لم يعش البشر في سلم دائم، ولا في حرب دائمة، وإنما بين الحرب والسلم، تقدَم تاريخهم بخطى واسعة ودامية، كاتمًا في حلقِه ملايين الصرخات، وآلالاف الملاحم ومراثي الأحباء، ومادحًا أو لاعنًا الجيوش –أو ما بقي منها– المارة بين أقواس النصر.

لماذا يتحارب البشر إذًا؟ وهل الحرب جزء من طبيعتهم –الشريرة والمُتعشطة للدماء كما يرى البعض- أم جزء من طبيعة «الدولة» التي ارتضوا بها نظامًا لحياة المجتمع البشري؟ أم أنها نتيجة مجموعة أكثر تعقيدًا من الشروط التي تُجبرهم على اللجوء للحرب؟ وبالتالي، هل بتبدل تلك الشروط ستنتهي الحروب؟

تعددت التفسيرات التي تحاول فهم الحرب، منذ مُحاولة المؤرخ والفيلسوف اليوناني ثوسيديديس لدراسة الحرب بين أثينا وإسبرطة في القرن الخامس قبل الميلاد، مرورًا بمحاولات الفيلسوف وأحد آباء الكنيسة الكاثوليكية القديس أوغسطين خلال العصور الوسطى، ثم فلاسفة العصر الحديث والتنوير: سبينوزا وكانط وجان جاك روسو، وصولًا إلى علماء النفس السلوكيين في القرن العشرين.

لكن، رغم تعدد وتشعب تلك المحاولات، يُمكن -بحسب عالم السياسة الأمريكي كينيث والتز– ردها إلى ثلاث صُور أو نظريات أساسية، طرحها والتز في كتابه «الإنسان، والدولة، والحرب» (الذي يُعرضه المقال) وذلك من وجهة نظر «الواقعية» (Realism)، التي تبناها والتز كبديل عن الأُطر الأخرى لدراسة العلاقات الدولية.

الحرب كخطيئة بشرية

تستمر الحرب لأنها جزء من الطبيعة البشرية، فالبشر أشرار بشكل لا مفر منه، يُحركهم دافع طبيعي وعفوي لممارسة القوة والعنف تجاه الآخرين كلما سنحت الفرصة.

هكذا كان يعتقد القديس أوغسطين، استنادًا إلى تصوره المتشائم عن الطبيعة البشرية، الخبيثة، والعابثة، التي تطاردها الخطيئة تمامًا كظِلها. يمثل أوغسطين رمزًا لتيار واسع وممتد من المُفكرين، الذين سلّموا بيقين، أن الحرب يصنعها البشر، لأنها جزء من طبيعتهم، التي تسود فيها الغرائز الحسية (وما ينشأ عنها من اهتمام أناني بإشباعها) على العقل. وأنه لا دخل للظروف (الاجتماعية والسياسية … إلخ) التي تُحيط بهم في دفعهم للحرب، فهم يتحاربون في ظروف الغِنى مثلما في ظروف الفقر، ليس لأنهم أغنياء أو مُعدمين أو مرضى أو أصحاء … إلخ، بل لأن عطشهم للتسلط على الآخرين، هو أقوى وأعمق دوافعهم.

لذا، لم يعتقد هؤلاء بأن الإصلاحات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كفيلة بإيقاف الحروب، وإنما عوَّلوا على الإصلاح الفردي، أي تهذيب دوافع وسلوك البشر، وتغليب السلوك العقلي على ذاك الحسي الغريزي، بواسطة الإلهام الديني والأخلاقي غير المُبالي تجاه الشروط الاجتماعية الأوسع التي يحيا خلالها الأفراد المرغوب في إصلاحهم، ولا تجاه المؤسسات (وعلى رأسها الدولة) التي تحكم المجتمع. فالحرب موجودة في أفئدة البشر، وليس الحكومات التي تُجندهم لها، ولا في المصالح المتضاربة بين الدول، والتي تجد حُكمها الأخير الحاسم في ساحة القتال.

افترض أنصار الصورة الأولى إذًا، أن الحرب مُرادف للكراهية، وأن السلام بالضرورة هو الحب، دون أن ينتبهوا إلى أن الحرب بين دولتين لا تعني بداية: الكراهية المتبادلة بين شعبيهما، كما أن السلام لم يعني دومًا الصداقة المتبادلة بين الشعوب، حيث قد يقوم السلام على تناقضات كثيرة، لا تبدو للوهلة الأولى مُشجعة على قيام سلام حقيقي. فقد يتأسس السلام على خوف من عدو مُشترك، أو على روابط اقتصادية مُعينة … إلخ.

تبنى بعض علماء النفس السلوكيين في العصر الحديث الصورة الأولى، وإن بطريقة أكثر تفاؤلاً، فالبشر ميَّالون لممارسة العنف، لكن ليس لأنهم أشرار بطبيعتهم، بل لأنهم لا يفهمون الآخرين -الذين يحاربونهم- كفايةً، هنا يقع مصدر التفاؤل السلوكي: دع مواطني الدول المختلفة أو المُتحارِبة يتعرفون إلى بعضهم البعض، وأن يحدث تبادل ثقافي بينهم، عندئد سيزداد تقدير أفراد كل شعب لحياة الآخرين بعد تعرُّفه إليها عن قرب، وذلك على أساس أن فهم الآخر يُنمّي التواضع والشفقة، ويُنهي مشاعر العداء تجاهه.

فهل يصح ذلك بالضرورة؟ يعتقد والتز أن السلوكيين يفترضون خطئًا أن التبادل الثقافي، أو معرفة الآخر عمومًا، تنمي التواضع فقط. ففي حين ينمو التواضع بالفعل لدى البعض، فإن الغرور والمشاعر القومية تنمو لدى البعض الآخر عند الاحتكاك بالثقافات الأخرى. الإضافة إلى أن الحروب كثيرًا ما اندلعت بين أبناء الثقافة الواحدة، ولم تكبحها المعرفة المشتركة بين المُتحاربين.

يُعوِّل السلوكيون على تغيير نفسي (معرفي وثقافي)، ويصمتون عن الوسائل السياسية لتحقيق ذلك، فالسؤال هنا: هل يُمكن تغيير التعليم الأمريكي من دون تغيير الحكومة أو السياسة التعليمية الأمريكية؟

يتجاهل السلوكيون أولوية وفاعلية الآليات السياسية (وعلى رأسها الحكومة) التي استحدثها البشر لتنظيم مصالحهم داخل المجتمع. فهم يرون أن فلاسفة وعلماء السياسة يتعاملون مع أعراض الحرب، وهي الحكومات، دون أسبابها، وهي الجهل المتبادل بين الشعوب، والذي ينتج عنه قرار حكومة شعب ما بإعلان الحرب ضد حكومة شعب آخر.

لكن هل يصف مصطلح «كراهية» الأمر بصدق؟ وعلى افتراض أن المشاعر المتبادلة بين شعبين كانت سببًا في الحرب بينهما، لماذا لا نفترض أن هذه المشاعر نشأت عن تضارب مصالحهما المادية المُجسدة في السياسة العامة لدولتيهما؟

تنشأ الدولة لتنظيم المصالح المادية المتضاربة لأعضاء المجتمع، كي لا تتصارع هذه المصالح بعنف كفيل بتدمير المجتمع من أساسه، فإذا كانت الدولة قد نشأت لذلك الغرض، أي تنظيم المصالح المتضاربة لمواطني الدولة وتعزيز المشترك بينها، فلماذا لا تُعد الحرب التي تخوضها ضد دولة أخرى، حربًا للدفاع عن مصالح مواطنيها تلك، ضد مصالح مواطني الدولة الأخرى التي تتعارض معها؟ وليس نتيجة الكراهية الجاهلة كما يرى السلوكيون.

إن التمييز السلوكي بين السبب متمثلًا في الجهل المتبادل بين الشعوب، وبين العَرَض ممثلاً في الحكومة أو النظام السياسي للدولة، هو تمييز زائف في رأي والتز، فإذا افترضنا وجود حكومتين: (س) و (ص) لدولتين متكافئتين في الثروة والقوة العسكرية ولديهما نزاعات متماثلة مع جيرانهما، لكن في حين تُعلن حكومة البلد (س) حربًا على أحد جيرانها، فإن حكومة (ص) تُفضل في الوقت نفسه وسائل أخرى لحل النزاع. إذًا، الحكومة/النظام السياسي كانت سببًا للحرب في حالة (س)، وللسلام في حالة (ص)، أي أنها ليست مُجرد عَرَض تافه بالطريقة التي يتصورها السلوكيون.

إنهم يقترحون مجموعة مبادىء لوقف الحرب، بشرط أن يقبلها ويعتنقها السياسيون، لكنهم يصمتون عن وسيلة تمكين هذه المبادىء أو حامليها من إدارة السياسة العامة للدولة. أو إقناع السياسيين بتنبيها. أحد أبرز هذه المبادئ تتمثل في وضع مجموعة من المعايير النفسية المشترطة في رجل السياسة أو الدولة، والتي تضمن جنوحه للسلم. وفي حال كشفت الوقائع عن كسره تلك المعايير، تكون إزاحته قانونية لمخالفته إياها.

فما احتمالية إجماع علماء النفس حول مجموعة المعايير تلك؟ وما الذي يضمن عدم نشوء صراع ذي نكهة سياسية داخل جماعة العلماء أنفسهم حول تلك المعايير؟ أو حول مخالفة/موافقة سياسي ما لها؟

يُهمل السلوكيون المجال السياسي في معالجتهم لسؤال الحرب والسلام، بل التغيير الاجتماعي عمومًا، فهم ينظرون للأخير، بالطريقة التي قد ينظر بها مهندس كُلِف بتصميم مبنى ضمن منطقة زلازل، وبدلًا من أن يضع تصميمًا لمبنى مقاوم للزلازل، فإنه يعدك بتصميم أفضل مبنى ممكن، لكن إذا أزلت الزلازل أولًا.

هكذا، يُطالب السلوكيون بأن يصير البشر أولًا أخيارًا عبر عملية تغيير معرفي وثقافي عميقة في مردودها، مع إهمال الآليات/المؤسسات الاجتماعية والسياسية المُعقدة التي تتحكم في هذا التغيير وتؤدي إليه أو تمنعه، إنهم يرغبون في أن يتصرف المواطنون وفقًا لما يؤمنون به هم (السلوكيون) من أفكار مناهضة للحرب، فيؤكدون ضرورة أن يصير البشر متفاهمين ومتسامحين ومرنين كفاية لرفض الحرب جذريًّا، دون التفكير بالمؤسسات السياسية والأيديولوجية وتعقيدات الحياة الاجتماعية، التي تتحكم مجتمعة، وبدرجة أو بأخرى في قرارات البشر بأن يكونوا مُتسامحين أم العكس، هذه القرارات التي يهدفون من خلالها إلى تأمين مصالحهم، تلك الأخيرة الواقعة هي الأخرى ضمن شبكة من المعايير المشروطة بانتماءات الأفراد المُركبة (اجتماعية، وعرقية، ودينية … إلخ) ونمط الحياة والذوق الشخصيين.

الدول «الجيدة» لا تخوض الحرب

تنطلق الصورة الثانية عن الحرب، من نقد تصور الطبيعة البشرية بوصفها شيئًا ثابتًا. فكل مظاهر الحياة تربطها صلة ما بالطبيعة البشرية المُركَبة والمُتجددة باستمرار. فإذا جاز القول بأن الحرب جزء من الطبيعة البشرية، فإن السلام يكون كذلك أيضًا. ومن هنا، فإن التحليل المنطلق من طبيعة بشرية ثابتة، غير مفيد في فهم أسباب الحرب وطرق إنهائها.

يعوِّل أنصار الصورة الثانية على الدولة، بصفتها كيانًا سياسيًّا، والفاعل الأساسي في العلاقات الخارجية. لذا، يعتقدون بأن الطريقة التي ينتظم بها هيكل الدولة السياسي (نظام الحكم) هو العامل الأساسي في إشعال الحرب أو إبطالها. فالدول «السيئة»: الاستبدادية، والفاسدة، تميل إلى النزاع مع الدول الأخرى، لعدة أسباب منها: حَرف انتباه مواطنيها عن المشاكل الداخلية التي يعانون منها، أو خلق وحدة زائفة خلف قادتها الذين يحكمون الشعب رغمًا عنه. بينما تميل الدول الديمقراطية إلى السلام، إذ تُراعي سياساتها الخارجية الرأي العام، والذي يناهض الحرب عادة نظرًا لعواقبها الكارثية.

اعتقد الفيلسوف الألماني كانط بأن الحقوق الأساسية للتعبير والنقد التي يتمتع بها مواطنو الدولة الديمقراطية، تقف عقبة في وجه الحرب، إذ تمنع أن يكون البت في أمرها حكرًا على فرد واحد، يستخدمه حسب هواه، وإنما يخضع القرار لنقاشات طويلة، يُؤخذ فيها الرأي المُعارض للحرب بالاعتبار. الإضافة إلى أن نظام السوق الحر، ضمن -كما رأى آدم سميث- التعاون الحر بين البلدان على أساس المنفعة المتبادلة، وأنه كلما توطدت علاقات التجارة فيما بينها، وبالتالي الاعتمادية المُتبادلة في تأمين حاجات شعوبها، انخفضت فرص الحرب بالضرورة.

إذًا، بالنسبة للصورة الثانية: تكون الدول إما سيئة، أو جيدة، واحتمالية أن تخوض الدولة حربًا، مشروطة بطبيعة نظامها الحاكم، وهيكلها السياسي اللذان يُحددان كونها «سيئة» أم «جيدة». وليس مشروطًا بطبيعة الأفراد (متعصبين أم متسامحين) كما في الصورة الأولى.

سيطر هذا النموذج على ليبرالية واشتراكية القرن الـ 19 على السواء، فبينما اعتقد الليبرالي الأمريكي وأحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة توماس بين بأن العالم يخطو بسرعة نحو السلام، وذلك عبر تبني العديد من الدول الحكم الديمقراطي.

انقسم الليبراليون بشأن السياسة الخارجية للدول الديمقراطية، ومشروعية الحرب من عدمها. رأى بعضهم أن عليها المبادرة بالهجوم، في حال تعرضت ديمقراطيتها لتهديد من دولة أخرى استبدادية، ولأنه لا تُوجد ضمانة لأن تتحول الأخيرة إلى ديمقراطيات مُسالمة دون تدخل، فقد اعتقد فريق من الليبراليين، أبرزهم توماس بِين ثم ودرو ويلسون (الرئيس 28 للولايات المتحدة)، أنه لا بد من خلق عالم ديمقراطي، وخوض الحرب من أجل السلام. عملًا بمبدأ «فعل الخير عبر فعل لا شيء قد يجعل الشر ممكنًا». (1)

أراد ويلسون إحداث تحول جذري في السياسة الأمريكية الانعزالية حتى تلك اللحظة، وتأسيس قواعد جديدة للعالم، يُمكن من خلالها تعزيز التعاون السلمي بين الدول التي ستصير في المستقبل «ديمقراطية». لكنه لم ينتبه، رفقة مؤيدي سياسة التدخل عمومًا، إلى أن «الحرب من أجل السلام»، يمكن أن تصير «حربًا دائمة لأجل سلام دائم» يظل وعدًا لا يتحقق. من هذه النقطة، كان فريق الليبراليين الآخر –بداية بكانط وريتشارد كوبدن قد عارض سياسة التدخل، حيث رأى بأن من حق الدولة الديمقراطية الدفاع عن نفسها ضد العدوان والتدخل الخارجي فقط، وقد طمح كانط إلى إقامة سلام عالمي، عبر القانون الدولي، والذي تختار الدول الديمقراطية الخضوع له، على أمل تحول المزيد من الدول في المستقبل إلى الديمقراطية، فتزداد «قانونية» و«سلمية» العلاقات القائمة بينها، ويتلاشى الاعتماد على القوة.

كذلك لم يُعوِّل فيلسوف ليبرالي آخر هو جيريمي بينثام على القوة، وإنما –بشيء من السذاجة– على «الرأي العام الدولي» كضمان للسلام العالمي، حيث تُدَان الدول المخالفة للقانون الدولي من غيرها. دون أن ينتبه كما يرى والتز إلى أن الطرف المُسيِطر –كما لاحظ جيمس مل– غالبًا ما يتجاهل مشاعر وإدانات الأضعف منه ولا يخضع لابتزازها.

افتقر الليبراليون إلى الواقعية، فلم ينتبهوا إلى افتقار الساحة الدولية إلى الحكومة/السلطة المشتركة القادرة على فرض القانون الدولي الذي طمحوا إليه على جميع الدول، فبينما تفرض سلطة الدولة (عبر احتكارها حق ممارسة العنف) شرعية القانون المدني على جميع مواطنيها، فإنه لا وجود لمثل تلك السلطة العامة على الساحة الدولية. لقد تخيلوا أن الدول ستحتكم وتخضع طواعية للقانون، دون سلطة تُجبرها على فعل ذلك.

بخلاف الليبراليين، اعتقد كارل ماركس وفريدريك إنجلز أن إنهاء الحرب مشروط بتحقيق الاشتراكية، فقد اتفق كلاهما على الفكرة الليبرالية: إنهاء الحرب يأتي عبر إصلاح الدولة، مع إضافة مهمة، أن أفضل شكل للدولة هو «لا- دولة»، فقد اعتقدا أساسًا بأن زوال النظام الطبقي مشروط بزوال الدولة التي تؤمِّن بقاء هذا النظام عبر حماية الطبقة المَالكة ضد الأغلبية العاملة، وبما أن الحرب هي صراع مسلح بين الدول، فإن بزوال الدُول عبر الاشتراكية: تنتهي الحرب.

رأى الماركسيون أن الحرب والعلاقات الدولية عمومًا هي انعكاس لحالة الصراع الطبقي حول العالم. وأن النهاية الوحيدة الممكنة للحرب، ستتحقق بأن تنتصر الطبقة العاملة في نهاية الصراع لصالح الأغلبية المُستغلَة من البشر، حيث ستختفي الدولة ومعها الحرب في متحف التاريخ. لكن، إلى أن يتحقق ذلك، انشغل الماركسيون بتعزيز السلام طالما كان مفيدًا للحركة الاشتراكية، وبالاستعمال التكتيكي للحرب عند الضرورة المتمثلة في التعجيل بقدوم أو الدفاع عن: الثورة ضد أعدائها. في حين رفعوا من شأن التضامن العابر للقوميات بين العمال حول العالم.

لقد صاغ لينين نظرية متماسكة، قدمت تفسيرًا للحرب العالمية الأولى، يقضي بأن الدول الرأسمالية تطورت بشكل جعلها في حاجة إلى إيجاد أسواق (بلدان) جديدة تستوعب فوائض المنتجات والقيمة، وقد خلق البحث عن هذه الأسواق تنافسًا على حيازتها (أي الأسواق)، وصل ذروته في شكل الصراع المُسلح، وقد رأى لينين بأن أفراد الطبقة العاملة يشاركون في ذلك النوع من الصراعات إما لأنهم غير مُدركين لذلك المغزى، أو لأنهم واقعون تحت تأثير الأيديولوجيا البرجوازية التي تزوِّر مصالحهم باسم المصلحة القومية، وتدَّعي أن مصالحها هي المتحققة بالحرب تُمثل مصلحة جميع المواطنين.

نظام الفوضى

تنطلق الصورة الأخيرة، التي يتبناها والتز نفسه، من حالة الفوضى الجوهرية التي تسود السياسة الدولية والعلاقات بين الدول، وسببها أن وجود الدول في النظام الدولي يفتقر إلى حكومة مُشتركة لديها من القوة المادية ما يكفي لفرض القانون الدولي على مجموع الدول داخل النظام، مثلما تفعل سلطة الحكومة على المواطنين داخل الدولة الواحدة. فحتى المؤسسات الدولية التي طمح الليبراليون بأنها ستمثل القانون الدولي، ظلت عقيمة طالما افتقرت إلى القوة المادية اللازمة لفرضه.

إن أي دولة ستلجأ إلى العنف إذا رأت أنه يخدم مصالحها أكثر من السلام. ولن تهتم عندئذ بالرأي العام «البينثامي» أو بالأخلاقية الكانطية المفروضة ذاتيًّا. فبخلاف المجتمع السياسي المحلي، حيث تمنح قوة الدولة للقانون المدني شرعيته والتي تجعل المواطنين يرتضون به قاضيًا بينهم، فإن المجتمع السياسي الدولي بلا سلطة عامة قادرة على ذلك، ومن هنا، تكون كل دولة قاضيًا ذاتيًّا على سياستها الخارجية، أو تتنازل عن ذلك لصالح دولة أخرى أو مجموعة من الدول أقوى منها لديها مصلحة في إخضاعها، لا لسلطة عامة مُحايدة.

لذلك خضعت العلاقات الدولية لمبدأ «الكفاءة النسبية»، الذي يعني مقدار ما تكسبه دولة مقارنة بما تخسره دولة أخرى في صراع معها، ولهذا السبب، يستحيل إيقاف الحروب نهائيًّا، إذ لا بد أن تجد دولة ما في المستقبل أن مصلحتها وفقًا لمعيار الكفاءة النسبية تتحقق بالحرب، وأن أرباحها في الأخيرة تتجاوز بمراحل مكاسبها في حالة السلم، وذلك مقارنة أيضًا بمكاسب وخسائر منافسيها في الحالتين، والتي من شأنها كبح جماح تهديداتهم، والحفاظ على أمان/اطمئنان نسبي للدولة المنتصرة.

أولوية الدولة هي البقاء، لذا فإنها تعيش حالة من الشك المستمر حيال نوايا الآخرين، وفي غياب أي سلطة عليا تفرض القانون، تصبح القوة القانون الوحيد، فلا ضمانة لأي دولة بألا تعتدي عليها أخرى. هكذا تسعى كل دولة، لضمان بقائها، إلى أخذ الحيطة عبر زيادة قوتها وتعزيز قدراتها العسكرية، حتى مع غياب التهديد المباشر، فهي تتوقع هجومًا مُباغتًا، كما أنها تُبالغ دومًا في تقدير القدرات العسكرية للخصم على اعتبار أن الأخير يكشف عن مقدار ضئيل من قدراته الحقيقية (وإن لم يكن ذلك حقيقيًّا)، فتقوم الدولة بالمثل بتعزيز قواتها، وعقد التحالفات، فيزيد التوتر بين الجانبين، والذي قد يقود للصراع بالفعل، وإن كانت أسبابه الموضوعية تافهة.

بهذه الطريقة تعمل «مُعضلة الأمن» شديدة القدم، التي وضع خطوطها الأولى ثوسيديديس في تأريخه للحرب بين أثينا واسبرطة، ويعتقد والتز وغيره من «الواقعيين» في مجال العلاقات الدولية أنها آلية أساسية داخل نظامها الفوضوي، فقد ارتابت إسبرطة من تضاعف قوة أثينا وأسطولها البحري وتوسعاته التجارية والاستعمارية، وذلك على حساب كورنث حليفة إسبرطة، فبدأت الأخيرة بدورها مضاعفة قواها، وزاد التوتر بين المدينتين، حتى وصل إلى الصراع المُسلح. هكذا، وفي كل قرن، إن لم يكن في كل عقد من التاريخ البشري، تحدث الحرب بنفس الطريقة، فالنظام الدولي فوضوي إلى درجة الجنون، وأن تكون عاقلًا في عالم مجنون هو ضرب آخر من الجنون. (2)

المراجع
  1. Man, the State, and War: A Theoretical Analysis by Kenneth N. Waltz, 126
  2. A Lasting Peace through the Federation of Europe By Jean-Jacques Rousseau, 91