محتوى مترجم
المصدر
التاريخ
2016/01/13
الكاتب

عندما نتحدث عن النضال النقابي فإن الأذهان تنصرف فورا بحكم التاريخ إلى الماركسية ونضال القوى العٌمّالية ضد البرجوازية الرأسمالية. فالنشأة التاريخية الحديثة للنقابات في صورتها الناضجة ارتبطت بالثورة الصناعية وازدهار الرأسمالية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث أدت صيرورة الانقسام الطبقي بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال، وما يرتبط بها من تنافر مصالح الطبقتين، إلى حاجة العمال إلى الانتظام في شبكات تعويضا عن الشعور بالعجر والتفكك إزاء البرجوازية المتحالفة والمتسلحة برأس المال وامتلاك وسائل الإنتاج. وفي عام 1871، اضطرت إنجلترا إلى الاعتراف بالأهلية الكاملة للنقابات العمالية.

ارتبط النضال النقابي مع الحركات الاشتراكية بعلاقات قويّة بحكم تلاقي الأهداف والمصالح. ولم يكن مفهوما في ضوء تلك الوضعية أن النقابات العمالية في الدول المتخلّفة الفارغة من قواعد إنتاجية ضخمة ورأسمالية متطورة يمكن أن تلعب دورا سياسيا غلى غرار قريناتها في الدول الرأسمالية المتقدمة. وبالطبع كانت النقابات المهنية غير العمالية أبعد بالتالي عن ذلك الدور السياسي، إذ لا محل لهم من الإعراب في الصراع الطبقي ضد البرجوازية التي ينتمي إليها كثير من أعضاء تلك النقابات أنفسهم.

أدت صيرورة التحديث الرأسمالي إلى تمفصلات جديدة في المجتمع على خلاف انقسامه الحدّي القديم بين البرجوازية والبروليتاريا.

كان من الطبيعي أن يتراجع الحديث عن النقابات وعن الدور الطليعي للقوى العُمّالية في المعارضة السياسية الثورية بعد الحرب العالمية الثانية، إذ كان استيعاب الرأسمالية للطبقة العمالية، والذي تنبأت به أصوات يسارية منذ مطلع القرن العشرين، قد بلغ ذروته. بل إن النقابات العمالية تحوّلت اجتماعيا من قوى ثورية إلى قوى إصلاحية تعمل على تدعيم النظام القائم عبر حماية توازنه الاجتماعي ونظامه الإنتاجي من الطمع أو الطموح الأعمى لأي من مكوناته.

أدت صيرورة التحديث الرأسمالي إلى تمفصلات جديدة في المجتمع على خلاف انقسامه الحدّي القديم بين البرجوازية والبروليتاريا. فنشأة دولة الرفاه بجهازها البيروقراطي القوي ونخبها السياسية التي تعمل بشكل شبه مستقل عن الإرادة الشعبية التي كان يفترض بالديموقراطية التثميلية أن تجسدها من جهة، والتحام مصالح العمال وأصحاب رؤوس الأموال في نظام العمل الرأسمالي واستمراريته وانضباطه من جهة أخرى، أفرزا فئات اجتماعية جديدة، عابرة للطبقات، تشعر بالاغتراب إزاء تحالف قوى رأس المال والنخب السياسية، ونزوعهما المحافظ الذي تغذيه آلة إعلامية تتلاعب بعقول الجماهير مستَلَبة الإرادة.

http://gty.im/558669059

(احتلال السوربون من قبل جموع الشباب الغاضبين في فرنسا 1968)

وفي هذا السياق، ازدهرت أطروحات رائد حركات اليسار الجديد هربرت ماركوز الذي رأى في الحركات الثقافية الطلابية والحركات النسوية والجندرية ونحوها من الحركات أو الأيديولوجيات الصغيرة، قوى تحررية بديلة، يمكن أن تقوم بالدور الذي لم تقم به القوى العمالية التي جرى تدجينها. وربما كانت آخر صيحة سياسية تطلقها النقابات العمالية هي إضراب نقابات عمال الفحم القوية في إنجلترا 1984/ 1985 والذي واجهته الليبرالية الجديدة مارجريت تاتشر بالكثير من المكر السياسي والعنف حتى نجحت في القضاء على آخر صوت نقابي قوي في الديموقراطيات الغربية.


الإخوان والنقابات السياسية

لم يعد ممكنا الاعتماد على النموذج الماركسي الكلاسيكي للنضال النقابي في فهم وتوجيه ديناميات الصراع السياسي في الديموقراطيات الحديثة، فضلا عن الأنظمة التوتاليتارية. لكن حركة تضامن النقابية التي بدأت في بولندا أغسطس 1980 كانت قد قدّمت نموذجا جديدا تلعب فيه الحركة النقابية الدور الطليعي في التحول الديموقراطي. فنجاح ليخ فاليسا في تأسيس أول نقابة عمالية لا تخضع لسيطرة الحزب الشيوعي في الكتلة الشرقية، والتي انضم إليها في زمن قياسي حوالي 10 مليون عامل، إلى الوصول إلى إصلاحات سياسية واسعة في 1989 والتحوّل إلى حزب سياسي يقود البلاد، كان مُلهِما للقوى السياسية المعارضة في الدول التي لم تحظ بعد بتحوّل ديموقراطي حقيقي.

http://gty.im/53464151

على إثر ذلك انطلقت صيحة المجتمع المدني كطليعة للتحوّل الديموقراطي لتأطير تجربة حركة التضامن البولندية، وهي الظاهرة التي رصدها عزمي بشارة في كتابه «المجتمع المدني: دراسة نقدية» (2015 [1995])، حيث انتقل اليسار العربي المُنهَك ومعه المثقفون الجدد من العمل السياسي الحزبي التقليدي إلى مكاتب وقاعات مراكز الأبحاث والمؤسسات غير الربحية (المدعومة طبعا) التي أطلق عليها «المجتمع المدني».

أتاح ذلك العزوف عن العمل السياسي من قبل قوى اليسار والقوميين التي افتقدت رونقها سلفا الفضاء الكافي لتمدد الحركة الإسلامية متمثلة بالأساس في جماعة الإخوان المسلمين في النقابات المهنية في مصر. وعلى خلاف مؤسسات المجتمع المدني النخبوية، انخرطت النقابات في نضال سياسي وحقوقي ضد النظام والدولة. وقد بلغ ذلك النضال ذروته في اجتماع 1990 الذي عقدته النقابات المهنية المصرية في نقابة الأطباء، وطالبت فيه الرئيس مبارك بالتخلي عن رئاسة الحزب الوطني، وإلغاء قانون الطوارئ، وإطلاق حرية الصحافة، وإجراء انتخابات نزيهة. وقد بدأ النظام على إثر ذلك خطة شاملة لتقويض العمل السياسي عبر النقابات، بدءا من حل مجالس النقابات التي لا تروق للنظام والتي تحظى بها أغلبية إخوانية، واعتقال النشطاء النقابيين، وصولا إلى قانون 100 لعام 1993 تحت عنوان ’’قانون ضمان ديموقراطية النقابات المهنية‘‘ الذي وضع شروطا تعجيزية تضمن، على خلاف عنوانه، فشل أية عملية ديموقراطية تفرز مجلسا نقابيا حرا. ومنذ مطلع الألفية، تحوّلت استراتيجية الإخوان المسلمين في النقابات من الصدام السياسي المباشر إلى الحفاظ على موازنات تضمن لهم الحفاظ على تلك المساحة الاجتماعية على أقل الأحوال بعيدا عن السطوة الأمنية.

http://gty.im/52832974


الربيع العربي وانتفاضة الأطباء: انبثاق طبقة اجتماعية جديدة

إن أية محاولة لاستيعاب الربيع العربي وقواه الاجتماعية وحركاته الشبابية في أي من النماذج السابقة لن يؤدي إلا إلى مزيد من التشويه في الوعي بالظاهرة ومحرّكاتها ومآلاتها. فالربيع العربي لم يكن ثورة قوى الشعب الكادحة ضد أنظمة نيوليبرالية فحسب، حيث أن القطاع العريض من مشعلي فتيله كانوا من شباب الطبقة الوسطى الميسورين، ولا يكفي شعورهم بالفساد الاقتصادي واختلال العدالة الاجتماعية ومطالبتهم بها لاعتبارهم مجموعة من الاشتراكيين الثوريين أو طليعة لثورة البروليتاريا.

ربما يكون النموذج الأقرب لتأطير الحراك العربي هو نموذج ثورة الشباب الثقافية في الستينات، غير أن خطورة هذه المقولة تبدو أكبر من سابقتها إذ أنها تغفل غياب التمفصلات الاجتماعية التي أشرنا إليها بين الدولة والسوق والفئات الاجتماعية المهمّشة والشعور بالاغتراب في ظل الديموقراطية التمثيلية الغربية، التي هي غائبة عربيا بالفعل. ولا يكفي تطلع الشباب في كلتا الحالتين إلى الانعتاق من القوى التي تستلب الإرادة الفردية للتسوية بين الحالتين، ومن ثم التعاطي مع الحالة العربية باعتبارنا إزاء دولة قوية ذات مؤسسات تقوم بوظائفها، وأمام رأسمالية إنتاجية تخلق مجتمع وفرة عربي يتخلص من الفقر! لقد أدى مثل هذا الوعي الزائف إلى مواقف جد هزلية تجاه الربيع العربي تدّعي سعيها نحو التحديث أو حتى نحو بناء نموذج حضاري عربي أو إسلامي خاص.

خلقت العولمة طبقة اجتماعية جديدة ممتدة في الهرم الاجتماعي من الشباب بالأساس، تجتمع تلك الطبقة على التطلع إلى الالتحاق بالحضارة الغربية.

أما استلهام نموذج النقابات المسيّسة في بولندا وفي مصر التسعينات لتفسير انتفاضة الأطباء الأخيرة، أو اعتبار نجاح الربيع العربي تتويجا لجهود المجتمع المدني فيبدو أقرب إلى الأوهام النخبوية منه إلى التحليل الاجتماعي. وكذلك لا يصب اعتبار حراك نقابة الأطباء تسييسا للنقابة سوى في صالح سرديات النظام عن المؤامرات الإخوانية والعرقلة العالمية من ’الجيل السابع‘ لمسيرة التحديث الوهمية التي يقودها. فالجميع يعلم أن أعضاء مجلس النقابة والذين يحظون كما أظهرت الجمعية العمومية الطارئة بتأييد استثنائي، لا يرتبطون بأية قوة سياسية منظّمة.

ما الذي حدث إذن؟

إن ما تجادل عنه هذه المقالة هو أن العولمة التي تسربت بنعومة في الثمانينات والتسعينات، ثم بدأت فرض نفسها بخشونة منذ مطلع الألفية وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، قد خلقت طبقة اجتماعية جديدة ممتدة في الهرم الاجتماعي من الشباب بالأساس، تجتمع تلك الطبقة على التطلع إلى الالتحاق بالحضارة الغربية في صيغتها الديموقراطية الليبرالية وإن بتعديلات يفرضها السياق العربي ومشكلات الديموقراطية الليبرالية ذاتها.

أسهمت العديد من التغيرات العولمية في صناعة تلك الطبقة. فالضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على الأنظمة العربية لإتاحة مجال لعملية ديموقراطية صنعت فضاء كان مفقودا، أتاح عودة ’الشأن السياسي‘ إلى الحياة العامة. كما أن وسائل الإعلام الخاصة التي أسستها النخب الاقتصادية الجديدة المتحالفة مع النظام الذي انتهج سيسات انفتاح اقتصادي، خلقت حالة من الجدل العام حتى وإن حاولت تدجينه. لقد صارت قطاعات عريضة من الشعوب العربية تعيش عبر الأقمار الصناعية والإنترنت وما تقدمه من سينما ودراما أجنبية امتدت إلى تركيا، حياة الغربيين بتفاصيلها وإغراءاتها الشكليّة على الأقل.

بلغ الأمر ذروته بظهور وسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسها الفيسبوك، الذي اجتذب الشباب تدريجيا حتى صار ملتقى للتنوير.

لماذا الأطباء؟

يمتاز الأطباء أكثر من غيرهم من المهنيين بارتباطهم الدراسي الطويل والمتواصل بمطالعة أحدث التطورات العلمية عبر الانترنت، وربما بدراسة مقررات والاستماع إلى محاضرات غربية تصدرها كبرى الجامعات بغية الحصول على شهادات علمية تساعد الطبيب على الحصول على فرصة سفر جيّدة خارج مصر. يضاعف هذا من الطموح التحديثي والشعور بالتخلف والغُبن المحلي وبمدى هزلية خطاب النظام ومبرراته، لدى الأطباء؛ مما يجعلهم في القلب من تلك القوة التحديثية الهائلة.

http://gty.im/134284467

حراك نقابة الأطباء هو حراك مؤسسة حديثة في ضوء قيم الديموقراطية والحريات وسيادة القانون لا حراك مؤسسة أهلية قبل-حديثة.

مما يدعم تلك الرؤية التي نجادل عنها أننا إذ نتناول حراك نقابة الأطباء، فإننا لا نجد أنفسنا حيال مؤسسة أهلية قبل-حديثة تحاول حماية بعض أعضائها، بل إننا أمام مؤسسة حديثة تتحرك في ضوء قيم الديموقراطية والحريات العامة والفردية وسيادة القانون، ومن ثم فإن محاولات تدجين ذلك الحراك عبر تسويات غير قانونية اعتادت عليها الأنظمة العربية مع البنى الأهلية من قبيل العشيرة عبر رجال الدين ذوي السمعة الطيبة مثلا، لن يكون لها أثر يذكر في تلك الحالة.

مهما كان مصير انتفاضة الأطباء ومهما كانت صيرورة الربيع العربي، فإن طموح التحديث الذي ينبع هذه المرة من القاعدة الاجتماعية لا من السلطة كما بدأ قديما، سيستمر لتقويض الأنظمة السياسية التي تحاول العودة إلى حالة من الاستبداد الطبيعي. والخطورة الكبرى هي في تفكيك محرّكات تلك الحركة وقنوات صناعة ذلك الطموح كوسائل التواصل والتطلّع إلى تعليم أفضل على النسق الغربي، وهو ما يجب على النخب الثقافية مواجهته عبر فضح مدى تخلّف النظام السياسي القائم.