تخيل أنك استيقظت لعملك في صباح يوم من أيام أغسطس/آب الحارة، لتجد أن «أبلكيشن أوبر أو كريم» الذي تستعمله بانتظام لا يعمل. عندها ستضطر إلى التخلي عن حلم الذهاب إلى العمل متكيفاً بهواء بارد، في سيارة نظيفة، ذات رائحة جيدة، وسائق لا يزعجك، ولا يجادلك، وقد تتخيل زوجتك عند عودتها من العمل وهي تحكي لك عن شجارها مع السائقين بسبب الأجرة، وقد يُقلقك تعرض ابنتك للتحرش أو المضايقة عند عودتها من «الدرس الخصوصي» مساءً.

ستختفي خدمة كانت تضمن لك الاطمئنان عليهما نسبياً، بمتابعة خط سيرهما، وتوفر لك تجربة انتقال تتقابل فيها مع ثقافات وعقليات متنوعة، في سيارات جديدة، ذات خدمة تحترمك، وتسمع لك، وتناديك بـ «يا فندم» أو «حضرتك»، وليس «يا باشا» أو «يا باشمهندز».

ببساطة سوف تحذف من حياتك بنداً من بنود الرفاهية التي تملك تكلفتها، وتسعد أنت وأسرتك باستخدامها، وستلقي به في سلة النسيان، مثلما ألقيت بنوداً أخرى قبله في ذات السلة وأنت تغني «وأهو بكرة نقول كانت ذكرى وعشنا لنا يومين»، وبعد الغناء ستتساءل عما أو من الذي يريد حذف هذا البند من رفاهيتنا؟


بداية الحكاية

بدأ الأمر بدعوى قضائية تقدم بها عدد من سائقي «التاكسي»؛ للمطالبة بإيقاف نشاط «أوبر وكريم»؛ لتقديمهما خدمة مخالفة لأحكام القانون، تتسبب في أضرار مادية كبيرة لأصحاب المهنة الأصليين من سائقي «التاكسي»، الذين يلتزمون بالتراخيص القانونية لسياراتهم؛ التي تعمل في مجال نقل الركاب مقابل أجر، في حين أن العاملين بالشركتين لا يعملون وفق تراخيص أو إطار قانوني، وتتقاضى الشركتان مقابلاً دون أن تدفعا ضرائبه، على عكس أصحاب «التاكسي».

وبعد نظر الدعوى أصدرت محكمة القضاء الإداري حكماً بمنع عمل السيارات «الملاكي» بنظام الأجرة عبر التطبيقات الإلكترونية، وإلزام الحكومة بمنع «أوبر وكريم»، وإلغاء تراخيص السيارات المتعاملة معهما.

ردا على ذلك أعلنت شركة «كريم»، على صفحتها الرسمية بموقع «فيسبوك»، أنها مستمرة في عملها بشكل طبيعي، ولم يتم إبلاغها رسمياً بوقف نشاطها، وأن التفاهم جارٍ «للوصول لأفضل الممارسات فيما يتعلق بالأطر التشريعية والتشغيلية لنشاط النقل التشاركي في مصر».

بينما نشرت شركة «أوبر»، على صفحتها الرسمية بموقع «فيسبوك»، بياناً جاء به: «نحترم أحكام القضاء، ولا نستطيع التعليق على الإجراءات القضائية، ولكننا سنقوم بالطعن لدى المحكمة المختصة، وستظل خدماتنا متاحة، فالقرار الصادر لا يعني وقف نشاط الشركة».


أما بعد

تأييداً لموقف الشركتين قامت إحدى السائقات برفع دعوى قضائية؛ للمطالبة بإصدار حكم قضائي بتقنين وضع الشركتين، وجميع السيارات التابعة لهما؛ حفاظاً على حقوق العاملين بهما، والمتعاملين معهما.وذكرت الدعوى أن المدعية من «كباتن أوبر وكريم»، وليس لها مصدر دخل إلا من خلال عملها في هذه الخدمة. وطالبت الدعوى بأحقية المدعية في استخراج التراخيص، وعمل بطاقة ضريبية كسائق في الشركتين.

وفي أثناء ذلك نُشرت أخبار عن البدء في إجراءات تأسيس اتحاد يضم سيارات «التاكسي الأبيض»، ليتم تنظيم عملهم عن طريق «أبلكيشن»؛ بحيث ينتظر «التاكسي» في أماكن محددة، ويتحرك بنظام «الدور»، وليس بطريقة عشوائية؛ وذلك لتوفير الوقود، وقطع الغيار، والحد من الزحام، كما أُعلن أن هذا الاتحاد سيجذب دعاية وإعلانات تدر أرباحاً للسائقين والدولة على حد سواء، وسيتفوق على «أوبر وكريم»؛ لأنه سيربط محافظات مصر كلها بمنظومة إلكترونية واحدة.

وقد ناقش برلمانيون عدداً من الاقتراحات لتقنين أوضاع الشركتين فيما يخص الضرائب، والتراخيص، وضمان حقوق السائقين، حتى لا تعملا خارج الإطار القانونى المسموح به، مما قد يفتح الباب للتجاوزات القانونية، فضلاً عن إمكانية التلاعب ببيانات المستخدمين بشكل ينتهك خصوصية أصحابها ويعرضهم للخطر.

كما أن هذه الشركات لا تحمي حقوق العاملين بها، في ظل عدم وجود تأمين على السائقين أو السيارات التابعة لها، وهو ما يتطلب تقنين خدماتها، بحيث تعمل في إطار اللوائح والقوانين، التي تحمي حقوق العاملين، وتقدم خدمات بجودة عالية، وأسعار مناسبة لكل الشرائح المجتمعية.

ومن المنتظر أن يناقش البرلمان مشروع قانون بتنظيم ضوابط عمل «أوبر وكريم»، والشركات المشابهة لهما، والذي يشمل منح تراخيص تشغيل السيارات الخاصة بها، وتحديد التعريفة بقرار حكومي، في مقابل التزام الشركات بالضرائب والتأمينات في ضوء القانون.


الجزاء من جنس العمل

اكتسبت الشركتان ثقة الناس نظراً لعروض التخفيض التي تصل إلى عدد من الرحلات المجانية، إلى جانب ضمانات السلامة والجودة المقدمة من نوعية: المستوى الاجتماعي والتعليمي للسائقين، واحترامهم لمستخدم الخدمة، وجودة حالة السيارة، وإمكانية متابعة الرحلة في حينها، والاهتمام بآراء المستخدمين، وتعليقاتهم، وتقييماتهم، والاستجابة لشكاواهم.

كل ذلك جعل مستخدمي الخدمة يقارنون بينها وبين أسعار وخدمات وتصرفات سائقي «التاكسي»، التي لا يكاد يمر يوم دون أن ينشر أحد الناس على مواقع التواصل تجربته معهم، مصحوبة بلعناته، وفي ظل أن الشركتين جعلتا الاحترام متبادلاً بين السائق والراكب، بدأ البعض يشعر أنه – ولأول مرة – يحصل على خدمة نقل متميزة في متناول مستواه المادي.

هذا إلى جانب أن الشركتين تعملان في مصر منذ عام 2015، وبقدر ارتفاع نسبة انتشارهما، وتحسن خدماتهما كان انخفاض نسبة ركاب «التاكسي»، وسوء مستوى خدماته، ورغم أن بإمكانهم المنافسة، إلا أن سائقي «التاكسي» لم يُجهدوا أنفسهم إلا بعد أن نزل إلى ساحتهم منافس قوي.

فالعديد منا يذكر جيداً أن مشروع «التاكسي الأبيض» بدأ منذ أكثر من 15 عاماً مع وعد حكومي بأن الراكب سيحصل على خدمة جيدة، وسيارة نظيفة، وسائق متعلم، وتعريفة محددة، لكن الإهمال من جانب الحكومة والسائقين، وعدم الالتزام بتحسين مستوى الخدمة، جعل الفارق بين «التاكسي الأبيض» وسلفه «التاكسي الأسود» مجرد اللون، وموديل السيارة.

ويرى الكثيرون أن التاكسي الأبيض، ورغم كونه سيارة أجرة، إلا أن صاحبه يعامله كملكية خاصة، يسمح لك تفضّلاً بالمشاركة فيها، وفي حين أن سائق «أوبر أو كريم» يعاملك بطريقة رسمية، وكأنه يستقبل عميلاً في شركته، تجد سائق «التاكسي» يعاملك وكأنه يستقبلك في منزله، فيفعل ما يحلو له، دون الاعتراف بأنه يقدم خدمة مقابل المال، الذي يحصل عليه دون تحديد إلا «بمزاجه»، وتقديره للتكلفة، وكأنه يخدمك بلا مقابل. ولعل الخلاف على أجرة «التاكسي» في مقابل تحديد أجرة «أوبر وكريم» هو أحد أهم أسباب عزوف الناس عن الأول، واستخدامهم للآخر.


«أوبر وكريم» ولعنة الطبقة المتوسطة

إنك من المبتلين بالوضع الوسط… وهذا يجعلك لا تنتمي لأي مكان على الإطلاق… أنا من الطبقة الوسطى التي تجاهد كي لا تنزلق لأسفل وتكافح كي تصعد لأعلى، فلا تكسب إلا تحطيم أظفارها على الغبار الذي يبطن الحفرة… لست فقيراً بحيث أحتمل شظف العيش، ولست ثرياً إلى حد يجعلني اطمئن على أطفالي يوم أموت.
من مقال للكاتب أحمد خالد توفيق

الطبقة المتوسطة، أو البقية التي تتشبث بهذا المستوى الاجتماعي، هي الأكثر استخداماً للخدمة، سواء كراكبين أو سائقين، لذا يعتبر توقف عمل الشركتين بمثابة ضربة من الضربات التي يتم توجيهها لهذه الطبقة، والتي يبدو أن كل ما أو من يحاول الانضمام إليها يصاب بلعنتها، ويُحرم من الانضمام إليها، وتحرم هي من الانتفاع به، وكما يتفاخر الأثرياء بخدمة «الليموزين»، ويتفاخر الفقراء «بالتوكتوك»، يتفاخر أبناء الطبقة المتوسطة بخدمة «أوبر وكريم».

وإذا كان الفقراء يزدادون فقراً قد اعتادوا على عذاباته، والأغنياء يزدادون غنى اعتادوا على رفاهيته، فإن الطبقة المتوسطة هي التي تعاني، وتقاوم، وتقل عدداً، وتواجه التيارات، وتتحمل صعوبة الوضع الاقتصادي، والمغامرات الحكومية الإصلاحية.

فقد تقلصت الطبقة المتوسطة في مصر بأكثر من 48%، لينخفض عددها من 5.7 مليون شخص في عام 2000، إلى 2.9 مليون في 2015، وباتوا يمثلون 5% فقط من إجمالي البالغين.

كما أن الحكومة، وبرامجها، ورؤاها، إما تهتم بمحدودي الدخل أو تيّسر لرجال الأعمال والأثرياء، في حين أن الحكومة عند ذكر الطبقة المتوسطة يقول أحد مسئوليها: «ليس لدينا رقم دقيق بأعداد الأسر التي يمكن وصفها بالطبقة المتوسطة».

قد يبدو الأمر بسيطاً لدرجة كبيرة أو مبالغاً فيه لدرجة كبيرة، لكن الأمر يستحق التفكير والدعم لهذه الشركات، ليس بدافع ما نكسبه اجتماعياً أو مادياً من وراء هذه الشركات، بل هو بدافع الحفاظ على امتياز للطبقة التي لا تزال متوسطة.


صراع الماضي والمستقبل

بعيداً عن الجدل القضائي والتشريعي حول التراخيص، ومدى شرعية العمل، وحماية بيانات المواطنين، فإن قضية «أوبر وكريم» تمثل وجهاً من وجوه أزمة الانتقال إلى المستقبل؛ فالخدمة تمثل تطبيقاً من التطبيقات الحياتية المتعددة للتكنولوجيا الحديثة، تلك التطبيقات التي تفرض نفسها علينا كجزء من حياتنا اليومية، شئنا أم أبينا، لذا فإن رفضها أو مقاومتها، بدلاً من الاستفادة منها واستنساخها، هو أمر يعبر عن الوجه القبيح للفكر القديم، الذي يدعم الأصوات والإجراءات الرافضة للتغيير، والتي تبوء كلها بالفشل؛ فعجلة التطور دائماً تنتصر، ومحاولات تعطيلها، حتى وإن نالت منها أو أبطأتها، فإنها في النهاية تفشل، ويستسلم أصحابها للواقع، بعدما يضيّعون علينا وعلى أنفسهم وعلى البلاد فرصة للتجديد والتغيير في حينها، ولم يعد مجدياً أن نتعامل مع كل فكرة جديدة وكأنها رجس من عمل الشيطان، لمجرد أننا نعشق الحنين لزمن الماضي الجميل.

من هنا يجب أن نتأكد أن القضية المرفوعة بالنيابة عن السائقين هي ليست بالنيابة عنهم، بل بدعم ظاهر وخفي من جهات معلنة وغير معلنة، تسعى لكسب مصلحة من وراء الدعم، وإذا كان بمقدور سائقي «التاكسي الأبيض» أن يطالبوا بحقوقهم، فالأولى بهم أن يبحثوا عن الحقوق التي أهدرتها لهم الحكومة منذ أن رفعت أيديها عن سياراتهم، وتركتهم دون أن ينالوا حقوقهم.

والأولى من ذلك أيضاً أن يفكروا في إجابة السؤال الأهم: لماذا نجحت «أوبر وكريم» فيما فشلوا فيه؟ فإن نجاحهما مرتبط بصورة كبيرة بما يقدمونه للعميل، الذي لا يجد مثيلاً له لدى مقدمي خدمة «التاكسي الأبيض».