اتبع عدد من السلاطين العباسيين التنكيل والتعذيب أسلوبًا مع رجال الدولة وكبار القادة، وذلك عند خروجهم عن الخطوط المرسومة لهم، أو شق عصا الطاعة ومحاولة الانقلاب على الحكم، أو تورطهم في فساد مالي وإداري.

ويذكر فاروق عبد السلام في كتابه «الشرطة ومهامها في الدولة الإسلامية»، أنه منذ تحولت الخلافة الرشيدة إلى ملك عضوض بدأ استخدام التعذيب والبطش والضرب والقمع أسلوبًا من أساليب الحكم وتعامل السلطة الحاكمة مع المحكومين، وكانت الشرطة هي الأخرى تتعامل مع المجرمين والمتهمين غير السياسيين بنفس أسلوب البطش والتعذيب.

وبحسب «عبد السلام»، أباح فريق من العلماء والفقهاء الضرب والتعذيب «سياسة»، أي من باب «المصلحة المرسلة» على أساس تقديم مصلحة المجتمع على مصلحة الفرد، ومن باب «اختيار أخف الضررين»، فضرب متهم واحد درءًا للجريمة أخف من ترويع وتهديد أمن مجتمع بأسره.

ومن أقوال المؤيدين لسياسة الضرب على سبيل المثال قول الفقيه أبي معاذ للخليفة المتوكل (205- 247هـ): «إذا كنتم أهل سياسة فسوسوا كرام الناس بالرفق والبذل، وسوسوا لئام الناس بالذل، إن الذل يصلح النذل».

ومن المعلوم والمشهور أن الإمام مالك بن أنس أجاز ضرب المتهم بالسرقة للإقرار والاعتراف على أساس أن المصلحة العامة وحماية المال العام مقدمة على مصلحة المضروب. ودار بينه وبين فقيه مصر الليث بن سعد مناظرة وحوار حول ذلك، ولم يكن رأي الليث من رأي الإمام مالك، وقال له الليث متسائلًا: «فإذ ثبت أن المتهم بريء؟».

التكبيل بالقيود

على كلٍّ، تعددت الوسائل التي استخدمتها مؤسسة الشرطة في تعذيب رجال الدولة وكبار القادة والمسئولين الذين شقوا عصا الطاعة، أو تورطوا في فساد مالي، أو اشتركوا في مؤامرات انقلابية عليهم.

وكان من بين هذه الوسائل التكبيل بالقيود. ويذكر إسماعيل حسن مصطفى النقرش في دراسته «وسائل تعذيب كبار رجال الدولة في العصر العباسي 132هـ حتى أواخر القرن الرابع الهجري»، أن ﻗﻴﻮدًا كانت ﺗُﺤﻔﻆ ﻓـﻲ دار اﻟﺸﺮﻃﺔ، وﺗﻤﺘﺎز ﺑﺘﻨﻮﻋﻬﺎ ﻣـﻦ ﺣيث ﻧﻮع اﻟﻤﻌﺪن واﻟﻮزن، ﻓﻤﻨﻬﺎ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﺼﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﻔﻀﺔ، ﻛﺎﻟﻘﻴﺪ اﻟﺬي أُﻋﺪ ﻟﺘﻘﻴﻴﺪ أبي عبد الله اﻷﻣﻴﻦ (170- 198هـ) ﻓﻲ ﻧﺰاﻋﻪ ﻣﻊ أﺧيه عبد الله المأمون (170- 218هـ)، وﻣﻨﻬﺎ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﺼﻨﻮع ﻣﻦ ﻣﻌﺪن اﻟﺤﺪﻳﺪ واﻟﻔﻮﻻذ، ﻛﺎﻟﻘﻴﺪ اﻟﺬي ﻗُﻴﺪ ﺑﻪ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﻋﻴﺴﻰ وزﻳﺮ الخليفة جعفر اﻟﻤﻘﺘﺪر ﺑﺎﻟﻠﻪ (282- 320هـ) ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻏﻀﺐ ﻋﻠيه، أما من ﺣﻴﺚ اﻟﻮزن ﻓﻘﺪ ﺑﻠﻎ وزن ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻋﺸﺮﻳﻦ رﻃﻼً.

وﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﻘﻴـﻮد ﺗﻮﺿﻊ ﻓﻲ رﺟﻠﻲ اﻟﻤﺘﻬﻢ أو اﻟﻤﺮاد ﺗﻌﺬﻳﺒﻪ، وﻳُﺆﻣﺮ ﺑﺎﻟﻨﻬﻮض واﻟﺴﻴﺮ ﺑﻬﺎ، وﺑﻠﻎ ﻣﻦ ﺷﺪتها أن يسمرها اﻟﺤﺪاد (أي يثبتها بمسامير)، ﻓﺬﻛﺮ أبو حسن الهلال بن المحسن اﻟﺼﺎﺑﺊ في كتابه «تاريخ الوزراء»، أن اﻟﻤﺤﺴﻦ ﺑﻦ أﺑﻲ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ اﻟﻔﺮات أحد كبار رجال الدولة في ذلك الوقت وﺷﻰ ﺑﻌﻠﻲ ﺑﻦ ﻋﻴﺴﻰ ﻋﻨﺪ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ اﻟﻤﻘﺘﺪر ﺑﺎﻟﻠﻪ، وﻗﺎل اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ ﻟﻠﻤﺤﺴﻦ: «اﺧﺮج أﻧﺖ واﺟﻠﺲ ﻓﻲ اﻟﺪار واﺳﺘﺪعِ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﻋﻴﺴﻰ، وأرﻫﺒﻪ، ﻓﺈن أﻗﺮ ﺑﻮداﺋﻌﻪ ﻓﺈذا أذﻋﻦ، وإﻻ أﻟﺒﺴﻪ ﻣﻊ اﻟﻘﻴﺪ ﺟﺒﺔ ﺻﻮف».

ﻓﺨﺮج اﻟﻤﺤﺴﻦ وﻣﻌـﻪ اﻟﺤﺎﺟﺐ وﺑﻌـﺾ اﻟﻘﻮاد وﻧﺎزوك ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺸﺮﻃﺔ، ﻓﺘﻘـﺪم اﻟﻤﺤﺴﻦ إﻟﻰ ﻧﺎزوك وأمره ﺑﺈﺣﻀﺎر ﻗﻴﺪ ﻓﻴﻪ ﻋﺸﺮون رطلًا، ﻓﺄﺣﻀﺮﻫﺎ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺸﺮﻃﺔ، وﺟﻲء ﺑﺎﻟﺤﺪاد اﻟﺬي ﺟﻌﻞ اﻟﻘﻴﺪ ﻓﻲ رﺟﻞ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﻋﻴﺴﻰ، وﺿﺮﺑﻪ اﻟﺤﺪاد ﺑﺎﻟﻤﻄﺮﻗﺔ ﻟﻴﺴﻤﺮه ﻓﺄﺧﻄﺄ وأﺻﺎب ﻛﻌﺒﻪ.

وأﺛﺎر هذا الأمر ﺣﻔﻴﻈﺔ صاﺣﺐ اﻟﺸﺮﻃﺔ الذي كان يرتبط بعلاقة طيبة مع علي بن عيسى، ﻓﻨﻬﺾ ﻟﻴﻐﺎدر ﻣﺠﻠﺲ اﻟﺘﻌﺬﻳﺐ، ﻓﻘﺎل ﻟﻪ اﻟﻤﺤﺴﻦ: «ﻫـﺬا أمر ﻳﻠﺰﻣﻚ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﻪ». وأُﻟﺒﺲ ابن عيسى ﺟﺒـﺔ اﻟﺼﻮف اﻟﻤﺪﻫﻮﻧﺔ ﺑﻤﺎء اﻷﻛﺎرع (ماء ملوث)، ودُعي ﺑﻌﺸﺮة ﻣﻦ اﻟﻐﻠﻤﺎن وأُﻣﺮوا ﺑﺼﻔﻌﻪ.

التعذيب بالعطش

«التعطيش» أيضًا كان من الوسائل التي استخدمتها مؤسسة الشرطة في التعذيب، إذ كان يُجوع الشخص المراد تعذيبه أو هلاكه إلى أقصى حد يمكن أن يطيقه، ثم يؤتى له بطعام شهي مالح كالشواء، مثلًا، فيأكل بنهم حتى الشبع، أو أن يُطعم المراد تعذيبه أو قتله الحلويات، وإذا طلب الماء بعد ذلك مُنع منه حتى يموت، كما ذكر «النقرش» في دراسته.

ولم تقتصر هذه الوسيلة على فئة معينة من الناس، وإنما استُخدمت مع بعض الأمراء والقادة، ومن بين هؤلاء العباس بن الخليفة المأمون، ولي عهد المأمون، بعد أن لامه القائد العسكري عجيف بن عنبسة على مبايعة عمه أبي إسحاق محمد المعتصم بالله (179- 227) بعد أبيه بالخلافة، وزين له قتل الخليفة المعتصم حينما كانوا في طريقهم إلى فتح عمورية، فقال العباس: «إني أكره أن أعطل على الناس هذه الغزوة». فلما فتحوا عمورية واشتغل الناس بالمغانم أشار عليه عنبسة بأن يفتك بعمه، روى «النقرش».

وعلم الخليفة بالخبر واستدعى العباس فقيَّده وغضب عليه وأهانه، ثم أظهر أنه رضي عنه وعفا عنه، ثم استدعاه إلى مجلس شرابه فاعترف بما أضمر عليه، فأمر حينئذٍ بابن أخيه فقيَّده وسلمه إلى القائد حيدر بن كاوس الملقب بـ «الأفشين»، فمات العباس بمنبج (شمال سوريا)، وكان سبب موته أنه أجاعه جوعًا شديدًا، ثم جيء بطعام كثير، فأكل ومُنع الماء حتى مات، وأمر المعتصم بلعنه على المنابر وسماه «اللعين».

وممن عُذب بهذه الطريقة أيضًا إيتاخ الخزري أحد كبار أمراء الدولة العباسية، إذ وكل الخليفة المتوكل صاحب شرطته إسحاق بن إبراهيم أن يستقبله بعد عودته من الحج سنة 235هـ، وكان قد غضب عليه، وبعد أن استقبله قبض عليه صاحب الشرطة وأودعه السجن هو وولديه، ثم أهلكه بالعطش بعد أن أكل أكلًا كثيرًا بعد جوع شديد، ثم طلب الماء فلم يُسق حتى مات عطشًا.

وبحسب «النقرش»، ﺷﺮب إيتاخ ﻣﻊ اﻟﻤﺘﻮﻛﻞ في إحدى الليالي، ﻓﻌﺮﺑﺪ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻤﺘﻮﻛﻞ وأساء له، ﻓﻬﻢ إﻳﺘﺎخ ﺑﻘﺘﻠﻪ، وكان ذلك بداية غضب الخليفة عليه، وﻟﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺼﺒﺎح اﻋﺘﺬر المتوكل له، ﺛﻢ دس إﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﻳشير إليه بالحج، وكان الهدف تجريده من سلطاته، وعندما رجع قُبض عليه وقُتل بهذه الطريقة.

وقُتل بهذه الوسيلة أيضًا محمد بن إبراهيم مصعب أخو إسحاق بن إبراهيم، صاحب الشرطة في بغداد زمن المأمون والمعتصم، حيث عزله المتوكل عن فارس وولى مكانه ابن أخيه الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم، وأمره بقتل عمه محمد.

ويروي عز الدين بن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ» أنه لما سار الحسين إلى فارس أهدى عمه يوم النيروز هدايا، ومنها الحلوى فأكل منها، وأدخله الحسين بيتًا ووكل عليه من يتابعه، فطلب الماء ليشرب فمُنع عنه، فمات من العطش بعد يومين.

الحبس في الكنيف

يذكر عبود الشالجي في الجزء الثالث من «موسوعة العذاب»، أن الحبس في الكنيف قُصد به إذلال المحبوس. وممن عُذِّب بهذا اللون من العذاب أبو أيوب سليمان بن وهب، وكان كاتبًا لإيتاخ الخرزي القائد في دولة المعتصم، فلما قبض الخليفة المتوكل على إيتاخ قبض أيضًا على كاتبه سليمان بن وهب، وسلمه إلى إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وقال له: هذا عدوي.

ويروي «الشالجي» أن إسحاق أخذ ابن وهب بقيد ثقيل، وألبسه جبة صوف، وحبسه في كنيف، وأغلق عليه خمسة أبواب، فكان لا يعرف الليل من النهار، وأقام على ذلك عشرين يومًا، لا يُفتح عليه الباب إلا دفعة واحدة في كل يوم وليلة، يدفع إليه فيها خبز وملح جريش، وماء حار، فكان يأنس بالخنافس، ويتمنى الموت من شدة ما هو فيه.

التعليق من اليد

التعليق من ألوان العذاب التي مورست، وتكون إما بتعليق الشخص من يديه، أو من يد واحدة، أو من أحد ساقيه، وقد يكون التعليق من تحت الإبط.

وبحسب «الشالجي»، عُذِّب بهذا اللون الوزير أبو علي بن مقلة، الذي استوزره الخليفة الراضي سنة 322هـ ثم نقم عليه بعد أن وشى به الوزير المظفر بن ياقوت وملأ صدر الخليفة ضده، فعزله في سنة 324هـ، واستوزر مكانه عبد الرحمن بن عيسى، وسلَّم ابن مقلة إليه، فضربه بالمقارع وعلَّقه من يديه، وجرى عليه كثير من المكاره.

الهلاك في الزنزانة

ﻋﺮف اﻟﻌﺒﺎﺳﻴﻮن أيضًا ﻣﺎ ﻳﺴﻤﻰ ﻓـﻲ أﻳﺎمنا ﻫﺬه بـ «اﻟﺰﻧﺰاﻧﺔ»، إذ ﻛﺎن ﻳُﺤﺒﺲ اﻟﻤﺴﺎﺟﻴﻦ ﻓﻲ أماكن ﺿﻴﻘﺔ جدًّا ﻻ ﻳﺘﻤﻜﻦ فيها اﻟﺴﺠﻴﻦ ﻣﻦ ﻣﻘﻌﺪه، ﻓﻴﺒﻮل ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﺑﻌﺾ، وﻳﺘﻐﻮﻃﻮن ﻓﻲ أﻣﺎﻛﻨﻬﻢ، وﻻ ﻳﺪﺧﻞ اﻟﻬﻮاء إﻟﻴﻬﺎ، وﻻ ﺗﺨﺮج اﻟﺮاﺋﺤﺔ اﻟﻘﺬرة ﻣﻦ اﻟﺰﻧﺰاﻧﺔ، ﻓﻴﻬﻠﻚ ﻣﻦ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺬﻟﻚ.

وﻋﺮﻓﺖ ﻫﺬه اﻟﻮﺳﻴﻠﺔ ﻣﻨﺬ ﻋﻬﺪ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ أﺑﻲ ﺟﻌﻔﺮ اﻟﻤﻨﺼﻮر (95 – 185هـ)، عندما قبض على اثني عشر رجلًا من أنصار ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ أﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ بالمدينة، ورحَّلهم إلى الكوفة وﺣﺒﺴﻬﻢ ﻓﻲ ﺑﻴﺖ ﺿﻴﻖ ﻻ ﻳﺘﻤﻜﻦ أﺣﺪﻫﻢ ﻣﻦ ﻣﻘﻌﺪه، ﻳﺒﻮل وﻳﺘﻐﻮط ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻓﻮق ﺑﻌﺾ، وﻻ ﻳﺪﺧﻞ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﻬﻮاء اﻟﻨﻘﻲ وﻻ ﺗﺨﺮج ﻋﻨﻬﻢ اﻟﺮاﺋﺤﺔ اﻟﻘﺬرة ﺣﺘﻰ ﻣﺎﺗﻮا ﻋﻦ آﺧﺮﻫﻢ، بحسب «النقرش» فيما نقله من كتاب «البدء والتاريخ» لموفق الدين المقدسي.

وﻣﻦ ﺻﻨﻮف اﻟﻌﺬاب اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻲ اﻟﺴﺠﻮن أن ﻳُﺘَّﺨﺬ بها آﺑﺎر ﺑﻘﺼﺪ اﻟﺘﻌﺬﻳﺐ؛ إذ ﻛﺎن ﻳﺴﺠﻦ اﻟﺸﺨﺺ وﻳﺪﻟﻰ ﻓﻲ اﻟﺒﺌﺮ اﻟﻤﻌﺪة ﻟﻠﺘﻌﺬﻳﺐ. وﻣﻤﻦ ﻋُﺬِّب ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻳﻌﻘﻮب وزﻳﺮ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ اﻟﻤﻬﺪي، الذي أﺧﻔﻰ أﺣﺪ اﻟﺨﺎرﺟﻴﻦ ﻋﻠﻰ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ، ﻓﺤُﺒﺲ ﻓﻲ سجن اﻟﻤﻄﺒﻖ ببغداد واﺗُّﺨﺬ ﻟﻪ ﻓﻴﻪ ﺑﺌﺮ، ﻓﺪُﻟﻲ ﻓﻴﻬﺎ، وﺑﻘﻲ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺪة ﺧﻼﻓـﺔ اﻟﻤﻬﺪي واﻟﻬﺎدي أﺻﻴﺐ ﺧﻼﻟﻬﺎ في بصره، وأُخرج ﻣﻨﻬﺎ زﻣﻦ اﻟﺨﻠﻴﻔﺔ ﻫﺎرون اﻟﺮﺷﻴﺪ (149- 193هـ)، بحسب ابن الأثير في كتابه.

وﻛﺎن اﻟﺤﺒﺲ ﻓﻲ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ اﻷﺣﻴان ﻣﻈﻠﻤًﺎ وﻓﻲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻣﻌﺰوﻟﺔ؛ ﻟﺪرﺟﺔ أن اﻟﻤﺤﺒﻮﺳﻴﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮن أوﻗﺎت اﻟﺼﻼة إﻻ ﺑﻘﺮاءة أﺣﺰاب ﻣﻦ اﻟﻘﺮآن اﻟﻜﺮﻳﻢ.

التعذيب بالسهر

وضمت القائمة أيضًا ما يعرف بـ «التعذيب بالسهر»، إذ كان يُمنع الشخص المراد تعذيبه أو قتله من الخلود للنوم والراحة، فيوكل به إلى شخص يساهره، فإن غلبه النوم يُنخس بمسلة (يتم نغزه بما يشبه الشوكة) لئلا ينام.

ويذكر عبد الأمير مهنا وحسين مرتضى في كتابهما «أخبار المصلوبين وقصص المعذبين في العصرين الأموي والعباسي»، أن الخليفة المتوكل حبس وزيره محمد بن عبد الملك الزيات في تنُّور (تجويفة أسطوانية) سنة 233هـ، إذ كان يحقد عليه بسبب تصرفات سيئة عامله بها قبل الخلافة، فلما استُخلف أقرَّه على الوزارة حينًا، ثم أصدر أمرًا باعتقاله سرًّا وتعذيبه، فسوهر وكان يُنخس بمسلة لئلا ينام، ثم تُرك فنام يومًا وليلة.

بعد ذلك، أُدخل ابن الزيات في تنور من خشب فيه مسامير من حديد، أطرافها إلى داخل التنور تمنع من وجود حركة به، وكان التنور ضيقًا لدرجة أن الشخص المراد تعذيبه كان يمد يديه إلى فوق ليقدر على الدخول، ولا يستطيع من يكون فيه أن يجلس، فبقي أيامًا حتى مات.

التعذيب بالماء والثلج

بالغ الخليفة المعتز بالله في القسوة والبطش والتخلص من أعدائه وإن كانوا من المقربين إليه، فاستخدم وسائل في منتهى القسوة، منها أن يُدرج الشخص المراد تعذيبه أو التخلص منه في لحاف أو كيس ويُمسك طرفاه حتى يموت، أو أن يُوضع الشخص في ثلج ويجعل على رأسه أيضًا الثلج أو الماء المثلج، فيجمد الشخص المراد قتله بردًا، بحسب «النقرش».

وممن عُذِّب وقُتل بهذه الوسائل المؤيد أخو الخليفة محمد المعتز بالله (232- 255هـ) وولي عهده، فقد خلع المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد وحبسه وقيده. وقيل إنه ضربه أربعين مقرعة حتى مات، وخلعه بسامراء، وأخذ خطه (توقيعه) بخلع نفسه، وقيل إنه أُدرج في لحاف سمور ومُسك طرفاه حتى مات، وقيل إنه أُقعد في الثلج فجمد فمات، ذكر ابن الأثير.

وكذلك تخلص الخليفة المعتز بالله من  الخليفة السابق له المستعين بالله بأن وكل أمره إلى صاحب شرطته سعيد بن صالح، واختلفت الآراء في كيفية التخلص من المستعين، فقيل إنه قتله بالسيف، وقيل إنه جعل في رجله حجرًا ثقيلًا وأُلقي في نهر دجلة ومات بالغرق.

عصر الخصيتين

ومن الوسائل التي استُخدمت في عهد الخليفة المقتدر بالله العبث بالأعضاء التناسلية للشخص المراد تعذيبه أو قتله، فقد انتهت الفتن التي وقعت بين الخليفة المقتدر بالله وابن المعتز، بهرب ابن المعتز واستتاره في دار ابن الجصاص، فألقي القبض عليه وحُبس على الليل وعُصرت خصيتاه حتى مات، ولُف في كيس وسُلم إلى أهله، كما روى ابن الأثير.

وبنفس الوسيلة قُتل الخليفة المهتدي بالله على يد أمراء الأتراك سنة 256هـ.

يروي مهنا ومرتضى في كتابهما أنه عندما اشتد النزاع بين الطرفين حاول المهتدي أن يتقرب إلى قلوب العامة، فبنى قبة للمظالم وجلس فيها للخاص والعام، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وحرَّم الشراب، وأظهر العدل، وكان يخطب في الناس ويؤمهم في أيام الجمع، فشغب عليه الأتراك، فخرج إليهم معلقًا في عنقه مصحفًا واستنفر العامة وأباح دماء الأتراك وأموالهم ونهب منازلهم، فحاربه الأتراك وانتصروا عليه، وقبضوا عليه فداسوا على خصيتيه حتى مات.

جبة الصوف

ومن الوسائل التي استعلمت في التعذيب أيضًا جبة الصوف، إذ يُكبل الشخص المراد تعذيبه بالحديد ويلبس جبة صوف مغموسة بالدبس (شراب داكن اللون) وماء الأكارع، ويُوضع في مكان حار ويُضرب بالسياط.

وممن عُذب بهذه الوسيلة إسماعيل بن بلبل الذي وزر للخليفة المعتمد بالله (256 – 279هـ) أكثر من مرة، إلى أن قبض عليه أحمد بن الموفق ولي عهد المعتمد، فقيَّده بالحديد وأُلبس جبة مغموسة في الدبس وماء الأكارع، وأُجلس في مكان حار، وعُذب بأنواع العذاب حتى مات، بحسب ابن الأثير.

اﻟﺘﺸﻬﻴﺮ

ولم يغفل القائمون بالتعذيب أسلوب «اﻟﺘﺸﻬﻴﺮ»؛ وكان يعني اﻟﺤﻤﻞ ﻋﻠﻰ داﺑﺔ وﺗﺤﻮﻳﻞ وﺟﻪ اﻟﻤﺮاد ﺗﻌﺬﻳﺒﻪ واﻟﺤﻂ ﻣﻦ ﻗﺪره وﻛﺮاﻣﺘﻪ إﻟﻰ ذﻧﺐ اﻟﺪاﺑﺔ، واﻟﺴﻴﺮ ﺑﻪ ﻓﻲ ﺷﻮارع اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، وﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﻮﺳﻴﻠﺔ ﺗﺘبع في الغالب مع اﻟﻤﺸﺎﻫﻴﺮ واﻟﻘﺎدة واﻟﻮﻻة اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺨﺮﺟﻮن ﻋﻠﻰ اﻟﺴﻠﻄﺎن واﻟﺪوﻟﺔ.

وﻣﻤﻦ ﻋﺬب ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻋﺒﺪ اﻟﺠﺒﺎر ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ واﻟﻲ ﺧﺮاﺳﺎن، زﻣﻦ اﻟﺨﻠﻴﻔـﺔ أبي ﺟﻌﻔﺮ اﻟﻤﻨﺼﻮر، إذ ﻗُﺒﺾ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺘﻬﻤﺔ اﻟﻔﺴﺎد ﻓﻲ ﺧﺮاﺳﺎن، وﻗﺘﻞ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ الوﺟﻬﺎء هناك، وأُﻟﺒﺲ درﻋﺔ ﺻﻮف، وﺣُﻤﻞ إﻟﻰ اﻟﻤﻨﺼﻮر ﻋﻠﻰ ﻇﻬﺮ ﺑﻌﻴﺮ ووﺟﻬﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻋﺠﺰه، حسبما ذكر محمد بن جرير الطبري في كتابه «تاريخ الطبري».