الكل لا يؤلفه إلا الضوء، والكل أيضًا لا يقوم إلا على الضجيج، الكل يسطع بفعل ألآف النيران؛ إنه الضوء.
رواية لا شيء تقريبًا عن كل شيء تقريبًا – جان دورمسون

كنت في الثامنة من عمري حين جلست أتأمل نجوم السماء في جلسة مسائية وحدي في فناء منزلنا في قرية صغيرة شبه منعزلة بعيدًا عن تلوث المدينة الضوئي؛ وخطر في بالي سؤال وهو لماذا لا نستطيع إضاءة السماء؟ حينها حاولت إضاءتها بمصباح يدوي وجهته نحو سور المنزل كي أختبر مدى هذا المصباح في الإضاءة، وأوجهه بشكل عمودي نحو السماء. لكن بالطبع كان الضوء ينقطع بمجرد أن يصل إلى حافة السور!.

ومع التقدم في الدراسة والتعلّم، أدركت أن الأمر علميًا وفلكيًا أكثر تعقيدًا من مجرد مصباح يدوي، ولا أي مصباح على كوكب الأرض يستطيع إضاءة السماء، إلا إذا وجد أحدهم بقوة إضاءة تصل حد قوة إضاءة النجوم، أو الشمس!.


الضوء

كان -وما زال- الضوء هو مرشدنا في كل مكان على الأرض، وحتى في فضاء الكون السحيق سواءً كان هذا الضوء ناتجًا عن إشعاعات وتفاعلات وانفجارات نجمية، أو ضوء الشمس المنعكس على الأقمار والأجرام حيث استطاع إضاءتها. فمن خلال خصائص الضوء استطعنا إيجاد صورة أكثر دقة عن عالمنا الكوني؛ بدءًا من غاليليو منذ نحو 400 عام حيث لاحظ نجوم كوكبة الجبار عام 1610 حين وجّه تلسكوبه نحو كوكب المشتري.

وأمدنا الضوء أيضًا بصورة أكثر دقة عن طبيعة الكون حين فسّر «إدوين هابل – Edwin Hubble» أن الكون في حالة تباعد واتساع من خلال ملاحظته للطيف الأحمر المميز للموجات الطويلة، الصادر عن المجرّات البعيدة، ويزداد احمرارًا كلما ابتعدت أكثر.

وبما أن الضوء يصلنا ويفسّر لنا الكون؛ ذهب علماء الفلك لدراسته بشكل موسع ومعرفة ماهيته وخصائصه؛ وأهمها هو معرفة سرعته التي تبلغ نحو 299,792.5 كم/ ثانية. بهذا أصبح الضوء وسيلة رئيسية لقياس المسافات في الكون.


المسافات في الكون

يعتبر تحديد المسافات بين الأجرام السماوية في الكون وسيلة أساسية وهامة لدراستها حيث تتمثل أهميتها في تحديد مجموع الطاقة المنبعثة من تلك الأجرام، وتحديد كتلتها وأحجامها في مداراتها، وتحديد الحركة الحقيقية للنجوم في الفضاء.

تقاس المسافات في الكون بوحدات أطوال مختلفة، وكان أول الفلكيين الذين تمكنوا من قياس المسافة بين الأرض والشمس؛ هو الفلكي اليوناني «أريستارخوس – Aristarchus» منذ نحو 250 عامًا قبل الميلاد.

وفي العام 1653؛ قام الفلكي «كريستيان هيجنز – Christiaan Huygens» بقياس المسافة من الأرض إلى الشمس حيث لاحظ اختلاف أطوار كوكب الزهرة لتحديد زاوية وجود الكوكب في مثلث (الشمس، الأرض، الزهرة).

السنة الضوئية

وحدة أطوال شائعة تستخدم لقياس المسافات البعيدة جدًا في الكون. وتعرّف السنة الضوئية بأنها المدة الزمنية التي يستغرقها الضوء ليقطع مسافة ما عبر الفضاء خلال سنة أرضية واحدة، أو خلال 365.25 يوم أرضي.

كان أول من استخدم مصطلح السنة الضوئية لقياس المسافات في الفضاء هو العالم الألماني «فريدريك بسل – Friedrich Bessel» في العام 1838؛ حيث استطاع قياس المسافة بين الأرض ونجم «الدجاجة – Cygni 61»، ووجد أن النجم يقع على مسافة تساوي نصف قطر الأرض المداري بنحو 660,000 مرة.

وفي عام 1851؛ انتشر مصطلح «السنة الضوئية» في ألمانيا باسم «Lichtjare»، ثم اعتمد أخيرًا باسم «السنة الضوئية» رسميًا للتعبير عن المسافات الشاسعة في الكون. يمكن تقسيم السنوات ضوئية إلى أيام ضوئية، أو ساعات ضوئية، أو حتى ثوانٍ ضوئية، وتستخدم هذه الوحدات في بعض الأحيان.

فيمكننا أن نقول إن الشمس تقع على بعد 8 دقائق ضوئية؛ هذا يعني أن الضوء يأخذ نحو 8 دقائق ليصل إلى الأرض من الشمس.

وحدة فلكية – AU

صورة توضيحية للوحدة الفلكية AU والتي تمثل المسافة بين الأرض والشمس من نصف مدار الأرض.

تقاس المسافات كذلك بين الشمس والكواكب بوحدة طول يطلق عليها اسم «وحدة فلكية – Astronomical unit» أو اختصارًا AU، وهي تساوي متوسط المسافة بين الأرض والشمس؛ أي أنها تُحسب من نصف قطر مدار الأرض حول الشمس، وليس المدار كله، ولهذا تساوي هذه الوحدة الفلكية قيمة تقدر بنحو 150 مليون كم.

النظام المثلثي – Parallax

النظام المثلثي لدراسة تغير موضع نجم ما بالنسبة لشخص يرصده على الأرض خلال عام من جهتي الشرق والغرب.

يعتمد علماء الفلك على «النظام المثلثي – parallax» بشكل عام على قياس المسافات الشاسعة بين الأجرام السماوية وبين الأرض، وبين الشمس، حيث يشكل كلاً من الأرض، الشمس، أو أي جرم سماوي شكل مثلثًا سماويًا يتم تحديد فيه زاوية ساقط الضوء الصادر من الجرم السماوي والذي يصل إلى الأرض.

استخدم «جيوفاني كاسيني – Giovanni Cassini» نظرية تعتمد على هذا النظام عام 1672 لتحديد المسافة بعيدًا عن الشمس إلى كوكب المريخ. ومن أجل ذلك؛ أرسل زميله جان ريكر إلى منطقة غويانا الفرنسية حين كان يمكث في باريس. كانت نظريته هي تحديد موقع المريخ بالنسبة للنجوم الواقعة خلفه، وإسقاط تلك القياسات على المسافة المعروفة بين باريس وغويانا.

النظام المثلثي يعتمد على ملاحظة الحركة الظاهرية للنجوم القريبة بالنسبة لمجموعات النجوم البعيدة عنها، حيث تنشأ هذه الحركة عن تغيّر موضع الراصد نتيجة دوران الأرض حول الشمس، وتغير موضع وجودها في المدار خلال السنة.

فإذا كنت في شهر يناير على سبيل المثال؛ فإنك سترصد نجمًا قريبًا في السماء في اتجاه الشرق، وبعد ستة أشهر في شهر ديسمبر؛ ستجده في الجهة الغربية. تغير موضع النجم ناتج عن موضع الأرض في المدار، ويلاحظ علماء الفلك هذا الاختلاف لحساب المسافات بين النجوم.

الفرسخ الفلكي – Parsec

parallax
رسم توضيحي لوحدة الفرسخ الفلكي الذي يقيس المسافات الهائلة في الكون.

«الفرسخ – parsecs» هو وحدة أطوال أيضًا لقياس المسافات المهولة بين النجوم والمجرات في الكون، حيث يساوي الفرسخ نحو 30 تريليون (ألف مليون) كم، أو 3.26 سنة ضوئية. فإذا قمنا بقياس المسافة بين الأرض والشمس على سبيل المثال؛ سنجدها 0.000004848 فرسخ.

يقع مركز مجرتنا على بعد يتجاوز 8000 فرسخ في اتجاه كوكبة القوس. أما مجرة أندروميدا التي تعتبر أقرب المجرات لنا؛ فتبعد عنا ما يقرب من 800 كيلو فرسخ. وعلى نطاقٍ أوسع؛ يدرس علماء الفلك هياكل عملاقة ذات أبعاد مهيبة في الكون مثل المجموعات العنقودية، أو مجموعة من الآلاف المجرات القريبة منا، والتي تبعد نحو 54 مليون سنة إذا قررنا السفر نحوها بسرعة الضوء. يمكن قياس هذه الأبعاد والهياكل بوحدات مشتقة من الفرسخ مثل الميجا التي تساوي نحو مليون فرسخ، أو الجيجا التي تساوي مليار فرسخ!.

أما عن علاقة الفرسخ بالنظام المثلثي – parallax؛ فاستكمالًا للمثال السابق عن رصد نجم ما خلال عام، سنجد أننا نرصد النجم في موقعين مختلفين على بُعد 300 كم. إذا كان النجم قريبًا ستظهر حركته بشكل واضح. يستطيع الفلكيون حساب زاوية الاختلاف (parallax angle (α؛ وهي الزاوية التي تنشأ في المثلث الذي يصنعه مسار الرصد بين الأرض، والنجوم أو الجُرم المرصود، والشمس.

أخيرًا، يعطينا الكون مفاتيح صغيرة لإخبارنا عما يخبؤه من أسرار ندرك بها حقيقة وجودنا فيه. وتحديد المسافات هي أهم المفاتيح التي أعطتنا صورة مقربة عن الفضاء، ولإدراك حجم ووجود الكواكب الأخرى حولنا.