كانت تجربة ثرية للغاية مشاهدة مسلسل «Westworld» الذي كان على الأرجح عملًا غير مسبوق من قبل في الدراما الغربية. لم يتمتع أي مسلسل درامي بهذا الثقل الفكري والبنية الرمزية المعقدة من قبل، وهو أمر ربما اعتادت هوليود على تقديمه في العديد من أفلامها كسلسلة أفلام The Matrix الشهيرة على سبيل المثال، إلا أننا لم نعهده في المقابل في الإنتاج الدرامي الأمريكي السائد رغم تطور مستواها الفني بشكل لافت وضخامة إنتاجها، ولاسيما خلال السنوات القليلة الماضية.

كانت الحلقة الأخيرة من الموسم الأول لمسلسل Westworld تحديدًا هي الحلقة التي تم الكشف فيها عن كامل البناء الرمزي للمسلسل وراء بنيته الدرامية التي تتناول قصة تدور في عالم المستقبل في إطار الأحداث التي شاهدها الجميع عن ذلك المنتزه أو المنتجع ومهندسيه وضيوفه ومضيفيه الذين ارتقى ذكاؤهم الاصطناعي لمستوى الوعي البشري، وما يدور بداخل ذلك المنتجع ووراء كواليسه. هذا البناء ظلّ كأحجية غير مكتملة إلى أن كشفت عنه الحلقة الأخيرة من المسلسل بصورة ربما لم يستوعبها كثيرون.

هذا البناء أو الإطار الرمزي باختصار هو كامل قصة الجنس البشري والتاريخ الإنساني في مختلف سردياته؛ سردية قديمة عن البشر والآلهة انتهت في الجزء الأول، وسردية أخرى منتظرَة في الموسم الثاني لما تبدأ أحداثها بعد.


حلم داخل حلم

كما أشرنا تقع أحداث المسلسل في منتزه Westworld الخيالي الذي يكتنف داخله عالمًا موازيًا يحتوي على روبوتات محاكية تمامًا للبشر، تقوم بتلبية رغبات الزوار الأثرياء. الذين يستطيعون فعل ما يريدون داخل المنتزه دون الخوف من انتقام أشباه البشر هؤلاء.

عبر حبكة متقنة تحاكي الحلم داخل الحلم، يسعى جوناثان نولان وجاي جاي أبرامز، مؤلفا العمل، إلى استخدام أشباه البشر كمجاز عن البشر في هذه الحياة، والبشر ذاتهم داخل البنية الدرامية كمجاز عن الآلهة، وإسقاط زيف واصطناع الحياة في المنتزه الخيالي، على الحياة الحقيقية ذاتها خارج المنتزه، عبر تحويل المنتزه إلى ما يشبه مرآة داخل مرآة، يرى المشاهد خلال انعكاس لمعانها المركب موجزًا لقصة الإنسانية كما يراها نولان وأبرامز.

من خلال شخصية دولوريس بوجه خاص، تلك الفتاة التي لعبت دورها الممثلة الأمريكية إيفان رايتشل وود، التي تكتشف شيئًا فشيئًا أن حياتها كلها محض أكذوبة محكمة السرد، تتطور أحداث الموسم الأول من مسلسل Westworld، عبر حبكة دارمية تدور بين زمنين مختلفين، لا يكتشف المشاهد حقيقة سياقها الزمني إلا في الحلقة الأخيرة من الموسم الأول.


الميثولوجيا ما بعد الحداثية

كجزء من السردية الأولى التي أشرنا إليها يحتوي المسلسل بالفعل على مزيج معقد من القسمات والملامح الرئيسية في الأديان والميثولوجيا من مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية، حيث تتماهى دورة حياة المضيفين الآليين القصيرة وتكرارها المستمر في دائرة مغلقة (loop)، وهو ما تمت الإشارة إليه في المسلسل صراحةً وضمنيًا العديد من المرات، مع فلسفة العود الأبدي للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه التي مفادها أن الزمان يعيد نفسه بشكل مستمر، حيث يعود إلى نقطة البداية في كل مرة، ثم يقوم بتكرار الأحداث التي اكتنفتها سابقًا.

تتصل الفلسفة السابقة في جذورها بعقيدة تناسخ الأرواح في ديانات الشرق الأقصى والتصوف اليهودي والغنوصية المسيحية، والديانات الإيرانية كالزرادشتية، التي استوحى نيتشه من تأملات مؤسسها كتابه الشهير «هكذا تكلم زرادشت»، الذي طرح فيه فلسفته تلك، والتي تتناول طبيعة الزمن وحقيقته.

من الملامح الرئيسية في هذا السياق أيضًا الإيماء الرمزي وتصوير المهندسين وضيوف الحديقة من البشر كآلهة، مع تصوير المضيفين الآليين الشبيهين كبشر مخلوقين على شاكلتنا، حيث تكرّرت الإشارات إلى ذلك بشكل كثيف في حوارات الشخصيات الرئيسية للعمل الدرامي عبر التعبيرات اللفظية الصريحة التي تحيل وتؤكد هذا المعنى، دون الاعتماد حتى على التورية الرمزية، التي يمكن استيعابها وملاحظتها رغم ذلك دون كثير من العناء.

انتوني هوبكنز ( يمين )و جيفري رايت (يسار)

يعد الملمح الأبرز في تلك السردية الدينية والميثولوجية في الموسم الأول برمته هو ذلك الصراع المحوري بين شخصيتي فورد من جهة وشريكه السابق أرنولد الذي تعاطف مع المضيفين الشبيهين بالبشر في منتجع أو حديقة Westworld من جهة أخرى، وهو الصراع الذي يتساوق رمزيًا بشكل وثيق للغاية مع أسطورة الخلق في الميثولوجيا الإغريقية، وتحديدًا في قصة الصراع بين زيوس وبروميثيوس.

والقصة الأسطورية لمن لا يعرفها هي أن زيوس قد عهد إلى بروميثيوس وأخيه أبيمثيوس بتشكيل الحيوانات والبشر، فقام الأخير بتشكيل الحيوانات بينما شكل بروميثيوس البشر الذين هام بهم حبًا بنهاية المطاف أكثر مما توقّع زيوس الذي لم يشاركه ذلك الحب. ولذلك، أعطى بروميثيوس البشر العديد من العطايا والهبات التي سرقها من آلهة الأوليمب كشعلة النار التي منحتهم الدفء وآنستهم بنورها الذي أضاء لهم عتمة الليل، وهو ما أدى إلى غضب زيوس وتطور الأحداث في اتجاه النهاية المعروفة لتلك القصة التي تعد الأسطورة الأشهر في الميثولوجيا الغربية، عندما عاقب بروميثيوس، الذي تلقى عقابه متماسكًا لأن البشر يعيشون حياه سعيدة.

ولكونه، كما تقول الأسطورة، بعيد النظر وقادرًا على التنبؤ، فقد كان يعلم أنه سيأتي أحد الأبطال يومًا ما ويخلّصه من عذابه. حيث تنبأ بأنه سيأتي من نسل زيوس من يقتله ويتولى الحكم من بعده، لتكون بذلك نهاية زيوس.

لتلك القصة المشار إليها تنويعات واسعة في الحقيقة في الفلسفة والتاريخ الديني بصورة قد لا يتخيلها كثيرون، حيث نجد لتلك القصة الإغريقية المذكورة ارتباطات ضمنية مع سرديات الديانات الثنوية في العالم القديم كالزرادشتية والمانوية والميثرائية، وفي فلسفة الأفلاطونية المحدثة بجانب الغنوصية المسيحية في الخلاف بين إله النور وإله الظلام، وبين الإله الصانع للعالم المادي والإله الترانسندنتالي كما يسمونه.

ولتلك القصة الأسطورية القديمة التي انعكست في الحقيقة على كامل دراما المسلسل في موسمه الأول، تأثيرها النافذ كذلك في التاريخ غير المروي للطوائف الإسرارية في العالم، التي اعتبرت برومثيوس أو ما يمثله في الأديان والفلسفات بمثابة المهندس الأعظم للكون الذي تم غبن حقه، وبعضها اشتق من سرديته الميثولوجية، وتحديدًا من قصة النار التي أعطاها للبشر، اسم جمعيته كجمعية «المتنورون» الشهيرة في بافاريا الألمانية التي تعرّضت أنشطتها للحظر في نهايات القرن الثامن عشر، التي يتم ترجمة اسمها خطأ في بعض الأحيان إلى العربية بالشعلة البافارية.

تستمد تلك الأخيرة اسمها كما يظهر من بعض الإشارات من شعلة بروميثيوس التي أعطاها البشر في السردية الأسطورية المشار إليها، وهي التي تم استخدامها بعد ذلك كرمز مجازي شهير تاريخيًا في الأدبيات الغربية .

برومثيوس يحمل شعلة النار

ظهرت تأثيرات لاحقة لتلك الجمعية بعد حلّها وحظرها رسميًا في ألمانيا، من خلال علاقة تلك الجمعية الألمانية القديمة بجمعية اليعاقبة في فرنسا التي لعبت دورًا كبيرًا في الثورة الفرنسية، حيث عاشت فرنسا بعد ذلك بفترة ما سمي بـ «عصر الأنوار»، وانطلق منها «التنوير» إلى أوروبا والعالم برمته. اسم التنوير بحد ذاته لم يأتِ هنا اعتباطًا، حيث كانت مفاهيم التنوير الفرنسي ذات الموقف المعروف من الدين هي المفاهيم ذاتها التي كانت تدعو إليها الجمعية الألمانية المحظورة.

وللقصة أيضًا من جهة أخرى سرد آخر نقيض في الأديان الإبراهيمية، يتسم بالوحدة التي تضفي قدرًا من المعيارية يسمح لنا من البداية باكتناه الجوهر الواحد لتك السرديات الميثولوجية المتعددة في نسق معتقدات تعدد الآلهة أو المعتقدات الثنوية، وهو سرد قصة الخلق والاختصام في الملأ الأعلى بعد خلق الإنسان، وموقف الشيطان المعروف في هذا الصدد. وهي سردية نجد شظاياها بصور مفككة ومتناثرة في العديد من ميثولوجيا الديانات الوثنية، والديانات الثنوية كالزرادشتية أو المجوسية كما كان يسميها العرب قديمًا، التي كانت تمجّد النار – معدن الشيطان – كرمز مقدس.

وانتهاءً في هذا الإطار بالـ Urban Myths أو الميثولوجيا الحضرية، الحداثية وما بعد الحداثية، في السينما والأدب، التي حرصت عادةً على تمجيد الشيطان في اللاوعي، أو حتى صراحة بلا مواربة في بعض الأحيان، وهو ما نجد له أيضًا نماذج موازية في الأدب العربي الحديث، الذي ضم أعمالًا أدبية شهيرة في هذا الإطار لرموز مدرسة الحداثة في الشعر العربي، كقصيدة «كلمات سبارتكوس الأخيرة» لأمل دنقل التي يستهل أول أبياتها بعبارة: «المجد للشيطان».

وهو ما يظهر كذلك في أعمال فكرية معروفة في الإطار ذاته ككتاب «نقد الفكر الديني» لصادق جلال العظم، الذي يحتوي أحد فصوله المعنونة بـ«مأساة أبليس»، عن دفاع عاطفي عن هذا الأخير.


الزرادشتية والدراما الأمريكية

برومثيوس يحمل شعلة النار

يعد مسلسل Westworld أيضًا جزءًا من الظاهرة نفسها التي اختتمنا بها الحديث في الفقرة السابقة، والتي تنامت على المستوى الفني مؤخرًا، وعبّر عنها العديد من المسلسلات في الدراما الأمريكية، كمسلسلي Lucifer وDaredevil.

تصميم دعائي ترويجي لمسلسل Lucifer

وينسحب هذا أيضًا على مسلسلات أخرى قد لا يتصور القارئ تساوقها مع هذا الاتجاه، كمسلسل «Game of Thrones» المبني على سلسلة روايات «A Song of Ice and Fire» لجورج آر. آر مارتن التي استنتج كثيرون كما تذكر صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن فكرته الرئيسية مستمدة من وحي عبادة النار التي تمثل إله النور المذكور في الزرادشتية، حيث يمثّل بطلها آزور آهاي بحسب النبوءة في قصة جورج آر. آر مارتن نسخة أخرى من أهورا مازدا، المخلّص القادم في نهاية الزمان بحسب الزرادشتية.

من المثير أن قصة المسلسل تحتوي بالفعل في هذا السياق على أخوية غامضة [تنظيم سري أشبه بالنقابة] ظهرت في بعض حلقات الموسم الثاني والثالث والسادس للمسلسل، تضم حرفيين وبنّائين كما عرّفوا أنفسهم عند ظهورهم للمرة الأولى. وتلك الأخوية يقودها كما يظهر بجلاء في الحلقة الخامسة من الموسم الثالث، والمعنونة بهذا العنوان اللافت «Kissed by Fire»، شخص غامض ذو عين واحدة لا يمكن قتله. حيث يحيِيه ما يسمى بـ «إله النور» في كل مرة يتم محاولة قتله، وهو الإله المزعوم ذاته الذي أحيا جون سنو في مطلع الموسم السادس بعد مقتله في نهاية الموسم الخامس. وهو الإله نفسه الذي كانت تعبده The Red Woman أو المرأة الحمراء، الساحرة التي سيطرت على عقل ستانيس براثيون في حلقات المواسم الأولى من المسلسل.

Lord of Blackhaven the leader of the Brotherhood Without Banners

لا شك أن هذه الارتباطات مثيرة للتأمل مع سياق الحديث السابق أعلاه عن الثنوية والزرادشتية، ومع بعض النصوص الدينية علي الضفة العقائدية الأخرى للأديان الإبراهيمية، ولاسيما الإسلام، ولعل بعض تلك النصوص قد تردّدت بالفعل في وعي بعض القراء أثناء قراءتهم لهذه السطور.

ولعل التفسير الأكثر رجحية لنشأة هذا النسق من الأفكار هو أثر التصوف اليهودي المتأثر بدوره بالديانات الفارسية القديمة كالزرادشتية والمانوية على الجمعيات السرية في أوروبا بعد عصر النهضة، وعلى الثقافة الغربية في مجملها بحسب الفيلسوف الألماني الشهير يورغن هابرماس.

كل هذا فضلًا عن تركّز اليهود، أكثر المجموعات العرقية والدينية تأثيرًا في الإعلام والفنون والثقافة العالمية الراهنة، كحامل أنثروبولوجي وناقل تاريخي لهذا الفكر الفلسفي والديني بالشرق الأوسط في إيران نفسها، المهد التاريخي للفلسفات والأديان الثنوية. وهو ما لعله يرتبط في الإطار الأبوكاليبسي الإسلامي (نبوءات نهاية العالم أو علامات الساعة بالتعبير الإسلامي) بنبوءات معروفة في هذا السياق عن أصفهان، مركز الثقل الديموجرافي التاريخي لليهود في إيران.