«بيضة بياضة وبتلعب رياضة»، «يا عنب الجناين يا عنب»، «يا حلو يا تين» هذه الجمل وغيرها حينما تصل إلى مسامعك تعرف أنك قد دخلت فضاء السوق، سوق الجمعة [1]. السوق الشعبي هو الحيز الذي ندعي في هذا المقال تحديه للحداثة، فنتساءل هل ثمة حياة غير حداثية قائمة في صلب المدن التي نسكنها، وفي العصر الحداثي الذي نحياه، نواظب – بأنفسنا – على ممارسة طقوسه بفعل دوري في حياتنا اليومية، هل ثمة تفاصيل وممارسات يومية «عادية» تُنتهك من خلالها فرضيات الحداثة الرئيسة؟ نعم، إنه السوق الشعبي حيث تتناقض ثلاث فرضيات مركزية قامت عليها الحداثة الغربية: مركزية حاسة البصر، ترسيخ ثنائية الإنتاج/ الاستهلاك، واعتماد الزمن الخطي.


أولا: «صورة» المول و«صوت» السوق

لقد قامت الحداثة بجعل البصر الحاسة المركزية، وتعد مقولة لو كوربوزييه Le Corbusieer FH [أحد رواد العمارة الحديثة]: «أنا اتواجد في الكون فقط حينما أمتلك القدرة على الإبصار» تجسيدًا لذلك [2]. واعتبر هايدجر أن الحدث الأساسي للعصر الحديث هو فتح العالم بوصفه صورة [3]. فقد أصبحت العين مركزية في المعرفة على المستوى الابستمولوجي (المعرفي)، فاعتُبرت المعرفة الحسية القائمة على المشاهدة واللمس هي المعرفة العلمية؛ لأنها الأقل خطأ.

ففي القرن العشرين، تم إعادة ترتيب الحواس في هيراركية جعلت العين في الصدارة، بعدما كانت في المرتبة الثالثة كما يعكس تاريخ الأنثروبولوجيا في بحوثه عن المجتمعات الشفهية، التي تشكلت فضاءاتها بحواس كالسمع والشم والتذوق، مما ساعد على خلق حالة توازن للحواس فيها، افتقدتها المجتمعات الحداثية. لقد أعادت الحداثة تشكيل مفهوم الزمن وترسيخ الثقافة البصرية في الصحافة المطبوعة، التصوير، الشعر المصور، وإلخ. وانعكس ذلك على معمار الحياة اليومية. فتم التعامل مع المدينة كصورة مرئية كما وصفها كيفن لينش Kevin Lynch 0 (مخطط مدن أمريكي) في كتابه «صورة المدينة The Image of The City»، حيث أكد الأساس البصري لتكوين الفضاء العمراني، وتشكيل الفراغات العامة للمدن وغيرها من الأمكنة [4].

أما في السوق الشعبي، فالأذن هي ما يحتل مكان الصدارة بعكس المدن الحداثية وأسواقها الرأسمالية الكبرى التي تركّز على الصورة من خلال الإعلانات والعروض والشاشات. فأهم ما يميز الأسواق الشعبية هو الأصوات الصاخبة المتداخلة، لكل سوق صوت مميز له، يعبر عنه نداءات الباعة ببضائعهم المختلفة، فقد اعتمدت المهن الشعبية البسيطة على الصوت كالمسحراتي أو الباعة المتجولين مثل باعة العرقسوس بندائهم المميز «شفا وخمير.. إروي عطشك وقوي قلبك»[5]. ويذكر يحيى حقي، في مذكراته، بائعة المشمش التي كانت تأتي لحي المنيرة كل عام لبيع المشمش مستخدمة مقام سيكا منادية بصوت عذب: «يا للي الهوا هزه .. يا حموي .. يا نااااعم». ويُقال أن عبدالوهاب تأثر بعبارة بائع الثوم الشهيرة «توووووووم الخزين يا توم»، فأخذ على غرارها كلمات أغنية «تووووب الفرح يا توب».


ثانيًا: «لغة» السوق

أكثر ما يلفت الانتباه في السوق هو اللغة، اللغة في السوق ليست مجرد وسيلة للتواصل بين الأفراد، وإنما تتحول اللغة في ذاتها إلى ممارسة وفعل وأسلوب في التفكير، حيث ينادي البائع على بضاعته مستخدمًا عبارات مرتجلة يكثر فيها السجع والجناس دون أن يكون واعيًا بتعريف السجع ولا ماهية الجناس أو وظيفة الازدواج. في السوق تُنزع الغشاوة العلمية عن تعريف الأشياء، وتتلاشى سطوة المنطق العلمي، كما تتلاشى تراتبية اللغة التي تمارسها الفلسفة والعلم كما ينتقدها فتجنشتين [6]. فرغم حضور المجاز في العبارات المتداولة في السوق الشعبي إلا أنه مجاز غير منفك عن الواقع، بل ملتبس به ممتزج معه، ليس لغة علمية مجردة، وإنما لغة حياتية حية، فعل البيع قائم عليها.

أما في المتاجر الكبرى والهايبر ماركت فيمكنك أن تنهي عملية الشراء دون أن تنطق بكلمة واحدة. فقد تحوّلت اللغة إلى لافتات مكتوبة وعلامات مرئية، أي لغة نصية مقابل اللغة الملفوظة في السوق الشعبي. وكأن السوق الرأسمالية تسعى بجهد حثيث نحو تكتيم الصوت. ليس مقصد حديثنا الفصل التام بين الصوت والصورة، أو عرضهما كثنائيات متناقضة، فبائع العرقسوس المتجول في السوق الشعبي يحمل في زيه صورًا حية ولوحة فنية متحركة مستمرة في الحياة اليومية، وإن اعتمد على صوته في الترويج لبضاعته، ولكنها صورة حية تحمل سردية متوغلة بعمق الوجدان الجمعي الشعبي المصري، بعكس الصورة المصمتة للإعلانات التي تروج لنمط معيشي، وتستمر من خلال خلق احتياجات جديدة للمشاهدين.

ولا يعني ذلك خلو السوق الشعبي من كل النصوص المكتوبة، ولكن نجدها حاضرة على الموازين، حيث يتم تدوين أسم صاحب الميزان مع بعض العبارات الدينية «لا حول ولا قوة إلا بالله»، أو «بسم الله ما شاء الله»، ولكن النصوص المدوّنة نادرة على أية حال، حتى بعض المحلّات التي تتواجد خارج السوق، لا تأتي بلافتات تحمل أسماءها معها.

ثمة ملاحظة أخرى هي أن الخطاب الموجه في السوق هو خطاب أنثوي، فالمخاطب في السوق هو المرأة بالأساس؛ فنجد البائع يقول: «السمك بـ 20 جنيه يا عسل»، «اللي عايزة الخيار البلدي»، على سبيل المثال. في غير فضاء السوق، تصبح الكلمات المتداولة «عسل، جميلة، سكر، هريسة» مغازلة تفسر بأنها تحرش لفظي في الشارع، ولكن رغم قيام السوق في «شارع» كذلك، ورغم التلفظ بنفس العبارات، إلا أنه لا تقام في أذهان الكثيرين باعتبارها اعتداء لفظيًا، لكن تعد المغارلة جزءًا من الخطاب المركزي في السوق، وجزءًا من ممارسة عملية البيع. فتجد امرأة تخاطب أخرى «خدي الباقي يا هريسة»، أو بائع – كبر سنه أو صغر – يخاطب امرأة: «البطاطا التلاتة كيلو بعشرة يا جميل»، مما يشير إلى أن السياق يؤثر في دلالات الكلمات المتداولة، يكسبها شرعية القبول أو الرفض، و الاستحسان أو الاستنكار.

هذا الخطاب الأنثوي باعتباره المركز في التفاعلات في السوق، يفرض تحديًا أمام طرح عبدالله غذامي في كتابه «المرأة واللغة»، حيث يذكر غذامي أن اللغة أصلها ذكوري. فقاعدة أساسية من قواعد اللغة العربية، وهي التذكير حال وجود رجل أوحد في جمع من النساء، يتم مناقضتها في السوق والعبث بها. ولكن من الملاحظ أن المرأة مركزية في مستويات التفاعل في السوق بأنواعه المختلفة سواء كانت سوقًا رأسمالية تروّج لبضائعها باستخدام أيقونة الجسد الأنثوي، أو الخطاب الغزلي في السوق الشعبي.

ويأخذنا فرنان برودل في الجزء الثاني من موسوعته: «الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية»، وهو عن التبادل التجاري وعملياته، في رحلة وصفية لسوق باريس في القرن السابع عشر، ويصف السوق باعتباره أسوأ أحياء العاصمة وبؤرة المشاحنات الصاخبة واللغة السليطة الجارحة، فيورد أمثلة من الشجار بين بائعات السمك في السوق، ومن الطريف أن تأتي معاني السباب عند مقارنته بالسباب العربي واحدة رغم اختلاف اللغتين، فمن النماذج التي أوردها للشجار بين بائعتين ما يشبه«الردح» بين نساء السوق، مثل: «يا ولية يا كلحة يا بجحة، اشجينا واطربينا، يا شرشوحة يا مفضوحة، يا الله انشكحي وزقي عجلك على جمعية سف وهف. يا ولية انكسفي على دمك، يا قرشانة يا عجرانة يا كركوبة..روحي اتنيلي بستين نيلة»[7].

من الملاحظات الهامة في طرق التحايل المتواجدة في فضاء السوق، اللعب بالمدح والذم غير المباشر للأشياء، فلا يكون المدح مدحًا ولا الذم ذمًا، إنما لعبة تداول الألفاظ، لتُفهم بعكس دلالتها، لتحمل على فعل الشراء بثمن أقل أو البيع، غالبًا ما تلعب النساء هذه اللعبة، فتأتي واحدة منهن لتخاطب البائع/ة قائلة: «الفلفل الدبلان ده بكام»، «الكوسة الكبيرة دي سعرها إيه»، أو تصف الطماطم بأنها «البايظة» لتخفض سعرها.

ويستخدم بعض الباعة من الرجال هذه اللعبة لدفع عملية البيع، فينادي أحدهم قائلًا: «بيعة خسرانة وأنتِ اللي كسبانة»، ونجد صاحب عربة بيع الدجاج في السوق يقول:«يا خيبتك يا اللي اتسوقتي بدري؛ الفراخ بقت بتمن الجملة» إشارة إلى أن الأسعار تنخفض في نهاية السوق حيث يقلل الباعة من الأسعار خوفًا من تلف ما تبقى معهم من الفاكهة أو الخضروات، عكس المتعارف عليه أنه كلما حضرت مبكرًا إلى السوق حصلت على بضائع أجود.

ثمة مفارقة أخرى حينما يتم المقارنة بين السوق الشعبي والمتاجر الرأسمالية الكبرى، فرغم التلاعب باللغة واستخدامها كحيلة لدفع عملية الشراء والبيع في السوق الشعبي إلا أنه لا يرقى للزيف أو الخديعة التامة. فعلى سبيل المثال، حينما تسأل أحد الباعة في السوق عن سبب مجئه للسوق سيقول لك مباشرة «جاي استرزق» فهو لا يستخدم اللغة لموارة إعلان احتياجه المادي وفاء بالتزامات أسرته، على عكس المتاجر الكبرى التي تعلن أنها تقام من أجل إسعاد وخدمة الزبون وتوفير البضائع بأحسن الأسعار، لن يعلن متجر كبير عن الربح كهدف له.

يتحول السوق في ذاته إلى بضاعة يتم التسويق لها. فنجد على سبيل المثال، مجموعة ماجد الفطيم التي قامت بافتتاح أول هايبر ماركت في الشرق الأوسط 1995 تصيغ رؤيتها في العبارات التالية: «رؤيتنا؛ تحقيق أسعد اللحظات لكل الناس.وهذه الرؤية تحديدًا هي التي تجمع كل أقسامنا والعلامات التجارية المشاركة تحت سقف واحد، مبتكرة تلك الطاقة الإيجابية المليئة بالحيوية التي تقدّم لعملائنا عالما لا ينتهي من السعادة والترفيه مع تجارب مؤثرة وملهمة تجعل لحظاتهم أسعد من أي وقت مضى»[8].


ثالثًا: العلاقات الإنسانية في السوق

إذا كنت ممن يترددون بكثرة على السوق الشعبي، ستلحظ أن ثمة علاقات مختلفة تقام بين البائع والزبون لا نجدها في الأسواق الرأسمالية «الهايبرماركت». فالمخاطبة مثلا بأسماء الأبناء، أم فلان/ة، سواء من قِبل البائع أو المشتري، توفّر إمكانية البيع بالآجل. من المألوف أن تجد مشهد لفتاة تخبر البائعة «شفتي الفستان اللي اشتريته يا أم محمود». ومن المعتاد أن تترك بضاعتك التي قمت بشرائها بجوار أحد الباعة حتى تنتهي من عملية الشراء، أو بائع يبيع بضاعة بائع أخر. هنا اتفاق ضمني غير مكتوب بينهما لحفظ هذه الأمانات.

في مشهد لسيدة عجوزة قعيدة تبيع بعض المناديل وبجانبها سلال من الخوص كثيرة، سُئلت تلك السيدة عن كيف تأتي بهذه السلال بمفردها، فأجابت بأنها لبائع أخر وأخبرها أن تبيع له، لأن – بحسب قولها – «الأمانة عارفة صاحبها» أي أنه وثق فيها، فلو لم يأتمنها لما ترك لديها ماله وبضاعته. يظهر هنا كيف تصبح القيم السلبية والإيجابية غير مدوّنة في فضاء السوق، وإنما معروفة ضمنًا،بعكس لافتة الأمانات في المحالّ الكبرى التي تغيب فيها التعاملات الضمنية أو الذاتية، وتبرز التعاملات المكتوبة كمقوّم رئيسي في التعاملات. وكذلك تغيب الآلات الحاسبة في السوق، لتصبح ممارسة الحسابات جهدًا ذهنيًا قائمًا على الخبرة، وهو ما يتوافق مع وصف الكاتب والتربوي الفلسطيني منير فاشة لوالدته الأمية التي كانت تعمل بمهنة الخياطة، بأنها كانت تمارس جوهر الرياضيّات؛ أي الرياضيّات الناتجة عن التأمّل والتجربة [9].


رابعًا: «الاستعمال» في مقابل الاستهلاك

من الفرضيات التي تقوم عليها الحداثة مركزية الإنتاج في مقابل الاستهلاك، فالبحوث الأنثربولوجية والاقتصادية تحبذ الإنتاج على الاستهلاك، حيث ترى في الإنتاج فاعلية ونشاط خلاق، بينما تعتبر الاستهلاك مجرد انفعال يرزح تحت وطأة الإنتاج. يرفض ميشال دو سارتو ثنائية الإنتاج/الاستهلاك لأنها تفصل بين وجود فعل أعلى/ أدنى، خلاق/عاطل، كما يرفض اعتبار الإنتاج ابتكارًا والاستهلاك خمولا، واعتبار الفرد أحمق يتبع القطيع، معتوهًا يستجيب لحملات التضليل الإعلامي والاقتصادي. فدو سارتو ينطلق من رؤية، هي أن الفرد يمتلك فطرة دفينة وبراعة ذهنية في إحباط الفخاخ التي تستهدفه.

يأتي السوق الشعبي ليؤكد ذلك ويكسر تلك الثنائية: الإنتاج/ الاستهلاك من خلال مفهوم «الاستعمال»، فيعيد تعريف رشادة الأفراد بقدرتهم على استعمال البضاعة المعروضة عليهم، حيث يبتكر الفرد مساحته في الاستعمال، ويراعي المواسم والأوقات التي تصبح فيها المنتجات أقل تكلفة مقارنة مع دخله الشهري. فعندما تتبادل الحديث مع بعض النساء في السوق، يخبرنك أنه ليس ثمة بضاعة ردئية وإنما توظيف لكل شيء في موضعه الصحيح. فمثلا شراء بعض الخضراوات التي تقارب على التلف كالطماطم على سبيل المثال لتحويلها لـ «صلصة»، يكون بدافع حسن التدبير أكثر منه بدافع تزايد نسب الفقر. وفي بعض الأحيان نجد في سوق الجمعة أن المشترى قد يصبح بائعًا، والبائع مشتريًا في ذات الوقت، فمن الملاحظ في سوق الجمعة وجود بيع الخبز اليابس كطعام للطيور، فيأتي البعض بما جمعه خلال الأسبوع من هذا الخبز ليبيعه.


خامسًا: تحدي السوق لتصورات الحداثة عن الزمان والمكان

يعتبر بعض المفكرين الحداثة توقًا إلى الحضور المطلق، فتقوم الرأسمالية والحداثة برفع قيمة ما هو عابر متغيّر، ونزع القدسية عن الدين والزمن الأبدي، واختزال الزمن في الزمن النسبي المقِيس بالساعات والدقائق. فصار التاريخ هو حركة استدعاء الماضي مبتورًا باعتباره موضة يعاد صياغتها في الحاضر، وتلاشي الخوف من المستقبل، لتصوّر القدرة على الإتيان به ليواصل امتداد لحظة الحاضر.

وقد وضّح والتر بنامين كيف أن الحداثة جعلت من الماضي زمن «الآن»، ولم يقتصر تحكمها على المستقبل، بل امتد إلى استعادة الماضي في صورة تخدم حاضرها، فأنتجت زمن «الآن» المتضمّن للماضي والمستقبل في ذات الوقت، لتجعل من الزمن زمنًا خطيًا [10]. ويتجلى ذلك في المقارنة بين السوق الشعبي والسوق الرأسمالي، فبينما يستهدف «كارفور» على سبيل المثال جعل التجارة الجزئية عملا دائمًا، ويتحدد الزمن لديه في ساعات العمل، بينما يعبّر الناس عن الأسواق الشعبية بأيام الأسبوع المختلفة أو بأسماء البضائع، ويمتزج المكان بالزمان أي يتداخل التعريف بالزمان والمكان في السوق الشعبي، ويتبدّى ذلك في تعبيرات الناس، فتجدهم يصفون مكان السوق دومًا بأنه سوق «الجمعة» (رغم أنه سوق غير ثابت لا يعقد في هذا المكان إلا يوم الجمعة)، أو يصفون الزمان، أي يوم الجمعة، فيصبح من المتداول بينهم أنه «يوم السوق».

كذلك، تتم إعادة صياغة العلاقة بين الريف والمدينة في السوق الشعبي، فدومًا ما يتم اعتبار المدينة هي المركز والريف هو الهامش، ويتم ازدراء كل ما ينتمي للفلاحين أو الريف بشكل عام. السوق الشعبي ينتهك تلك التراتبية، ليصبح الريف هو المركز والمدينة هي الهامش، وتوجد علاقة تفاعلية بينهما. يمكن أن نلمس ذلك في عدة أمور؛ منها على مستوى اللغة نفسها الميْزة التي تكتسبها كلمة «فلّاحي» في هذا المكان في ذلك التوقيت، فينادي الباعة بزهو «الجنبة الفلّاحي»، «الخيار البلدي». يأتي الفلاحون من قرى مختلفة بالقرب من المدينة التي ينعقد بها ببضائعم ومزروعاتهم سواء من أراضيهم أو من خلال وسطاء أو تجار للجملة، ليبيعوها في السوق. بل إن البعض يتعارف على الباعة وفق القرية/البلدة التي قدم مناه، فيشتري منه بسعر مخفّض لأنهم بلديات، فيصبح الانتماء للريف يوم الجمعة مكسبًا للبعض.

من جهة أخرى، ميّز ميرلو-بونتي بين المكان الهندسي أي «فضاء متجانس ومتخصص»، وبين المكان الأنثربولوجي. ويمكن أن نصف السوق الرأسمالي بمعماره القائم على فكرة التقسيمات الواضحة لتصنيف البضائع في شكل هندسي يسهل المراقبة والوصف باعتباره مكانًا هندسيًا، يصبح التوصيف فيه قائمًا بالأساس على الاتجاهات والعلامات واللافتات، بينما السوق الشعبي يجسد المكان الأنثربولوجي تجسد حركة الناس فيه مركزية الاتجاهات والمسارات في داخله، فوصف الطرق داخل السوق يعتمد على الوصف السردي وليس مجرد إشارات، فتصف للسائل المكان بشكل البائع/ة، الزي/ البضاعة غير مكتفِ باليمين أو اليسار مثلًا. ورغم وجود تصنيفات للبضائع داخل فضاء السوق الشعبي، فنجد منطقة لبيع القماش، وأخرى للسمك وإلخ، إلا أنه ليس فصلًا تامًا، فتجد من يبيع الفاكهة في وسط منطقة القماش دون الشعور باختراق نظام التصنيف العام [11].

لا يتطلب معمار السوق الشعبي أكثر من أرض فضاء فسيحة وسور حولها، أو شارع مفتوح للمارّة. ولقد قامت أجهزة مرافق الدولة بوضع سور حول السوق ليسهل عليها حصر من بداخل السوق ومن خارجه، فتقوم بإعادة تعريف من هو المخالف ومن هو غير المخالف كوسيلة لجمع ضرائب أكثر، فتقوم بأخذ ضريبة كل يوم جمعة، من خلال شرطيين، من كل صاحب «فرشة»، وتضاعف السعر على الباعة الذين يفترشون ببضائعهم خارج هذا السور.

وتجد مشادات أسبوعية بين الشرطي والباعة للتفاوض على ثمن الضريبة المدفوعة. في الخطاب المعماري تتم رؤية الجدران باعتباره محاولة للسيطرة على العشوائية الطبيعية للمناطق المدينية التي من شأن تحطيمها أن يطلق العنان لتكوينات اجتماعية وسياسة جديدة. ويتفق فهم حنة أرندت للمجال السياسي الكلاسيكي في المدينة الكلاسيكية مع اعتبار الجدران نظائر للقانون والنظام [12]. بينما يأتي سور السوق الشعبي ليكون شرعية لانتهاك النظام والقانون بفرض إتاوة «مشرعنة» على الباعة. فهذا السور المحيط بالسوق لا يمثل شيئًا في أذهان العامة الذين لا يفرقون ما بين داخل السوق/خارجه.

ومن الجدير بالذكر أننا نجد عند تأمل أماكن تواجد الأسواق الشعبية في مصر، أن تلك الأسواق محاطة بالوزارات الحكومية أو البنوك أو محطات المترو وفي الميادين الرئيسية. وفي الكتابات التاريخية عن القاهرة، يتم سرد الأسواق الشعبية وحركة الناس وتفاعلهم في هذه الأسواق والتعامل مع الباعة وطباعهم، لأن الأسواق تعد المكان الأمثل لتجلي كل الظواهر الاجتماعية والتعرف على علاقات البشر ببعضهم البعض، وعلاقاتهم بالسلطة كذلك.

فثمة وعي تاريخي بأهمية السوق كمكان للتعرف على أوضاع الناس وأفكارهم. ففي رسالة أحد الدبلوماسسين في انجلترا عام 1764، يذكر توصية لحكومته قائلًا: «ينبغي على الحكومة على الأقل أن تهتم بهمسات التذمر التي يتهامس بها الشعب في الأسواق»[13]. ولا يمكننا أن ننسى أن أول حدث فجر ثورات الربيع العربي كان بفعلٍ ثائرٍ غاضبٍ من أحد الباعة المتجولين في تونس، البوعزيزي، مما يوضح أهمية التعامل بجدية تحليلية مع السوق الشعبي، وفهم الظواهر الاجتماعية والتناقضات التي تفرزها تلك الأسواق. ويعد هذا المقال مجرد محاولة في ذلك.


[1] يعقد هذا السوق كل يوم جمعة في مدينة العاشر من رمضان التابعة لمحافظة الشرقية.

[2] Juhani Pallasmaa, the eyes of the skin: architecture and the senses, preface steven Hall, (Britain, john wiley & sins ltd, 2005).

[3] تيموثي ميتشل، استعمار مصر، ترجمة: بشير السباعي و أحمد حسان (القاهرة، دار مدارات، ط2، 2013).

[4] Kevin Lynch, the image of the city, ( England, the technology press and Harvard university press, 1960.

[5]أشهر نداءات الباعة الجائلين في مصر.[6] ميشال دو سارتو، ابتكار الحياة اليومية: فنون الأداء العملي، ترجمة وتقديم محمد شوقي الزين، (بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2011)، ص56.[7] فرنان برودل، الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر:التبادل التجاري وعملياته، ترجمة مصطفي ماهر، (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2013)، 29-32.[8]مجموعة ماجد فطيم.[9] منير فاشة: هذه حكاتي مع الرياضيات، موقع عرب 48.[10] يورغن هابرماس، الحداثة وخطابها السياسي، ترجمة: جورج تامر، مراجعة (جورج كتورة)، (بيروت: دار النهار، 2002).[11] ميشال دو سارتو، ابتكار الحياة اليومية: فنون الأداء العملي، مرجع سابق، ص219.[12] إيال وايزمان، أرض جوفاء:الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي، ترجمة: باسل وطفة، (بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر ومدارات للأبحاث والنشر، 2017)، ص314-316.[13] فرنان برودل، مرجع سابق ص46.