء احترامه ليتم تقبلهم. ويجعل ذلك دخول الشرطة إلى الزقاق تطفلًا على مساحةٍ محميةٍ بشكل جماعي». وعلى النقيض، ستكون الاحتجاج الذي يتم أمام المحكمة العليا سياسيًا بشكل حاد، ما سيمنع الكثيرين من المشاركة، بينما يؤدي تحويل الأحياء السكننية إلى ساحات للمعارك إلى اجتذاب الكثير من الشباب للانضمام إلى الحركة.

المساحات والعلاقات بين المحتجين والشرطة

الشكل (2): تظاهرات بشرق الأسكندرية
كذلك أثرت السمات الجغرافية على النمط الخاص للعلاقات بين المحتجين والشرطة. فخلال العقد الذي سبق الثورة، تمحورت تلك العلاقات حول مجموعة من المشكلات العملية والتكتيكية. فكما أشار أحد النشطاء خلال مقابلة، لم يكن لمعظم الفعاليات الاحتجاجية نهاية مخططة. حيث قد تنتهي الفعاليات إن قررت الشرطة ذلك، سواء عبر التفاوض مع المحتجين ومطالبتهم بالمغادرة، أو عبر قمعها للتجمع الاحتجاجي.
عندما لم تتدخل الأجهزة الأمنية بنفس القوة المعهودة، ظهر العجز عن إقرار الخطوة التالية
نتج عن تلك العلاقات المطبعة مع الشرطة شعور قوي بالضبابية وعندما لم تتدخل الأجهزة الأمنية بنفس القوة المعهودة، ظهر العجز عن إقرار الخطوة التالية. وفي يوم 25 يناير 2011، لأن الوضع المكاني الخاص بالأحداث أعاق قدرة الشرطة على قمعها، ظهر وضع جديد تمامًا، ما خلق فرصًا جديدة وفرض قيودًا على اللاعبين العديدين على ساحة الاحتجاجات. علاوة على ذلك، كان لمشكلة تقرير النشطاء لكيفية إنهاء مسيراتهم جانبًا آخر. ففي غياب ميدان مركزي أو مبانٍ حكومية هامة، إلى أين يتعين عليهم توجيه الاحتجاجات؟ وقد أصبح ذلك واضحًا بشكل خاص بعد 28 يناير، عندما أُحرق معظم المقرات الشرطية والمباني الحكومية بوسط المدينة؛ عندما أصاب الارتباك النشطاء فيما يتعلق بالوجهة التالية المفترضة للأنشطة الاحتجاجية. بالفعل، إن كانت الثورة موجهة ضد الدولة، فكيف تثور عندما تختفي رموز الدولة؟ على خلاف الوضع في العاصمة.لقد حاولت في هذا المقال أن أسلط الضوء بشكلٍ موجزٍ للغاية على كيفية تأثير الترتيبات المكانية المحددة المتعلقة بالجغرافيا، الطبوغرافيا، أو التخطيط العمراني لمدينة ما، بشكل كبير على طريقة ظهور وتطور الاحتجاجات. ويقدم المقال بعض اللمحات فقط، بعد إجراء دراسات مثيرة للاهتمام متعلقة بحالات شرق أوسطية أخرى. ومع ذلك، تسعى تلك الورقة البحثية أيضًا إلى إظهار أننا يجب أن نتخذ السمات المحلية للفعاليات الاحتجاجية على محملٍ جادٍ جدًا، وعدم الاعتماد بشكل حصري على التفسيرات المجهرية للاضطرابات الاجتماعية.