أجواء صاخبة لا تتوقف، سجادة حمراء طويلة تطأها الأقدام بأحذيتها الفاخرة، عدسات الكاميرات تصوب تجاه مشاهير الفن المصريين والعرب، الصور سرعان ما تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حلقات نقاشية وآراء لا تنتهي تصاحبها حول زي المشاهير وثمنه الباهظ ومدى مواكبته للموضة، بينما تجلس «أسماء سعد»، في عملها بإحدى مدارس «حي الدهار» في مدينة الغردقة، والذي يبعُد نحو ساعة بالتمام عن مكان انعقاد المهرجان السينمائي، قابضة على هاتفها المحمول، لتطالع تلك الصور؛ أسوة بالجميع في باقي المحافظات.

الجونة منتجع سياحي يقع داخل مدينة الغردقة، أنشأته شركة أوراسكوم المملوكة لسميح ساويرس عام 1990م، ويتميز بموقعه الجغرافي الساحر وتوفر بنية تحتية قوية به مكنته من استضافة العديد من البطولات والمعارض الدولية، أبرزها مهرجان الجونة الدولي الذي انعقد 5 مرات متتالية بدءًا من عام 2017م.

تذكرة الحضور = مرتب الشهر

خلال وقت الراحة من العمل، دارت حلقة نقاشية بين «أسماء» ورفيقاتها في المدرسة حول أزياء المشاهير التي ظهروا بها خلال إطلالاتهم في «مهرجان الجونة» المُقام حاليًا على مقربة منهم في دورته الخامسة، بحضور العشرات من الفنانين المصريين والعرب.

بادرت إحداهن بالتعليق على هذه الإطلالة أو تلك، تتابعها الأخرى بتعليقٍ مازحٍ عن ظهور أحد المشاهير المُفضلين لها، ومن ثم ينتهي الأمر، فتنهض كلٌّ إلى وجهتها «إحنا زي أيّ حد في مصر بيتابع المهرجان من السوشيال ميديا، وحياتنا ماشية طبيعية زي أيّ يوم عادي»، تحكي المُعلمة حديثة التخرج لـ«إضاءات».

لم يشغل «أسماء» المهرجان وما يحدث به، ولا تأثيره على حياتها اليومية، لا سيما في «حي الدهار» أحد أقدم الأحياء بمدينة الغردقة التابعة لمحافظة البحر الأحمر، والذي يشبه كثيرًا أحياء القاهرة القديمة، لما فيه من أسواق متعددة، لقناعتها بأن سمت حياتهم مختلف تمامًا عما يحدث هناك في المنتجع السياحي المُخصص لفئات بعينها- بحسب اعتقادها- «الناس في الدهار بسيطة؛ عندهم أشغالهم اليومية.. مش فاضيين نتابع بيحصل إيه في الجونة».

تتابع المعلمة العشرينية حركة التجارة في أسواق الدهار، في طريق ذهابها إلى عملها يوميًا، يلفتها بدء توافد السياح مجددًا، تنفرج أساريرها لعودة الحياة إلى حيها العتيق الذي عانى خلال عام الجائحة من ركود تام، وهو ما أثر سلبًا على أحوالهم الاقتصادية، يستمر الحال في الوقت الراهن دون تغيير «المحلات بتفتح في مواعيدها عادي.. الطرق شغالة.. مفيش زحمة»، تلك الأجواء الهادئة المعتادة التي تتمتع بها مدينة الغردقة برمتها والتي تبلغ مساحتها 40كم.

لدى ابنة حي الدهار شغف كبير بالأفلام السينمائية، غير أنها تدرك أن مشاهدة أيّ من الأفلام التي تُعرض حاليًا في المهرجان ضرب من المستحيل، للتكاليف الباهظة التي ستتكبدها جرّاء قرار كهذا «علشان أحضّر فيلم أتفرج عليه في الجونة معناه أفقد كل مرتبي»، تقولها ضاحكة. فيما أوضح المهرجان عبر موقعه الإلكتروني، أسعار بطاقات الحضور لطلاب السينما ومحبيها وخبراء الصناعة والشخصيات الإعلامية، وشروطه لمشاهدة أفلام بعينها، مُحددًا 3 أنواع من بطاقات الحضور؛ وهي البطاقة الفضية التي يبلغ ثمنها 3 آلاف جنيه، والمُخصصة لمحبي المهرجانات والسينما من غير العاملين بالصناعة، والبطاقة الذهبية البالغ ثمنها 9 آلاف جنيه، والتي تمنح مقتنيها نفس مميزات الفضية إضافة إلى أنها تتيح له حضور حفل الافتتاح أو الختام، بينما البطاقة البلاتينية التي يبلغ ثمنها 20 ألف جنيه تمنح كل المزايا التي يتمتع بها المشاهير بالمهرجان.

«بتفرج على الممثلين من ورا الكراتين»

المخرج أمير رمسيس، المدير الفني لمهرجان الجونة السينمائي، قال إن هناك إقبالًا كبيرًا على شراء تذاكر أفلام مهرجان الجونة، الذي يضم في دورته الخامسة (76 فيلمًا) من بينهم 7 أفلام مصرية، غير أن تلك الأفلام كلها بعيدة كل البعد عن كل البعد عن «شريف ضاحي»، الذي يتردد على المهرجان يوميًا، بحكم عمله كمورد أغذية من مكان عمله في «حي العرب» الذي يبعد عن «الجونة» بنحو 15 كم، إذ لا يُسمح له برؤية أي منها؛ سوى بعض البوسترات المُعلقة في مداخل وطرق المنتجع السياحي الشهير «وقت المهرجان بنورد للفنادق اللي في الجونة مواد غذائية وكراتين مياه، فبيسمحوا لينا ندخل».

قبل 12 عامًا، بدأ «ضاحي» عمله مورد أغذية في مدينة الغردقة؛ تسير حياته بشكل اعتيادي، ينعم بهدوء المدينة وبحرها، يشرع في عمله منذ التاسعة صباحًا حتى يُنهيه في الخامسة مساءً، إلى أن أعلن عن تدشين المهرجان وانطلاقه من الجونة، قبل خمسة أعوام، فانقلب سير عمله «قبل المهرجان بـ10 أيام بيكون فيه ضغط شغل»، إذ يولي وجهه شطر عمله في السابعة صباحًا ولا ينتهي منه سوى في العاشرة ليلًا، ليستمر الحال على نفس المنوال حتى انتهاء أيام المهرجان «الشغل بيزيد أربع أضعاف، وبيكون بالنسبالي خير، لأن الفنادق طلبياتها بتزيد».

شريف ضاحي – مورد أغذية

بعيون مشدوهة، يتابع الرجل صاحب الـ37 ربيعًا، مظاهر الاحتفالات القائمة في المنتجع الذي لا يطؤه سوى قبل وأثناء فاعليات المهرجان السينمائي، يُمنّي نفسه برؤية أي من المشاهير، يتلكأ في إنجاز عمله بعض الوقت؛ علّه يظفر برؤية أحدهم، فإذا ما وقعت عينيه على أحدهم، يتوارى خلف سيارة المواد الغذائية «الواحد بيكون لبسه على قد الحال.. وشكلي مبهدل.. وبتكسف أروح أسلم على حد»، فسرعان ما ينهي عمله وينصرف، عائدًا إلى حياته العادية في «حي العرب» المتواضع.

في حي العرب الذي يُشبه حي الدهار كثيرًا، يجلس «شريف ضاحي» رفقة باقي زملائه من العمال، يوزعون الأعمال فيما بينهم، لا تتوقف أحاديثهم عن حياتهم اليومية، لا يشغل أذهانهم سوى أيّ خبر يصادفونه عن إمكانية عودة السياحة إلى الغردقة كما كانت، لتنشيط حركة البيع والشراء في أسواقهم التي لا يأتي إليها أيّ من مشاهير المهرجان السينمائي «الجونة منتجع مقفول مش أيّ حد يدخله.. والعرب حي فقير والناس فيه غلابة.. صعب حد من المشاهير يجيه»، غير أنه يأمل أن يكون هذا المهرجان بمثابة دعوة إلى العالم لزيارة الغردقة.

رغم النظرة المختلفة من قِبل سكان الأحياء القديمة المتاخمة للمنتجع السياحي «الجونة»، فإنهم لديهم قناعة بأن أحياءهم التي دخلت في خطة الدولة للتطوير سوف تتحسن بها الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، إذا مُنحت فرصة كالتالي حصلت عليها الجونة قبل (32 عامًا) لتتحول من مجرد منطقة صحراوية تتراص فيها بعض البيوت البسيطة، إلى المنتجع السياحي الكبير الذي لا يدخله غير أشخاص بعينهم حاليًا، وهو ما أكده عمر الحمامصي الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لـشركة أوراسكوم للتنمية التي تولت عملية تطوير وإنشاء «الجونة» منذ عام 1990.

«أنا كمواطن استفدت إيه»

بالتزامن مع بدء تطوير «الجونة»، حزمت أسرة «رزيقي» حقائبها وغادرت محافظة سوهاج- مسقط رأسها- متجهة صوب الغردقة؛ ليستقر بهم المقام فيها؛ حيث كبر الشاب الذي يعمل حاليًا نجار موبيليا، يُدّخل ما صنعته يداه إلى ذاك المنتجع بين الحين والآخر في الأيام العادية، لكن في أيام المهرجان السينمائي لا تُطلب بضاعته في إطار استعداد الفنادق للحدث السينمائي «بعض الفنادق بتجدد الموبيليا فيها قبل المهرجان.. بس بيعملوا ده بالاتفاق مع شركات كبيرة، مش مع نجار على قد حالاته زيي».

لا يرى «رزيقي» للمهرجان تأثيرًا على حياته وكذا حيوات باقي أهل الغردقة، إلاّ أنه كغيره من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، يتابع ما يدور به، يهتم بحضور وإطلالات بعض المشاهير المُفضلين بالنسبة له، على سبيل التسلية وحسب «كنت مهتم أشوف محمد رمضان وأحمد السقا»، وما هي إلاّ دقائق معدودات حتى يفرغ من ذلك كله، ليعود إلى ورشته، ليباشر عمله الذي يقتات منه، لينفق على أسرته «أصل هستفيد إيه لما أتابع إيه اللي بيحصل في الجونة!».

رزيقي، نجار موبيليا

لدى الشاب ذي الـ29 عامًا، تحفظ على المهرجان السينمائي الدائر حاليًا، وهو الأزياء المكلفة التي يتعمد المشاهير ارتداءها خلال فاعليات المهرجان، في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها أهل الغردقة الذين يعتمدون على السياحة بشكل رئيس في تحصيل قوت يومهم، لا سيما عقب انتشار فيروس كورونا «الفلوس اللي بتتصرف في الجونة دي الغردقة أولى بها يتعمل فيها مشاريع تشغّل الناس».