الشيء الوحيد الذي يجب أن نخشاه هو الخوف نفسه!

الرئيس الأمريكي «فرانكلين روزفلت»، في أول خطاب له أثناء الكساد الكبير عام 1933

كم مرة كنت بصدد اتخاذ قرار مصيري ثم تراجعت في اللحظة الأخيرة، لا لشيء سوى أنك «خائف»؟ وكم من مرة حرمت نفسك فيها من فرص لا تتكرر في العمر كثيرًا لأنك تخشى المغامرة وترغب دائمًا في أن تحتفظ بمساحة الأمان الخاصة بك؟

فقد تقرر أن تستمر في عملك الذي يدفن مواهبك؛ خوفًا من أن لا تجد فرصة أخرى مناسبة، وقد تخاف من فقدان وظيفتك، فتقتصد في إنفاقك خوفًا من المستقبل وما ستحمله الأيام إذا ما فقدت وظيفتك في أي لحظة، وقد تخاف من الفشل إذا ما سافرت للبحث عن وظيفة، فتظل كما أنت، يتقدم بك العمر دون إحراز أي تقدم.

قراراتنا المالية تتأثر على نحو كبير بمشاعر الخوف لدينا، بيد أن الخوف ليس وحده ما يفعل ذلك،فالحنين والجشع وغيرها من العواطف تحتل دورًا مهمًا في التأثير على سلوكنا الاقتصادي. لكن الخوف، خاصة إذا مثّل سلوكًا جمعيًا، فإن تأثيره قد يتعدى متخذ القرار نفسه ليشمل أداء الاقتصاد بأكمله في الدولة.


الخوف من الركود يجعله واقعًا

إنه الخوف الذي يشل اقتصادنا.
«باتريك دبليو واتسون»، كاتب اقتصادي لدى موقع فوربس

في السابق، كان الاقتصاد التقليدي قائمًا بالأساس على نموذج «التوقع العقلاني»، الذي يفترض أن الشخص العقلاني يزن التكاليف والفوائد بشكل صحيح ومحسوب، ومن ثم يحدد أفضل الخيارات لنفسه.

لكن الاقتصاد السلوكي جاء ليثبت حقيقة أن البشر لديهم قدرات إدراكية محدودة، لذا يواجهون صعوبة كبيرة في ضبط أنفسهم. وقد قدم علم الاقتصاد السلوكي تفسيرات كثيرة لما أخفق في تفسيره الاقتصاد التقليدي، إذ كثيرًا ما تصبح المعطيات الاقتصادية من أرقام وإحصاءات هامشية أمام شعور متخذ القرار الاقتصادي بالخوف أو الطمع.

يتأثر المستهلكون إلى حد كبير بكل ما يقال ويقدم في وسائل الإعلام من تصورات للواقع الاقتصادي، والتي قد تكون في بعض الأحيان غير دقيقة.

فإذا ما أذيع أن البلاد سيخيم عليها حالة من الركود الاقتصادي، حتى لو كان الواقع ينافي ذلك، نجد أن خوف الناس من الركود يجعله حقيقة واقعة. ينعكس ذلك الشعور على سلوكهم الاقتصادي، فيصبح المستهلكون أكثر ميلاً إلى تقليل إنفاقهم ويحجم المستثمرون عن الاستثمار تحسبًا للمصاعب القادمة، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى انخفاض الطلب الكلي ومن ثم تراجع النمو الاقتصادي.

ولعل متلازمة «الإسراع إلى البنك»، مثال جيد على تأثير الخوف على الناس اقتصاديًا. فإبان الكساد الكبير في الثلاثينيات، أشيع أن الأزمة الاقتصادية ستترك البنوك عاجزة عن رد أموال المودعين، مما جعل الناس يهرعون جميعًا إلى البنوك في ذات الوقت مطالبين بسحب كامل ودائعهم من البنوك، وبالطبع لم تستطع البنوك وقتها توفير كل هذا المال في ذات اللحظة، فأفلست البنوك الواحد تلو الآخر، وتحولت الإشاعة إلى واقع حقيقي بفعل الخوف وعقلية القطيع.


الخوف من الموت والتأمين على الحياة

قل وداعًا للخوف، وأمّن على حياتك الآن!

هكذا تروج شركات التأمين لصناعتها القائمة بالأساس على اقتصاد الخوف، هي صناعة لها عملاؤها الذين تجذبهم إليها عبر لعبها على وتر الخوف والقلق من المستقبل الذي يسيطر عليهم، فيأتي حل التأمين كفرصة ذهبية للاستفادة من المبلغ الذي تقدمه تلك الشركات كتعويض عن المخاطر التي قد يتعرضون إليها، كأن ينشب حريق في منازلهم أو في حالات الإصابة والمرض والموت.

ذلك الإغراء يجعل الناس على أتم استعداد لدفع مبلغ كبير في سبيل تأمين ثرواتهم من أي خطر قد يداهمها. فبالرغم من أن تكلفة التأمين وما يدفعه الناس في البداية قد يكون أعلى من الفوائد التي تضمنها لهم هذه الشركات على المدى الطويل، إلا أن هذا لا يجعل المُقدم على التأمين على حياته مترددًا، فهو لا ينظر حينها إلى الفوائد من وراء التأمين بقدر ما يقارن بين قيمة ما يخشى عليه من الفقدان والمبلغ المطلوب سداده للتأمين، فيجده لا يساوي شيئًا أمام ثروته وحياته وحياة أبنائه.

آلية عمل شركات التأمين تقوم بالأساس على إعادة استثمار أموال المشتركين في مشاريع اقتصادية تعود بالربح. وعلى الجانب الآخر، فإن النتائج الضارة لحادثة معينة يتم توزيع عبئها على مجموعة من الأفراد بدلاً من أن يتحمل ضررها بصورة كاملة من حلت به المصيبة.


الخوف من ضياع الفرصة

إعلان عن تخفيضات للأسعار بميدان التايمز بنيويورك

قُدمت ظاهرة الخوف من ضياع الفرصة «فومو»، كمفهوم لأول مرة من قبل دكتور دان هيرمان عام 1996. توصل هيرمان، من خلال المقابلات التي أجراها مع مجموعات من المستهلكين، إلى أن ما يجمع معظمهم هو شعور الخوف من «تفويت الفرصة».

تلك الظاهرة وصفتها إحدى الدراسات على أنها قلق اجتماعي عام إزاء شيء يراه الناس فرصة – بينما قد لا يكون كذلك – يخشون ضياعها.

خرج هيرمان من بحثه، بأن تلك الظاهرة تعد واحدة من أهم العوامل التي تحكم سلوك المستهلكين، تجعلهم يغيرون المنتج الذي تعودوا عليه ويفضلونه لتجربة منتج جديد، وتدفعهم إلى التكالب على شراء «العروض مخفضة الأسعار» التي قد لا يحتاجون إليها، كما قد تدفع الناس للإقبال على الشراء فوق الحاجة لتأمين أنفسهم من أي ارتفاع مفاجئ في الأسعار.


اقتصاد الفقاعة

يقبل المستثمرون على شراء الأسهم والمنازل في فترات الرخاء، يزداد الإقبال وتزداد الربحية ويدفع الطمع الجميع إلى سباق شراء محموم بغرض الإثراء في سوق لا يدركون أبعاده. ما إن يتغير حال السوق قليلاً، وتتبدى حقيقة القيمة المبالغ فيها للاستثمار، سرعان ما ينقلب مزاج الناس ويلجأون للبيع بصورة جنونية، في محاولة منهم للخروج الآمن قبل انهيار السوق.

يبدو ذلك جليًا عند الحديث عن الفقاعة الاقتصادية، والتي يقصد بها «تلك الظاهرة التي تبدأ بتوسع سريع في السوق يعقبه انكماش حاد فيه». ولعل انفجار فقاعة الدوت كوم والرهن العقاري أمثلة جيدة على الدور الذي يلعبه «الطمع» و«الخوف» في التأثير على قرارات المستثمرين المالية.

فقاعة الإنترنت

بدايةً، نتجت فقاعة الإنترنت، المعروفة أيضًا باسم «فقاعة الدوت كوم»، عن الارتفاع السريع في قيمة الأسهم الأمريكية الخاصة بالاستثمارات في الشركات المعتمدة على الإنترنت في أواخر التسعينيات، وما صحبه من تضاعف في قيمة أسواق الأسهم بشكل كبير وخاصة مؤشر سانداك – سوق مالي أمريكي – الذي ارتفعت قيمة الأسهم فيه من أقل من 1000 إلى أكثر من 5000 نقطة في الفترة بين 1995 و2000.

كان ذلك الارتفاع نتيجة لقيام المستثمرين بضخ الأموال في شركات الإنترنت الناشئة خلال التسعينيات، والتي كانت تتغذى على القروض ذات الفائدة المنخفضة.

ومع بداية ظهور تقارير تحذر من فقاعة الإنترنت، اتجه المستثمرون إلى بيع الأسهم وهي في ذروة نجاحها خوفًا من انهيار السوق. تلك التقارير جعلت المستثمرين يكتشفون حقيقة أن رهاناتهم كانت خاطئة، وأن أسعار أسهم شركات الإنترنت مبالغ فيها بصورة كبيرة.

تسبب ذلك الانسحاب في تراجع حاد في قيمة أسهم تلك الشركات، وهو ما بث الخوف والرعب في نفوس بقية المستثمرين، مما دفعهم نحو خيار الانسحاب خوفًا من الاستمرار في الخسارة. ولأن تلك الشركات تقوم بالأساس على الأموال التي تجنيها من المستثمرين، فقد انهار الكثير منها وأعلنت إفلاسها.

فقاعة الرهن العقاري

اقتصاد, الاقتصاد العالمي, مشاعر, علم نفس

ترجع فقاعة الرهن العقاري إلى عام 2004، حين منحت بنوك «وول ستريت» التجارية قروضًا عالية المخاطر وكبيرة التكلفة للمواطنين الأمريكيين ذوي الدخل المحدود لمساعدتهم على شراء العقارات. أحدثت هذه الخطوة رواجًا في سوق العقارات الذي حقق عائدات ضخمة خلال الفترة بين 2004 وحتى بداية 2007.

أقبل الناس على شراء العقارات لا للسكن فقط بل للاستثمار أيضًا، وتنافست البنوك فيما بينها على تقديم قروض عقارية بتسهيلات أكبر ودون دفع أي شيء في البداية وبوثائق أقل، طمعًا في تحقيق مزيد من الأرباح.

لكن ما حدث كان العكس تمامًا، ففي فبراير/شباط 2007، أخذ السوق في التباطؤ وتوقفت الأسعار عن الارتفاع، ولم يتمكن الكثير ممن حصلوا على تلك القروض من تسديد الدفعات الشهرية مستحقة السداد للبنوك.

الأمر الذي خلق حالة عامة من الخوف لدى المستثمرين، دفعتهم إلى وضع حد لخسائرهم، والمسارعة للخروج من أسواق الرهن العقاري، فازدادت المنازل المعروضة للبيع بصورة كبيرة وانهارت الأسعار، ما أدى لسلسلة من التفاعلات انتهت بإعلان عدد كبير من المصارف إفلاسها، وانهيار الاقتصاد ككل.


إجمالاً، العقل ليس وحده ما يحركنا عند اتخاذ قراراتنا المالية، بل تؤثر مشاعرنا كذلك في عملية اتخاذ القرار لا سيما إحساسنا بالخوف.