إن أنشطة أجهزة الاستخبارات الروسية هي جزء من هجمات الكترونية مستمرة ضد الحكومة الأمريكية ومواطنيها

أمر الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، أمس، الخميس 29 ديسمبر/كانون الأول، بطرد 35 ديبلوماسيًا روسيًا بتهمة التآمر والتجسس، كما فرض عقوبات علي وكالتي أمن روسيتين علي خلفية الهجمات الإلكترونية المنظمة، والتي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة.تزامن هذا مع تقرير مشترك نشره جهاز التحقيق الفيدرالي وجهاز الأمن الداخلي بخصوص الهجمات الإلكترونية، التى جرت أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة، وانتهى التقرير إلى نتيجة واضحة؛ وهي تورط الحكومة الروسية ومسئوليها في تلك الهجمات، التي استهدفت الحزب الديمقراطي الأمريكي، والحملة الانتخابية لهيلاري كلينتون.و أشارت بعض التقارير صراحةً إلى تورط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذه الهجمات، وفي تصريح لـ«بين رودس»، وهو نائب مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض، قال فيه: «لا أظن أن أمورًا كهذه تحدث في روسيا بدون موافقة فلاديمير بوتين، فعندما نتحدث عن هجمات إلكترونية بهذا الحجم فإننا نتحدث عن أعلى مستويات الحكم في روسيا».تُعد هذه الإجراءات المُتخذة في آواخر أيام أوباما في البيت الأبيض علامةً على تطور جديد في العلاقات الروسية الأمريكية ما بعد الحرب الباردة، حيث أرسل أوباما رسالة تحذير شخصية لبوتين عبر ما يسمى بنظام «الهاتف الأحمر»، عبّر فيها عن أن الولايات المتحدة الأمريكية ستتعامل بجدية وحزم مع أي هجوم إلكتروني، ولن تفرق بينه وبين الصراعات المسلحة، حيث قال أوباما «القانون الدولي متضمنًا قانون الصراعات المسلحة ينطبق علي الفضاء الإلكتروني، وسوف نلزم روسيا بهذه المعايير».ومن ناحية أخرى اعتبر دونالد ترامب هذه الادعاءات لا أساس لها من الصحة، وأنها أتت في أعقاب هزيمة الحزب الديمقراطي وهيلاري كلينتون وأنها تعمد إلى التشكيك في العملية الانتخابية ونتيجتها حيث قال: «إذا كانت روسيا،أو أي كيان آخر يقوم بتلك الاختراقات، لماذا سكت البيض الأبيض عن ذلك، ولماذا اشتكي فقط بعد أن خسرت هيلاري؟»أما روسيا فكذبت الادعاءات الأمريكية تمامًا، ونفت على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف أي تدخل روسي في الانتخابات الأمريكية، واصفًا هذه الادعاءات بـ«السخيفة»، وبينما يستمر الجانب الأمريكي في محاولة فهم عمق هذا الاختراق والمدى الذي وصل إليه المخترقون الروس، نحاول هنا فهم؛ كيف أثرت تلك التسريبات علي نتيجة الانتخابات الأمريكية. وهل حقًا نجح الروس في التلاعب بالعملية الانتخابية نفسها؟


1. ما طبيعة الدور الذي لعبته روسيا في الانتخابات؟

اخترقت أجهزة الأمن الروسية مراسلات اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي العام الماضي، واخترقتها مجددًا هذا العام، وفقًا لوكالات الاستخبارات الأمريكية، كما اخترق الروس «إيميلات» خاصة بـ«جون بودستا» وهو المشرف علي حملة هيلاري كلينتون الانتخابية.وفي هذا الصيف تم تمرير هذه الإيميلات من الحكومة الروسية إلى كل من «ويكيليكس» ومدونة مستقلة علي «وورد برس» تُدعي (جوسيفير)، والتي قامت مع «ويكيلكيس» بنشر هذه الإيميلات، وبالطبع نتج عنها أسابيع من الدعاية المضادة لهيلاري كلينتون.أولًا؛ اعتقد معظم المحللون أن الهدف الروسي كان التلاعب بالانتخابات الأمريكية لزعزعة اليقين في نتيجتها، ولكن بعد الانتخابات أعلنت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أن روسيا كانت قد نشرت هذه الإيميلات بهدف دعم حملة دونالد ترامب وخلق حالة من الارتباك في صفوف الحملة الرئاسية لهيلاري كلينتون.لا يوجد أي دليل على أنه تم التلاعب بالتصويت نفسه في صالح دونالد ترامب، بل وادعى ترامب أنه حدث نوع من التزوير في صالح هيلاري كلينتون، كان الأمر إذن في غاية التضارب وبدون رأي حاسم، ما دفع حملة هيلاري كلينتون لطلب إعادة فرز الأصوات وفي النهاية لم يصل أحد إلى رأي حاسم، وانتهى المطاف برأي أجهزة الأمن والبيت الأبيض أنه لم يتم التلاعب بنتيجة الانتخابات أو بالعملية الانتخابية ذاتها.


2. هل أثر التدخل الروسي في نتيجة الانتخابات؟

إذا نظرنا إلى النتيجة النهائية للانتخابات فإننا نلاحظ فوز دونالد ترامب بثلاث ولايات هامة بفارق ضعيف جدًا في الأصوات، وكانت هذه الولايات كافية لتحقيق الفوز لهيلاري كلينتون. الأمر الذي معناه أن التلاعب -حتى وإن كان محصورًا في نشر الشائعات والتسربيات- كان كافيًا لضمان الفوز لدونالد ترامب.ومن وجهة نظر أخرى فإن الحملة الانتخابية لكلينتون قد شهدت العديد من العقبات وأشهرها التحقيق الذي أجراه مكتب التحقيقات الفيدرالي فيما يخص الرسائل الالكترونية لهيلاري كلينتون.تُشير التقديرات إلى أن الناخب الأمريكي اختار فعلًا دونالد ترامب بعدد كافي، أهّله للفوز بالمجمع الانتخابي، ولكن هذا لا ينفي التدخل الروسي غير المسبوق في الانتخابات الأمريكية، فأثناء مؤتمر صحفي في شهر يوليو/تموز الماضي،دعا دونالد ترامب روسيا إلى اختراق رسائل هيلاري كلينتون! وأفادت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أن روسيا قامت أيضًا باختراق لجنة الانتخابات للحزب الجمهوري وحصلت علي تسريبات تخص دونالد ترامب، لكنها لم تقم بنشرها. أعطى هذا الأمر مصداقية للادعاءات القائلة أن الهجمات الالكترونية جاءت في صالح دونالد ترامب. فبعد أن قامت موسكو باختراق كلا الحزبين قررت مساعدة ترامب فنشرت الوثائق التي سببت حرجًا للحملة الانتخابية للحزب الديمقراطي.قررت مساعدة ترامب الذي وعد مرارًا بأن يحسن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، والذي تحدث عن إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مقابل هيلاري كلينتون، التي يراها الكثير من الساسة الروس عدائية في توجهاتها نحو موسكو.يتوافق هذا أيضًا مع الدعم الكبير الذي قدمته وسائل الإعلام الروسية لدونالد ترامب مفضلةً إياه علي كلينتون، ورغم أنها لا تمتلك تواجدًا كبيرًا في الفضاء الأمريكي إلا أنها وجدت ضالتها في وسائل التواصل الإجتماعي، حيث تحدث تقرير نشرته شركة «PropOrNot» عن إغراق روسي لوسائل التواصل الاجتماعي بأخبار زائفة تخص الحملة الانتخابية لهيلاري كلينتون.


3. ما الأهداف الروسي من تلك الهجمات؟

في عام 2011 و 2012 خرج الروس إلى الشوارع معترضين علي تولى بوتين الرئاسة للمرة الثالثة، لم ينظر بوتين لهذه المظاهرات علي أنها انتفاضة شعبية، ولكن تحدث عن أموال أمريكية تتدفق إلى هؤلاء المتظاهرين. حينها كانت كلينتون وزيرة للخارجية وتبنت مواقف داعمة لهذه الانتفاضة وحرصت على أن يصل صوتها للعالم، كما كانت هيلاري المسئولة عن إفشال عملية إعادة بناء العلاقات بين روسيا وأمريكا. لذا ولأسباب أخرى، يكنّ بوتين كراهية عميقة لهيلاري كلينتون، لذا ومن وجهة نظر الروس يبدو أي إجراء سيُتخذ لإبعادها عن البيت الأبيض ذو قيمة عظيمة، خاصةً إذا ما قارنّا مواقفها السابقة مع رؤية المنافس (ترامب) لبوتين ولروسيا.تتراوح التقديرات التي تتحدث عن الهدف الروسي من تلك الهجمات بين أمرين؛ الأول، أرادت روسيا أن تضعف الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق التشكيك في النظام الانتخابي الأمريكي وفعاليته وتوريط هيلاري كلينتون -الواثقة من فوزها- في التشكيك في نتيجة الانتخابات. الثاني، وهو أن روسيا أرادت أن ترفع من حظوظ دونالد ترامب في الفوز عن طريق إضعاف منافسته والتشكيك في مصداقيتها.وعلي أي حال فإننا نظن أن الهدف الروسي من تلك الهجمات شمل الأمرين معًا، فكون حقيقة أن دونالد ترامب مرشحها المفضل والذي استبعد الجميع فوزه، رفع رصيد التأثير الروسي في العملية. وجدير بالإشارة، أنها لم تكن هذه الهجمات الالكترونية الأولى لروسيا ولن تكون الأخيرة، فقد شنت روسيا حملات مماثلة في أوروبا بهدف دعم المرشحين اليمينيين، فالكرملين يعتبر نفسه في حالة حصار من الغرب ويتعامل مع الهجمات الالكترنية كنوع جديد وغير مكلف من الحروب وقابل للتجربة.


4. كيف جاء الرد الأمريكي؟

أغرقت لجان روسية وسائل التواصل الاجتماعي بالأخبار الزائفة عن حملة كلينتون، بجانب التسريبات والخروقات الإلكترونية

وعد أوباما بالاستجابة الحاسمة للتهديدات الروسية، فكما أسلفنا في أول المقال،قام بطرد 35 ديبلوماسيًا روسيًا في تطور لم يحدث في العلاقات الروسية الأمريكية منذ عشر سنوات. تمتلك إدارة أوباما في واقع الأمر الكثير من الأسلحة التي يمكن أن تؤذي بها القيصر الروسي، وأهمها العقوبات الاقتصادية علي روسيا وأصدقائها، لكن لا تملك الإدارة الأمريكية اليوم ميزة الوقت، حيث سيتسلم دونالد ترامب رسميًا الرئاسة في 20 يناير/كانون الثاني عام 2017، أي أن المهلة المتبقية لإدارة أوباما في السلطة فقط 20 يوم، لفرض المزيد من العقوبات أو وضع المزيد من المعوقات في وجه التقارب بين ترامب وبوتين.لكن يبدو أن موسكو لا تكترث لذلك، ففي تصريح لبوتين ردًا علي التطورات الأخيرة، قال:«لن نطرد أحدًا» «بينما نحتفظ بحقنا في إجراءات مضادة، لكننا لن نهبط إلى مستوي ديبلوماسية المطابخ».يبدو إذن أن بوتين يمتلك الكثير من الثقة في إمكانية تحسن العلاقات الروسية الأمريكية في غضون أيام، بعد أن يصل دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوي. فهل يحقق ترامب ما يتمناه بوتين أم أن المؤسسة السياسية الأمريكية سوف يكون لها رأي آخر؟

المراجع
  1. Russia and the U.S. Election: What We Know and Don’t Know
  2. US expels Russian spies over election hacking