أستطيع أن أتذكر بوضوح مدرسي المواد المختلفة للمرحلة الابتدائية وهم يبشرون الطلبة المتفوقين دراسيًا في الفصل، حيث إن هذا الولد سيدخل كلية الطب، وهذه البنت ستدخل كلية الصيدلة، وأخرى ستصير عالمة، وآخر سيصير حاجة مهمة جدًا. الطلبة الجالسون في الصفوف الأمامية سيحققون نجاحات وإنجازات في حياتهم المستقبلية، وأما البقية في آخر الفصل، فهم مستهلكون لا منتجون.

أحاول تذكر زملائي وزميلاتي في الفصل وأين هم الآن من هذه النبوءات. لا أعرف مصيرهم جميعًا لكنني أعرف جيدًا أن طالبة واحدة في فصلي هي من دخلت كلية الطب، ولم تكن من ضمن المبشرين بها آنذاك. فلم فشلت نبوءات المدرسين؟ هل خيبنا توقعاتهم أم أن المشكلة في أحكامهم المبكرة؟


الاستقراء بدليل ما زال مغالطة

تتشابه المعايير التي استند إليها المدرسون في إطلاق الأحكام والتوقعات بمعايير اختبار الذكاء. هذا لأن التفوق الدراسي يدل على مهارة في مواد اللغات والرياضيات والعلوم، والمهارات تدل على وجود ذكاء وفطنة. واختبارات الذكاء تشمل أسئلة حول الشخصيات المهمة مثلًا وهو ما يقع ضمن فئة «المعرفة»، وكذلك الأسئلة المبنية على المعلومات وإدراك الشخص لما حوله وللعالم. يمكن أن يكون السؤال مثلًا: «ما سبب أهمية غسل الأيدي قبل تناول الطعام؟».

تتدرج صعوبة الأسئلة تباعًا لقياس مدى معرفة الشخص، مثل السؤال عن ماهية «الفن التجريدي»؟ أو ما يعنيه التخلف عن سداد القروض؟ ما الاختلاف بين الطقس والمناخ؟ وهكذا. أسئلة عشوائية توضح معرفة الشخص للأمور المهمة في ثقافته. يقيس هذا النوع من الأسئلة المبنية على المعرفةما يسميه العلماء «الذكاء المتبلور».

كما أن هناك أسئلة مصممة خصيصًا لقياس ما يُدعى بـ«الذكاء السلس». يُطلق هذا المصطلح على قدرة الواحد على استخدام العقل والمنطق لحل مشكلةٍ ما. يمكن مثلًا أن يُطلب من آخذي الاختبار أن يتوقعوا ما قد يبدو عليه شكل ما إذا تم تدويره وعكسه. الذكاء السلس هو لحظة الـ«آها»، التي نوصل فيها النقاط ونرى الصورة كاملة.

من الطبيعي أن تتواجد علاقة قوية في الوعي الجمعي بين الذكاء والتفوق، وبين القدرة على الإجابة على أسئلة وُضعت خصيصًا لتقيس مدى ذكاء الأشخاص والنجاح المستقبلي. لكن الأمر الجديد هو أنه لا يمكن قياس ذكاءٍ شخصٍ ما، لأنه الذكاء ليس صفة قياسية كالطول والوزن. ولو استطاعت اختبارات عدة أن تتوقع ذكاء شخص ما، لا يعني هذا أن مصيره أصبح كتابًا مفتوحًا، أو أن النجاح حليفه.


الظهور الأول لاختبارات الذكاء

اختبارات الذكاء, بينيه
عالم النفس الفرنسي ألفريد بينيه، مبتكر اختبارات الذكاء (1857-1911)

بدأت اختبارات الذكاء أصلًا في فرنسا ضمن أعمال العالمين الفرنسيين ألفريد بينيه وثيودور سيمون في عام 1905، إلا أنها لم تكن مرتبطة بالعبقرية آنذاك، ولم تنشأ الصلة بينهما إلا بعد نقل المقياس من جامعة السوربون في باريس إلى جامعة ستانفورد في كاليفورنيا. وهناك في ستانفورد، طلب البروفيسور لويس إم تيرمان أن تتم ترجمة الأعمال من الفرنسية إلى الإنجليزية وصمم «مقياس ستانفورد بينيت لتحديد الذكاء» في عام 1916.

كانت نية اختبارات بينيه في البداية هي تشخيص الأطفال ذوي معدلات الذكاء الأقل الذين قد يحتاجون إلى تعليمٍ خاص لمواكبة المناهج الدراسية. إلا أن الأمريكي تيرمان قرّر أن يوجه المقياس إلى نوع آخر من الدراسات. بدأ بجمع عينة من الأطفال ليخضعوا لاختبار الذكاء ليختار بعدها الذين حققوا أعلى المعدلات، ثم قرر أن يتتبع هؤلاء الأطفال مرورًا بمراهقتهم وحتى بلوغهم ليرى ما إذا كان الأطفال الموهوبين في الصغر، يصبحون عباقرة في الكبر.

كانت مجموعة تيرمان تحتوي على 1528 طفلاً وطفلة. وقد خضع الأطفال لمختلف الاختبارات مرارًا وتكرارًا حتى بلغوا منتصف العمر. وجاءت نتيجة الأبحاث والتجارب في سلسلة تحت عنوان «الدراسات الجينية للعبقرية» نشرت بين عامي 1925 و1959، وبرغم أن تيرمان مات قبل ظهور المجلد الأخير للسلسلة، فإن الدراسات ما زالت مستمرة على هؤلاء الأشخاص، أو على العدد الصغير الذي يزال على قيد الحياة.


مفاجأة غير سعيدة

لم يكبر أي منهم ليصبح نموذجًا للعبقرية، حيث اتجهوا إلى وظائف غير ابتكارية في مجالات مختلفة مثل التعليم والطب والمحاماة والهندسة، واثنان فقط من مجموعة التجربة أصبحوا أساتذة متميزين بجامعة ستانفورد، كما أشرفوا على الدراسة التي كانوا هم أنفسهم جزءًا منها. ومع ذلك، فإنهم ليسوا بالمهارة الكافية التي تضع أسماءهم بين عباقرة علم النفس.

علاوة على ذلك، لم يتمكن عديد ممن تضمنتهم التجربة من تحقيق أي نجاحاتٍ تدلّ على قدرة ذهنية مميزة، حيث كان مجرد التخرج في الجامعة تحديًا بالنسبة لبعضهم، وكذلك الحصول على درجات علمية عالية. كما وُجد أن أكثرهم اختاروا مهنًا لا تتطلب قدرًا كبيرًا من التعليم أصلًا. بالإضافة إلى أن معدلات ذكاء الذكور الفاشلين والناجحين ممن تضمنتهم التجربة لا تختلف كثيرًا، مما يوضح أن الذكاء لم يكن عاملًا حاسمًا فيما استطاعوا تحقيقه أو لم يستطيعوا.

يجب الإشارة هنا إلى أن النتائج تتناول الذكور بشكلٍ أوضح لأنه من غير العادل الحكم على الإناث المشاركات في وقتٍ لم تكن للنساء فيه حقوق كثيرة، وكان يتوقع منهن أن يصبحن ربات بيوت فقط بغض النظر عن درجة ذكائهن.

حتى الآن، يبدو الأمر غريبًا، لكنه وارد الحدوث. نعم، يمكن للأذكياء أن يتخذوا قرارات غير ذكية أحيانًا ولكن هذا لا يعني أن معدل الذكاء ليس مهمًا بصورة عامة. مما يثير الشك هو ما يلي: من بين أطفال كثر لم يحصلوا على معدل ذكاء كافٍ يجعلهم ضمن عينة تيرمان، هناك طفلان حقّقا أكثر مما حققه أطفال تيرمان في حياتهم فيما بعد.

لويس ألفاريز, اختبارات الذكاء, الذكاء, التعليم, عنصرية
عالم الفيزياء الأمريكي لويس ألفاريز حصل على نوبل الفيزياء 1968 (1911-1988)

الطفل الأول، هو لويس والتر ألفاريز الذي كان يبلغ عشر سنواتٍ تقريبًا عندما خضع لاختبار تيرمان، إلا أنه سجل معدلًا أقل من اللازم للدخول في التجربة. لم يمنعه هذا الرفض في سنٍ صغيرة من الحصول على درجة الدكتوراه في سن الخامسة والعشرين من جامعة شيكاغو، ولم يمنعه كذلك من تقديم إسهامات مهمة في الفيزياء ليُصبح في النهاية أحد أهم علماء الفيزياء التجريبية في القرن العشرين حتى حصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1968. وأما الطفل الثاني المفروض، هو ويليام شوكلي الذي حصل على نوبل في الفيزياء، أيضًا.


تجربة أخرى مخيبة للآمال

فكرت كاثرين كوكس أن تعكس ما فعله معلمها، حيث تختار مجموعة من الأشخاص المبدعين ثم تحاول تتبع ذكاءهم رجوعًا إلى مرحلتي الطفولة والمراهقة من خلال سيرهم الذاتية. وجدت كوكس قائمة منشورة بالفعل تضم العلماء والفنانين وحتى القادة التاريخيين الأكثر شهرة وتناولت منهم 301 شخصية فقط. كان من ضمن العينة إسحاق نيوتن، بيتهوفن، مارتن لوثر ونابليون بونابرت.

كان التحدي الأكبر هو قياس معدلات ذكاء تلك الشخصيات. كانت طريقة تيرمان في حساب معدل الذكاء للأطفال هي ناتج قسمة العمر العقلي للطفل على عمره الزمني، ثم ضربه في 100. استخدمت كوكس طريقة تيرمان بعد تحسينها، حيث أضافت تسلسلًا زمنيًا لحساب معدلات الذكاء من مصادر مختلفة في السير الذاتية. وتوصلت إلى أن هناك علاقة إيجابية بين الإنجاز ومعدلات الذكاء المرتفعة.

إلا أن مفاجأة غير سعيدة عرقلت تجربة كوكس؛ عدد كبير من ضمن قائمتها حققوا معدلات ذكاء منخفضة لا تؤهلهم لعضوية «مينسا» (جمعية دولية تضم أصحاب نسب الذكاء المرتفعة)، أو لتخطي اختبار تيرمان. كما ظهرت استثناءات عديدة تفيد بأن هناك من نجحوا في حياتهم العلمية وحققوا إنجازات مهمة وهم يمتلكون معدلات ذكاء منخفضة نسبيًا. بالإضافة إلى وجود عوامل أخرى حاسمة لا تجعل معدل الذكاء هو العامل الأكثر محورية.


الذكاء والعرق

افترض بعض فلاسفة وعلماء القرن الثامن عشر، مثل ديفيد هيوم وإيمانويل كانط، أن القدرات العقلية تختلف باختلاف الأعراق. وخلال القرنين التاليين، اتضح أن هناك اختلافات حقيقية في هياكل الدماغ وأحجامها بين الأجناس البشرية المتنوعة مما اعتبره البعض دليلًا على الزعم المبكر السابق.

في عام 1869، حاول فرانسيس غالتون في كتابه «العبقرية الوراثية» تقدير معدل الذكاء للمجموعات العرقية المختلفة من خلال حساب عدد ونوعية الإنجازات الفكرية لأشخاص من هذه المجموعات كما كان عدد الرجال البارزين بينهم عاملًا حاسمًا أيضًا. أوضحت نتائج غالتون أن معدلات الذكاء تختلف فعلًا باختلاف الأعراق، حيث أتى اليونانيين القدماء في المرتبة الأولى بمعدل ذكاء مرتفع، تلاهم الإنجليز المعاصرون، وفي نهاية الترتيب كان الأفارقة والأستراليون.

استمر هذا الزعم في الانتشار بين الأوساط العلمية. ففي عام 1916،اقترح جورج أو فيرغسون، في بحثه التحضيري للدكتوراه عن «سيكولوجيا الزنوج» أنهم جيدون في الأعمال البدنية فقط، ولكن هناك ضعفاً واضحاً في قدرتهم على التفكير. في نفس العام، كانت تجربة لويس تيرمان المذكورة أعلاه، وأعلن تيرمان أن فجوات القدرات العقلية بين الجماعات العرقية المختلفة لا يملؤها التعليم وليس هناك حل واضح لها.

أدت هذه الدراسات التي تهدف إلى التأكيد على المزاعم العنصرية المنتشرة إلى تطوير اختبار «ستانفورد بينيت» على يد روبرت يركس ليلائم المدنيين، وبزيادة انتشار اختبارات الذكاء وما تعنيه بين الناس، ظهرت مطالبات باستخدام اختبارات الذكاء في سياسات تحديد النسل لتحسينه.

استمرت هذه الضغوطات حتى ستينيات القرن الماضي، وتبناها علماء بارزون مثل ويليام شوكلي الحائز على جائرة نوبل في الفيزياء والكيمياء، وهو الطفل الذي خضع لاختبار تيرمان مرتين ولكنه فشل في تحقيق المعدل المطلوب للاشتراك في التجربة، حيث أعلن أن الانخفاض المستمر في متوسط معدل ذكاء الأمريكيين أمرٌ يسهل تفاديه من خلال تحسين النسل.


الوجه المظلم لاختبارات الذكاء

إن السمعة المكتسبة لاختبار الذكاء هي أنها وسيلة سريعة وبسيطة نسبيًا لتقييم الأشخاص بناءً على معدل الذكاء. ومثالًا على ذلك، استخدمت مؤسسات بالولايات المتحدة مثل الجيش والشرطة هذه الاختبارات لفحص المتقدمين المحتملين، كما كانت نتائج الاختبارات عاملًا مهمًا في عملية القبول.

كما أن بعض مؤسسات الشرطة وضعت حدًا أقصى لمعدل الذكاء المطلوب، حيث كان خوفهم من الأذكياء لا من الأغبياء، لأنهم يفترضون أن من سيحققون معدلات عالية من الذكاء سيجدون العمل في نهاية المطاف مملًا ويتركونه بعد أن استثمرت المؤسسات وقتًا وموارد كبيرة لتدريبهم.

بانتشار استخدامات اختبار الذكاء في القرن العشرين، زعم بعض المحللين أن مستوى ذكاء الواحد يتأثر ببيولوجيته. كما وجد الاستعلائيون العرقيون واليوجينيون (اليوجينيا هي اتجاه يهدف إلى تحسين الصفات الوراثية) فرصتهم في هذه المزاعم، وأصروا أن الذكاء والسلوكيات الاجتماعية الأخرى هي أمور تحددها البيولوجيا والعرق، وبرروا ذلك بالفجوات التي أوضحتها نتائج الاختبارات بين الأقليات والبيض، أو بين الأشخاص ذوي الدخل البسيط والمرتفع. كما استغل بعضهم نتائج الاختبار ليدلل على أن المجموعات الاجتماعية والاقتصادية والعرقية تختلف جينيًا عن بعضها البعض، وأن عدم المساواة المنظمة هي نتيجة حتمية للعمليات التطورية.

وأما المثال الأكثر تطرفًا، فكان بطله كارل بريجهام، عالم النفس بجامعة برينستون والمؤسس الأول للقياس النفسي. في كتاب صدر له عام 1922 بعنوان «دراسة للذكاء الأمريكي»، قام بريجهام من خلال إحصائيات دقيقة بإظهار أن معدل الذكاء الأمريكي آخذ في النقصان، وادعى أن سبب ذلك هو الهجرة المتزايدة والاندماج العرقي، ودعا بناء على ذلك إلى أخذ سياسات صارمة لتقييد الهجرة وحظر الاختلاط العرقي لمعالجة هذه المسألة.

ما زال النقاش مستمرًا حول معنى أن تكون «ذكيًا» وما إذا كان اختبار معدل الذكاء أداةً مهمة للقياس أم لا؟ يرى بعض الباحثين أن الذكاء يختلف مفهومه باختلاف الثقافات، كما يؤكدون أن الأمر يختلف وفقًا للسياق المعروض فيه بنفس الطريقة التي نرى بها العديد من السلوكيات الثقافية.