ربما تساءلت يومًا: كيف يُؤخَذ من جمال حمدان مئات الاقتباسات، ولا يمر نقاش متلفز أو غيره يَعْرِضُ للعلوم الاجتماعية والجيوستراتيجية إلا ويُستَشهد بمقاطع من كتابه «شخصية مصر» كمرجع محل اتفاق، ثم بعد ذلك لا يَلقَى هو نفسه التكريم اللائق، كأن يُقام له تمثال في ميدان أو في جامعة من تلك التي تزخر بتلامذته وأبحاثه؟

لدى كل منا بالطبع مثال مشابه لهذا التعارض، أما أنا فيحضرني بدافع المهنة اسم المعماري الفذ «حسن فتحي»، الذي يجمعه بجمال حمدان الانشغال بهوية مصر، وإن فرّقهما مجال البحث، ثم جمعهما مرة أخرى الفوز بجائزة الدولة التشجيعية في عام واحد (1959)، استحقها حمدان – مع حفظ الألقاب – في العلوم الاجتماعية، وفتحي في الفنون الجميلة عن مشروع قرية «القرنة الجديدة»، وكان فتحي أول معماري يحصل على تلك الجائزة.

انشغال مبكر

من السطور الأولى لكتابه الشهير «عمارة الفقراء»، تقرأ بحث فتحي المبكر عن معمار مصري «يطور الشعب أشكاله المحببة لنفسه، والتي تخصه مثلما تخص لغته أو ملبسه أو فنونه»، كما يستطرد:

على أن مصر الحديثة ليس فيها أسلوب محلي، فالبصمة مُفتقَدة، وبيوت الأغنياء والفقراء هي على السواء بلا طابع، بلا لهجة مصرية.

ثم يتابع مقارنًا مع الأمم الأخرى: «في العالم كله أشكال وتفاصيل محلية متميزة للعمارة، فتجد بنايات كل موقع بمثابة أطفال جميلة لزواج سعيد قد عقد بين خيال أفراد الشعب واحتياجاته».[1]

وقد رأى حسن فتحي في بواكير عمله أن الحديد والخشب ومواد البناء المستوردة بعملة صعبة تُصَعب الحصول على مسكن في بعض مناطق مصر وتكون ترفاً مستحيلاً في مناطق أخرى، أضف إليها كلفة منتجات محلية كالإسمنت والزجاج التي تجعل البناء فوق طاقة الكثيرين، وزاد الطين بِلة أن بدأت الحرب العالمية الثانية في سبتمبر/أيلول 1939، فتوقفت المشاريع في بلدان كثيرة، إذ تعذر الاستيراد.

وزاد على ذلك في مصر أن صادر الجيش ما كان موجودًا أصلا قبل الحرب من تلك المواد. ويقول فتحي عن تلك الفترة:

خطر لي أنه ما دام لدي طوب اللبن ولا شيء آخر، فلست بأسوأ حالاً من أجدادي الأقدمين. إن مصر لم تكن تستورد دائمًا حديد الصلب من بلجيكا والخشب من رومانيا، ولكنها كانت دائمًا تبني البيوت، لكن كيف كانوا يبنونها؟ الجدران… نعم. أستطيع أيضًا أن أبني الجدران، ولكن ليس لدي شيء أسقفها به، ألا يمكن أن أسقف بيوتي بالطوب اللبن؟ وأخذت أبحث عن وسائل للتكيف مع المادة المتاحة.

النوبة: تقنية قديمة ما زالت باقية

وجد فتحي ضالته أخيرًا في قرية غرب أسوان، قرية بأكملها «من بيوت رحبة متجانسة… إنها قرية الأحلام… كل بيت فيها أجمل من الآخر… يتلوه سامقًا… مرتاحًا… مسقوفًا بقبو نظيف من الطوب ومزين على نحو فريد حول المدخل بمخرمات Claustra وحليات بارزة من الطين. كانت طريقة بنائها كنمو طبيعي بمثل ما تكونه نخلة الدوم حولها، أدركت أنني أنظر إلى الأثر الحي الباقي لمعمار مصري من عهود ما قبل السقوط».

وهكذا حمل حسن فتحي ذلك الأسلوب المحلي خارج النوبة إلى القاهرة والدلتا، إلى مباني ومنازل عديدة ربما أشهرها قرية القرنة الجديدة في الأقصر، التي بُنيت لتوطين القبائل بعيدًا عن آثار وادي الملوك، وكانوا يعتاشون من بيعها للخواجة كما سرد شادي عبد السلام قصتهم في فيلمه «المومياء». بينما سرد فتحي قصة إنشائها في كتابه الشهير، والذي يشرح فيه أيضًا نظريته التي أسماها «عمارة الفقراء».

وهنا يظهر السؤال: هل نظرية حسن فتحي عالمية، أم أسلوب بناء محلي؟

لقد أجابت الهيئات الدولية التي تُعنَى بالعمارة والثقافة على هذا السؤال بالفعل، بما منحت فتحي ونظريته المعمارية من تقدير، وقائمة الجوائز تطول لتضم: جائزة بالزان العالمية (إيطاليا)، وجائزة لويس سوليفان (الولايات المتحدة الأمريكية)، والميدالية الذهبية من الاتحاد الدولي للبناء والحرف التقليدية، وكذلك جائزة الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية.

لكن اللافت للانتباه حقًا أن هيئات دولية لتقدير المبدعين والإنتاج الفكري عندما أنشئت لم تجد أجدر من شيخ المعماريين المصري لتستهل باسمه قائمة جوائزها، فقد كان أول من مُنِحَ جائزة RLA، وهي تُسمى نوبل البديلة، وهي جائزة بدأها البرلمان السويدي لتكملة مناحي الجائزة نوبل التي لا تضم الهندسة المعمارية، وكان أيضًا أول فائز بجائزة الرئيس من منظمة أغاخان العالمية للعمارة.

ثم قبل وفاته بأربعة أعوام، قام الاتحاد الدولي للمعماريين في باريس UIA (وهو كيان يضم تسعة آلاف معماري من مائة دولة) بمنحه الميدالية الذهبية الأولى كأحسن معماري ذلك العام، منوهًا أن نظريته يتم تدريسها في 44 جامعة بالولايات المتحدة وكندا وأوروبا.

دُعي أيضًا المهندس فتحي لإقامة مشاريع على نمط نظريته في الوطن العربي والولايات المتحدة، لعل أشهرها قرية منظمة «دار الإسلام» في نيومكسيكو بأمريكا.

وقد يُظَنْ، حتى بين المعمارين أنفسهم، أن نظرية حسن فتحي المعمارية أقل شهرة من معاصراتها كالعمارة الوظيفية للوكوربوزييه والعمارة العضوية لرايت أو أسلوب الباواهاوس. لكن ذلك الافتراض قد يرجع لأي عوامل أخري غير النظرية ذاتها، مثل ديناميكية التعليم الهندسي والدراسات العليا في مصر والوطن العربي، أو حركة النشر باللغة العربية مقارنة باللغات الإنجليزية والألمانية وغيرها.

عمارة للفقراء أم منزل ريفي للأغنياء؟

أقتبس هنا شرح فتحي المبسط لاقتصاديات تسقيف القباب: كان مُعَلم القباب يَبْنيِ السقف من الطوب لغرفة مساحتها 3×4 م في يوم ونصف، مقابل 1.2 جنيه، وجنيهًا آخر لمساعدين ومثله للطوب والمونة، بينما تكلفة سقف الأسمنت وقتها أكثر من 16 جنيهًا ويحتاج إلى عشرة أيام، أي خمسة أضعاف التكلفة والوقت مع مراعاة اختلاف الزمن وأسعار مواد البناء. فلو طبقت هذه النسبة على تكلفة المتر المربع اليوم، لأمكن نظريًا بناء خمسة أضعاف عدد المباني في نفس الوقت؛ أما معماريًا: فإنها ستكون أفضل من تلك التي تبدو كعلب متلاصقة ينقصها الجمال، مهما أضيف إليها من عناصر جبسية دخيلة تزيدها تكلفة. وبالعودة إلى القرية، فقد كان لكل منزل من السبعين الأولى صفة مميزة عن الآخرين، نابعة من عناصره الإنشائية وحاجة ساكنيه.

«إلى جانب كونها رخيصة، فهي لا يمكنها إلا أن تكون جميلة، ذلك أن البنية الإنشائية تُملي الأشكال، ومادة البناء تفرض المقياس، فيأخذ البناء شكلاً طبيعيًا لا يحتاج معه لأي زخرفة، فعناصره الإنشائية تمد بما يُشوّق العين إلى ما لا نهاية: القبو والقبة والخناصر المدلاة والمعقودة والعقود والجدران، كل ذلك يعطي المعماري مجالاً لإحداث تفاعل له مبرر بين خطوط مقوسة تجري في كل اتجاه بسريان متناغم».[2]

لكننا نستعرض هنا ما خلّفه من مشروعات، لنرى أن الفقراء المعنيين بالنظرية لم يفيدوا منها بالشكل الذي أمله فتحي، إلا في مشروعات بعينها وبتوجيه من هيئات معظمها حكومية، كقرية باريس الجديدة مثلاً.

وفي الوقت نفسه، تحمس لأفكار فتحي عدد كبير من الأغنياء والمثقفين، ويشهد على ذلك منازل ريفية وفيلات العطلات (Second Home) المختلف بعناصره عن نمطية المدينة ومبانيها، مثل منزل «حامد سعيد» بالمرج، ومنزل «حمدي سيف النصر» بالفيوم، ومنزل «فؤاد رياض» بشبرامنت، ومنزل «عقيل سامي» بدهشور، وغيرها. وسار تلامذته على نهجه في العديد من المنازل في عزب الأرض المستصلحة على وجه الخصوص، كما أقبلت المنتجعات السياحية كفنادق شرم الشيخ والغردقة على هذا الأسلوب المعماري البديع.

حريّ بنا إذن أن نلتفت إلى هذه المفارقة لتذليل ما يعوق تطبيق هذا الأسلوب الأصيل، الذي قد يغير الشكل الحضري للمناطق السكنية على أقل تقدير، كي لا تتحول عمارة حسن فتحي إلى مجرد أثر تسعى اليونسكو لإنقاذه – كمشروع إنقاذ قرية القرنة عام 2017.

انتشار محلي

وربما تكون معوقات انتشار أسلوب حسن فتحي والإفادة من إيجابياته هي نتاج غياب النموذج وقصور النشر، أكثر من كونها مشاكل حقيقية، ويمكن إيجازها فيما يلي:

1. الحاجة إلى معلم بناء للقباب

يحتاج السقف المُقبى إلى فني بنّاء ماهر، كما تحتاجه حوائط المباني الحديثة سواء بسواء، وليس أكثر. أو كما تحتاج السيارة إلى ميكانيكي ماهر، فليس لهذا الأسلوب أسرار خفية أو (Know-how) كالفكرة السائدة، ولقد استعان فتحي ببنائي النوبة في البدايات، ثم سُجلَت الخطوات القياسية (Methodology) بشكل يمكن لأي بنّاء جيد اتباعها، كما سُجلت فيديوهات عملية على الإنترنت جعلت الأمر أيسر.

2. مساحة الفراغ

بينما يمكن تقسيم سقف الغرف الكبيرة إلى أقبية متعددة متكئة على عقود، قام أحد تلامذة فتحي الفرنسيين بتسقيف صالة معبد ديانالينجا الرئيسية (قرية أورفيل-الهند) بقبة واحدة بقطر 22 مترًا من الطوب الأحمر المصبوب في الموقع مستعينًا بعمالة عادية.

3. الطابق المتكرر

يوحي الشكل الكروي للقبة أنها لا تصلح إلا كسطح علوي فقط ولا يمكن البناء فوقها، وبالتالي تقل الجدوى الاقتصادية إذ يُقسم ثمن الأرض على طابق واحد فقط، وهذا ليس بالاستنتاج الصحيح، فقد أثبتت مشاريع سابقة، بالإضافة إلى تجارب معملية عديدة على قبة من الطوب مع الملاط بقطر 3 متر عند تعرضها لحمل موزع على كامل السطح أن القبة لا تبدأ بالتأثر حتى حمولة 2.854 كيلو نيوتن/ المتر المربع، وهو تقريبًا الحمل التصميمي للأسقف الخرسانية.

4. عمر المبنى

تقدر المواصفات البريطانية عمرًا افتراضيًا للمبنى الخرساني يصل إلى 50 عامًا تقريبًا، إذا تم مراعاة المواصفات في التنفيذ. هذا بينما تنتشر مباني الحوائط الحاملة في أنحاء العالم منذ مئات السنين. وفي النقطتين الأخيرتين يقول المهندس حسن فتحي:

لاحظت بدهشة أن المطعم له رواق واسع يعتمد كليًا على منظومة من أقبية رئيسية وثانوية، وذلك لتجنب أي حشو ثقيل فيما بين السطح المقوس والسطح الأفقي للأرضية من فوقه. وفي هذا إثبات للحجة بأن مباني طوب اللبن يمكن أن ترتفع إلى طابقين وتظل قوية بما يكفي لألف عام: إن المواد والأساليب التراثية للمصري هي أكثر من لائقة لأن يستخدمها المهندسون المعماريون المحدثون.

5. مساحة الحوائط

بينما تشغل الحوائط الحديثة والأعمدة 8% من مساحة الوحدة، تزيد النسبة في هذا الأسلوب إلى 14%، وقد تكون هذه نقطة فارقة في وسط المدينة مثلاً. لكن يجب ألا تكون كذلك في بلد يعيش سكانه على 7% من مساحته، كما أن هذا الفارق تقابله مكاسب كثيرة كالعزل الصوتي وفارق التكلفة والجمال المعماري والداخلي، ناهيك عن العزل الحراري الذي يؤدي غيابه إلى تكييف كهربائي يرفع فاتورة الكهرباء أضعافًا.

وختامًا، هل تُفاجئنا أحد مجالس الأحياء بإزاحة ستار عن تمثال لشيخ المعماريين، الذي تحل ذكرى وفاته الثلاثين مع نهاية نوفمبر/تشرين الثاني، احتفالاً بالاسم المصري الوحيد في قائمة أحسن مائة معماري في القرن العشرين حسب تصنيف مجلة Urbanisme المنشور عام 2000؟

المراجع
  1. حسن فتحي، “عمارة الفقراء”، ترجمة: مصطفى فهمي، القاهرة، الجامعة الأمريكية، 1989، ص ص 21: 28.
  2. المرجع السابق.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.