يقولون إن الأمومة هي أقصى ما يمكن أن يصل له البشر من نبل٬ هي الشيء الوحيد المطلق٬ وهي الحب السرمدي الذي لا يستطيع أي شيء آخر التغلب عليه٬ هي حائط الصد بين شر العالم والأبناء٬ طالما هناك أم أنت في أمان تام٬ ليس هناك ما يمكن أن يؤذيك أو يخترق هذا السياج المحكم من الحب والتقبل والتضحية والتفاني.

يقولون أيضاً إن كل الأشياء في العالم يخضع لإرادتنا٬ أنت غير مجبر على أي شيء واختياراتك فقط هي ما تحدد كل ما يحدث لك في حياتك٬ تستطيع تسخير العالم كله إذا أردت٬ ولا يمكن لأي شيء أن يجبرك على المشي في خطوط لا تريدها٬ إرادتك حرة تماماً٬ حتى الأقدار تساعدك إذاً فقط أنت أردت بصدق.

يقولون أيضاً إن لكل قاعدة شواذ٬ رغم أن تلك الحالات الشاذة تؤكد القواعد وترسخها فإنها تبقى هناك٬ تحدث وتؤثر ويبقى أثرها ممتداً. هذا بالضبط هو ما يلعب عليه فيلم «Hereditary»، الذي جعل أقصى مشاعر الحب الممكنة ضعيفة للغاية أمام الجنون الذي بإمكانه أن يستلب الإرادة تماماً.


عن الأمومة والمرض النفسي والرعب

يبدأ فيلم «Hereditary» بوفاة جدة٬ حدث عادي جداً يحدث في كل العائلات٬ المختلف أن هذه الجدة هي جزء من عائلة تتكون من ابنتها وزوج هذه الابنة وحفيدين٬ الأكبر مراهق والصغرى فتاة تبدو غريبة الأطوار. وفاة الجدة لم تترك حزناً في قلوب أي منهم سوى الفتاة الصغيرة التي كانت تشملها بعنايتها٬ حتى الابنة لا تستشعر حزناً على وفاة أمها٬ وتذهب لمجموعة دعم تساعدها على فهم مشاعر الفقد.

في ذهابها لتلك المجموعة نعرف أن عائلة هذه الابنة تعج بالمرضى النفسيين٬ الجدة المتوفاة كانت تعاني من انفصام الشخصية٬ زوجها كان يعاني الفصام وانتحر بتجويع نفسه حتى الموت٬ ابنها كان يعاني الفصام أيضاً ومات منتحراً٬ لم يبق من العائلة سوى ابنتها تلك التي تشعر بخطرها على عائلتها الصغيرة كونها تنتمي لأسرة ذات تاريخ في المرض النفسي العضال.

تتوالى أحداث الفيلم لتقع حادثة تغير كل شيء٬ حادثة من النوع الذي لا تعود بعده الحياة كما كانت أبداً٬ ينفتح الباب أمام الابنة لتستكمل ميراث أمها وعائلتها وتنغمس تماماً في تاريخ يهدد حياة أسرتها التي تقوضت بالفعل٬ ويدخلها هذا الباب المفتوح إلى عالم آخر وميراث أثقل من أن تتحمله وحدها.


هذا كله غريب، وجميل

أدت «توني كوليت» دور البطولة في فيلم Hereditary التي لعبت دور آني ابنة المرأة المتوفاة٬ ولعب «جابرييل بايرن» دور زوجها٬ وقام أليكس وولف بدور الابن المراهق٬ أما الابنة الصغرى فلعبت دورها ميلي شابيرو.

وعلى عكس المتوقع من أفلام الرعب التي لا تهتم في الغالب بالتمثيل والأداء ويكون هدفها الأول هو الحبكة والخضات والموسيقى التصويرية٬ فقد جاء أداء الممثلين جميعاً على مستوى عال جداً من الإتقان٬ على رأسهم توني كوليت التي قامت بأداء مشهد من أصعب وأقسى المشاهد التي يمكن أن تصور وحش الأمومة الشرير الذي بإمكانه أن يفتك بأقرب الناس وأحبهم إذا ما أصابه السعار والجنون.

يأخذك الفيلم لعالم المرض النفسي وميراث الجنون الثقيل الذي يضغط على العقل ويحرره من منطقيته٬ ليجبر الأبطال على الإتيان بتصرفات مرعبة وغير مقبولة للإنسان العاقل٬ يضغط الجنون على كل أفراد الأسرة بعد الحادث الذي يقعون كلهم تحت وطأته٬ وتدريجياً يتحول الرعب من نفسي يرتبط بالجنون وذهاب العقل إلى عالم الرعب الحقيقي والماورائيات والغيبيات والسحر الأسود.

هذا الفيلم هو أول أعمال مخرجه «آري آستر» الذي أثبت من خلال Hereditary أنه مخرج جيد جداً٬ لا يفتعل الرعب ولا يعتمد على المشاهد المقززة والرعب المعوي ولا الخضات التقليدية٬ هو لم يصنع فيلماً مخيفاً كعادة أفلام الرعب الرخيصة٬ بل خلق عالماً مقبضاً يجبرك على التفكير والتأمل في جوهر المشاعر والغرائز الإنسانية وحدود قدرات الإنسان وقابليته لمقاومة القوى المبهمة من حوله٬ صنع آري آستر فيلماً عذباً حتى لو كان مرعباً٬ فهناك فرق كبير بين التخويف للتخويف٬ والتخويف لأسباب جعلها منطقية٬ يمكن أن تصيب أياً منا، كل هذا يضاف بالطبع إلى مهارته الخاصة في توجيه الممثلين ليخرج أداؤهم بهذا المستوى الجيد.


حتى الثوابت تنهار أحياناً

كنا نتحدث في مقدمة المقال عن الأمومة والغرائز الإنسانية الراقية٬ في فيلم Hereditary لا تخيفك الماورائيات بقدر ما يخيفك اهتزاز الثوابت٬ حتى الأمومة التي يتغنى بها البشر يمكنها أن تترك مكانها لقوى أكبر منها، الفيلم مليء بالرعب النفسي حتى عندما يذوب هذا الرعب النفسي ليدخل عالم السحر٬ يجعلك تقف كثيراً لتفكر: ما السبب الحقيقي الذي جعل السد ينهار ليجرف آني وأسرتها نحو عالم الماورائيات؟ هل السبب هو قوة السحر أم قوة الجنون الذي فتح الباب للسحر؟

الفيلم يجعلك متخوفاً من اللحظة التي يحدث لك فيها حادث كبير يقلب طاولة حياتك ويجعل عقلك يترك عرشه وتسلم قيادك للجنون٬ هل كان مصير أسرة آني سيتغير وكانت الدائرة ستنكسر إذا لم يقع الحادث الذي فجر الشخصيات؟ أم أن هناك حتمية لانفجارها حتى دون حادث يجعل العقول تختل.

الفيلم يضعك في معضلة حقيقية كونك إنساناً بالضرورة ضعيفاً٬ خياراتك ليست في الحقيقة خياراتك٬ أم أنها خياراتك وأنت تتحجج بميراثك الثقيل؟ تلك هي المسألة.