تمتلئ نشرات الأخبار بالعنف الذي يجتاح عالمنا الآن، المئات من المنصات الإعلامية تقدم تغطية حية على مدار 24 ساعة لكل الدمار والحروب التي تدمر ولا تبقي في طريقها أخضر أو يابسًا.

قتل وتعذيب وتشريد وقصف جوي لمناطق تعج بالمدنيين، كل تلك الأحداث لم تفرق في ضحاياها بين بالغين وأطفال، حتى من حالفه الحظ من أطفالنا ولم يكن في إحدى تلك البقاع الملتهبة من العالم؛ لم يسلم من مشاهدة تلك الأحداث المأساوية والتأثيرات الكارثية لها.

كان السؤال حول العلاقة بين مشاهدة الأطفال للعنف عبر الشاشة، وتزايد فرصة قيامهم بسلوكيات عنيفة مثار بحث واهتمام من قبل علماء النفس الأربعين سنة الأخيرة، الكثير من الدراسات تؤكد وجود رابط بين مشاهدة العنف، واختياره كأسلوب لحل الخلافات لدى الأطفال والمراهقين.


أطفالنا مهددون داخل منازلهم

تقول الأكاديمية النفسية لطب الأطفال: «توصلت أكثر من ألف دراسة علمية إلى أن التعرض لمشاهد العنف في وسائل الإعلام يزيد من احتمالية السلوك العدواني لدى بعض الأطفال، ويؤدي ذلك إلى تبلد مشاعرهم إزاء العنف ويجعلهم يؤمنون أن العالم أكثر مكان سوءًا ورعبًا مما هو عليه».

تؤكد هذه الدراسات في مجملها أن الأمر لم يعد مقتصرًا على السؤال القديم: «إن كانت مشاهدة القتل تصنع قتلة، فلماذا لم نصبح نحن قتلة؟» لكن الأمر يمتد إلى تأثيرات نفسية كارثية بعضها على المدى القصير وأخرى لا تظهر إلا بمرور الوقت.

تتجلى مشكلة مشاهدة الأطفال لأخبار العنف بشكل مكثف في ترسيخ فكرة لا يستطيع عقل صغير معالجتها، إنها مسألة اعتبار العنف هو حل صالح لحل المشكلات والخلافات التي تجتاح العالم، سواء بين الدول أو بين الأفراد. هذه الفكرة عندما تتسرب إلى عقل الطفل بينما هو لا يزال تتشكل لديه صورة عن العالم لهو أمر في غاية الخطورة. يؤدي القبول لدى الأطفال بالعنف كحل للخلافات أن يصبح الطفل أقل ميلًا للحوار والنقاش، وأقل صبرًا عند التعرض للمضايقات حتى غير المقصود منها.

تقول الدكتورة «جايل جروس» خبيرة السلوك: «الأطفال الأكثر مشاهدة للعنف في التلفاز أكثر عرضة لأن يكونوا جدليين. هؤلاء الأطفال يتصرفون في الفصل بطريقة تقترب بهم من أن يكونوا متنمري الفصل. حيث يبدو عليهم قلة الصبر مقارنة بزملائهم. تظهر الدراسات أن هؤلاء الأطفال يصبحون أقل رغبة في التعاون ويصعب إرضاؤهم. ومن هنا يميل هؤلاء الصغار إلى إظهار شعور قوي بالاستحقاق».

دراسة أخرى أجريت في جامعة «إنديانا» قام فيها بعض الباحثين بفحص أدمغة المراهقين وملاحظة التغير الناتج عن تعرضهم لمشاهد العنف. وجد الباحثون اختلافات واضحة في الأشعة التي تم اتخاذها عبر جهاز الرنين المغناطيسي بعد أسبوع واحد من تعرضهم لبعض مشاهد العنف.

بشكل محدد، كان هناك تناقص في تفعيل القشرة الأمام جبهية (prefrontal portions) وهي تعتبر أيضًا الجزء المسئول عن التفكير في الدماغ، وهي مسئولة عن أخذ القرارات والتركيز، والتحكم بالنفس. وفي نفس الوقت تم تفعيل أكبر للوزة الدماغية، وهي المعروفة كمركز للمشاعر في الدماغ، والمسئولة عن إفراز مشاعر القلق والاكتئاب والغضب، والتصرفات الاندفاعية.


هل تستخدم القنوات الإخبارية الدراسات النفسية عن العنف؟

تتنافس قنوات المنصات الإعلامية الإخبارية مع المنصات الإعلامية الأخرى بأنواعها على نسبة المشاهدة، وفي تلك الحرب التي لا ترى سوى المشاهدات، يبدو أن كل الوسائل التي قد تحقق الهدف النهائي متاحة.

يغلب على محتوى المنصات الإعلامية الخاصة بالأخبار محتويات غاية في العنف، فهي تقدم تغطية على مدار الساعة مليئة بالقتل والحرق والعنف الجسدي. لم تكن تلك الأنواع من المحتوى جاذبة للمشاهدين في الأصل، إلا أن تلك المنصات الإعلامية كانت تخبئ في جعبتها خدعة مضللة إلى حد بعيد.

يبدو الأمر وكأن تلك المنصات قد اكتشفت أن هناك أسلوبًا معينًا في عرض تلك المحتويات قد يجلب الكثير من المشاهدات من مختلف الأعمار، تكمن تلك الفكرة في تحويل الأحداث الخاصة بالمعارك أو الخلافات أو الحوادث المأساوية من مجرد محتوى خبري إلى محتوى درامي عاطفي يثير في المشاهد حالة من التعاطف والشعور بالشفقة على الضحايا الأبرياء.


هل يمكن تحول طفل إلى قاتل بعد مشاهدته محتوى عنيفًا؟

يقول بعض المعارضين للدراسات التي تثبت وجود علاقة بين مشاهدة العنف وممارسته لدى الأطفال، لو كان مجرد مشاهدة العنف في التلفاز يؤثر على سلوك الشخص ونزوعه للعنف فلماذا لم نقتل نحن رغم مشاهدتنا للكثير من مشاهد القتل والعنف؟ الحقيقة أن هناك الكثير من الدراسات التي عالجت هذا السؤال.

تؤكد تلك الدراسات أن إثبات علاقة السببية غير ممكن، وأن مجرد رؤية مشاهد للحروب أو تنفيذ داعش لإحدى العقوبات الدموية لن يكون كافيًا للشخص للقيام بقتل أحدهم، ذلك أن، من الناحية الإحصائية، القليل من الناس يرتكبون جرائم قتل، ففي الولايات المتحدة الأمريكية يتعرض خمسة أشخاص للقتل من بين 100 ألف شخص سنويًا.

تؤكد الدراسات أن التعرض لمشاهد العنف هو عامل مهم قد يؤدي في بعض الأحيان إلى ممارسة الطفل للسلوكيات العنيفة، تلك العلاقة تشبه إلى حد كبير علاقة التدخين بسرطان الرئة، فجميعنا يعلم أن التدخين يسبب سرطان الرئة، لكن في نفس الوقت هناك العديد من المدخنين الذين لم يصابوا بسرطان الرئة.

في هذا السياق، أقيمت دراسة طويلة الأجل أجريت طيلة 15 عامًا، أثبتت أن الأطفال الذين يشاهدون محتويات إعلامية عنيفة في الصفين الأول والثالث، كانوا أكثر عرضة لارتكاب الجرائم بثلاث مرات عندما يصلون إلى العشرينات من أعمارهم.


لماذا يختار الطفل مشاهدة محتويات متطرفة العنف؟

كرد فعل تجاه الهجوم الذي تتعرض له بعض وسائل الإعلام بسبب عرضها لمشاهد مفرطة العنف، قامت بعض المنصات الإعلامية بنشر تحذير من المحتوى أو تصنيفه ليوافق فئات عمرية محددة . هذا الأمر وبطريقة دراماتيكية كان سببًا في حدوث عكس ما تمت من أجله تلك الإجراءات.

تقول نظرية «المفاعلة النفسية» –وهي نظرية تستخدم في علم النفس العكسي – إننا نرغب في ممارسة حريتنا في الاختيار عندما تتاح لنا الفرصة، ومن هنا إننا نميل إلى تكوين رد فعل سلبي ومعارض تجاه كل محاولة من الآخرين لحرماننا من بعض تلك الخيارات، حتى لو كانت تلك الخيارات يدعمها المنطق.

هذا النوع من «الممانعة» ينتج ثلاثة تأثيرات، أولها أنك ترغب في الخيار المحرم وتجعل منه أكثر جاذبية. وثانيا، قد تميل كشخص إلى القيام ببعض الخطوات لاستعادة الخيار المستبعد. ثالثا، أنك قد تشعر أو تتصرف بشكل عدواني تجاه الشخص الذي يحول بينك وبين بعض الخيارات.

من هنا فإن الطفل الذي يشاهد علامة «للكبار فقط» قبل عرض بعض المشاهد في نشرة الأخبار أو قبل فيديو على موقع (فيس بوك) فإنه وبنسبة كبيرة سوف يقوم بمشاهدة ذلك المحتوى.


كيف نحمي أطفالنا من مشاهد العنف؟

اشرح العواقب

يُنصح الآباء دائمًا بمشاركة أبنائهم النقاش حول المشاهد التي تعرض عليهم خصوصًا تلك المليئة بالعنف، أحد أهم تلك النقاشات هو شرح العواقب المترتبة على استخدام العنف كوسيلة لحل المشاكل.

راقبوا الوقت

من أهم واجبات الآباء تحديد الأوقات المسموح للأطفال فيها مشاهدة التلفاز أو الولوج إلى شبكة الإنترنت، ينصح دائمًا بعدم السماح للأطفال بالتعرض لوقت طويل للعنف المرئي، ليست النشرات والأخبار فقط، لكن الألعاب الإلكترونية والمسلسلات الدرامية كذلك.

علمهم كيفية حل النزاعات

هناك العديد من الطرق التي تمكن للأطفال من حل خلافاتهم مع زملائهم في الفصل أو أشقائهم في المنزل. يجب أن يترسخ في عقل الأطفال أن العنف ليس الطريق الوحيد، فضلاً عن أن يكون الأنسب.

راقب المحتوى

استبعد غير المناسب. يتخلل العنف والمشاهد الممثلة له معظم وسائل الترفيه التي يتعرض لها الأطفال هذه الأيام، أفلام الكارتون، مسلسلات الأنمي، ألعاب الفيديو، وقنوات الترفيه المختلفة. لا تتكاسل عن مشاهدة المستوى الأول من اللعبة المفضلة لطفلك، وحلقة على الأقل من مسلسل الأنمي المفضل له. وتنصح الدكتورة «جايل جروس» باستبعاد المحتوى العنيف وشرح الأسباب للطفل.

قدم المحتوى المناسب لأعمارهم

تمتلئ الشبكة العنكبوتية بقوائم المنصات الإعلامية والمحتوى المناسب لكل فئة عمرية، شارك أطفالك في جولة بقنوات الوثائقيات أو التاريخ أو العلوم. اصنع ذلك الرابط بينهم وبين المحتويات المفيدة والممتعة في نفس الوقت.

تجنب صناعة التناقض

لا يجب أن تنهى أطفالك عن مشاهدة العنف بينما تنخرط أنت فيه لفترات طويلة. من هنا كان النموذج الذي يقدمه الآباء حجر الزاوية في علاج المشكلة. تقول الأسطورة «الطفل يرى، الطفل يقلد».


متى يجب أن يطلب الآباء مساعدة المتخصصين؟

القبول بالعنف لدي الأطفال يؤدي بالطفل لأن يصبح أقل ميلا للحوار والنقاش، وأقل صبرا عند التعرض للمضايقات

يقول الدكتور «رام رامسن»: «من المقلق أن ربع الأشخاص الذين شاهدوا صورًا عنيفة سجلوا قياسات أعلى لاضطرابات ما بعد الصدمة». جاء ذلك عندما نشر دراسته التي أقيمت على أفراد يشاهدون محتويات عنيفة، وجاءت النتائج بأن 22% ممن شاركوا في التجربة قد عانوا من تأثيرات سلبية منها اضطراب ما بعد الصدمة حتى بالنسبة لأولئك الذين لم يعانوا من أي اضطرابات قبل إجراء التجربة.

في تقريرها عن هذه المشكلة، ذكرت شبكة «BBC» أعراض الصدمة لدى الأطفال التي قد يسببها مشاهدتهم المفرطة للعنف، وفي حال ظهور أحد أو بعض تلك الأعراض يجب التوجه بالطفل إلى الطبيب فورًا:

  • الخوف والقلق وملازمة الوالدين
  • السلس الليلي (التبول في الفراش)
  • الشرود الذهني والاسترسال في التفكير والذكريات
  • انعدام التركيز
  • التمرد والنزق
  • الصداع وآلام المعدة