«إنت عمري»؛ كلمتان يمكن قراءتهما بصوت السيدة الراحلة أم كلثوم التي غادرت الدنيا بجسدها منذ ما يقرب من نصف قرن، ولكن فنّها ما زال باقيًا، بل تتوارثه الأجيال، ولكن بمرور الوقت تتغير الأذواق وتدخل الفنَ المصري ألوانٌ جديدة، وأبرزها أغاني المهرجانات، هذا اللون الذي أصبح من أساسيات الروتين اليومي للشباب والأطفال المصريين.

حسن شاكوش، عمر كمال، حمو بيكا، مجدي شطا، عنبة، جميعها أسماء ينشأ الجيل الجديد من مواليد الألفينات بمصر وهو يردد أغانيها ويقتدي بأذواقهم في الأزياء وطريقة تصفيف الشعر، ليصبح أطفالنا يفضلون حضور حفلات يرقصون فيها بحركات سريعة واستخدام العديد من المصطلحات العامية.

وعلى الجانب الآخر، نجد المطربين الإسرائيليين يغنون لأم كلثوم في حفلاتهم، ولا يتوقف الأمر عند الغناء، حيث قررت عازفة الهارمونيكا الإسرائيلية ميخال أدلر، عزف إنت عمري لأم كلثوم وسط تصفيق حار من حضور حفلها وردود فعل متباينة من العرب.

استخدام سلاح ذاكرة الطفولة

وفي فيديو متداول على مواقع التواصل الاجتماعي منذ سنوات، جلس مجموعة من الطلبة في إسرائيل بفصلهم الدراسي، ودخلت المُعلمة وبدأت درسها بأغنية لأم كلثوم على شاشة بالفصل، وغنى الأطفال مع كوكب الشرق في انسجام ظهر على ملامح وجوههم.

وفي الوقت الذي تتنازع فيه شركتا صوت القاهرة ومحسن جابر على تراث أم كلثوم، أو تتنافس شركة مزيكا لمحسن جابر، ونجل شقيق عبد الحليم على من منهم مالك تراث عبد الحليم، وتتسبب السوشيال ميديا في زيادة شعبية مغنيي المهرجانات، تستغل إسرائيل الوقت في تعليم أطفالهم أغاني أعلام مصر الراحلين.

الأزمة ليست في الجيل الحالي، ولكن إذا نظرنا بعد 10 أو 20 عامًا من الآن، سنرى أحفادنا يتذكرون أغاني شاكوش وبيكا، وأحفاد الإسرائيليين يرددون أغاني أم كلثوم وعبد الحليم، بل وقد يظنون أنها ملكهم.

وبهذه الطريقة نتفاجأ بتغير مسار ملكية تراث عبد الحليم من مصر والعالم العربي للعدو الإسرائيلي، من خلال استخدامهم الأطفال لزراعة ملكية هذه الأغاني في أذهانهم بالوقت الذي تغير فيه الذوق المصري، ويتربى أبناء المحروسة على أصوات أخرى، لنتفاجأ بمرور الوقت أن إسرائيل ورثت الفن المصري.

تاريخ الكيان الصهيوني مع سرقة مصر

ومنذ عشرات العقود والاحتلال الصهيوني يربى أبناءه على الأفلام المصرية، فكانوا يضحكون على أفلام إسماعيل ياسين، ويبكون مع زكي رستم ومثل يوم السبت من كل أسبوع ميعاد عرض الأفلام المصرية عبر الإذاعة الإسرائيلية الذي كان يحدث بطريقة غير شرعية، حتى أصبحت مشاهدة الأفلام المصرية طقسًا أسبوعيًا بالنسبة لهم.

أعرب العديد من الفنانين المصريين عن انزعاجهم بسبب هذا الأمر، حيث قال نور الشريف في تصريحات صحفية قديمة له، إنه مع بداية السينما المصرية يتم الاتفاق مع الموزعين الأردنيين لعرض الأفلام المصرية بالأردن والضفة، وبالتالي هم السبب في وصول الأفلام المصرية لإسرائيل، فيما قال يوسف شعبان إن إسرائيل تمتلك جيشًا كاملًا ويتحدث بالعربية والذي نقل السينما المصرية لهم.

الكيان الصهيوني كانت محاولاته مستمرة ومتجددة في زرع الفن المصري بأذهان أبنائهم، وليس الفن فقط، بل وآثارنا أيضًا، حيث سعوا بعد نكسة 1967 لــسرقة العديد من الآثار المصرية من أراضي سيناء وأسسوا إدارة خاصة للآثار المصرية السيناوية والتي عمل بها مئات العمال تحت إشراف أحد عشر عالمًا من علماء الآثار الإسرائيليين، وبالطبع الحكومة المصرية لم تتهاون خاصة بعد تحرير سيناء، وجرت العديد من المفاوضات لتسترد مصر ممتلكاتها، ولكن الحكومة الإسرائيلية استندت على الإنكار.

الصراع بين إسرائيل والبلدان العربية من أقدم الصراعات على وجه الأرض، ولكن يجب علينا زرع الحقيقة في ذهن أبنائنا، ليعرفوا ما هي ممتلكاتنا سواء في الفن مثل صوت الست أو العندليب الأسمر، وأعمال إسماعيل ياسين وزكي رستم ويوسف وهبي وغيرهم من فناني العصر الذهبي، بالإضافة لقص حكايات تعاون العرب معًا ومحاولاتهم المتجددة للانتصار على العدو الصهيوني في الحرب الباردة التي تجري حاليًا.

التطبيع

بدأت كلمة التطبيع مع معاهدة السلام التي أجراها السادات بعد انتصار 1973، حيث كانت من شروط المعاهدة، ولكن خطورة هذا الشرط لم تظهر إلا بعد مرور سنوات بذل الكيان الصهيوني فيها جهدًا كبيرًا لينفذها بين العرب كلمةً ومضمونًا، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة التي هي سلاح ذو حدين، ويُستخدم أحيانًا لنشر العادات السيئة والأفكار السلبية في ذهن العرب بمختلف جنسياتهم وليس المصريون فقط، فهي كلمة في المعجم تعني تبادل الثقافات بين مصر وإسرائيل.

رأي الطب النفسي

للتعليق على فكرة تأثير الأغاني الشعبية على الأطفال المصريين على المدى البعيد، تواصلنا في إضاءات مع هالة حماده استشاري الطب النفسي وزميل الكلية الملكية البريطانية للطب النفسي، لتكشف لنا عن رأيها في الأمر ورؤيتها المستقبلية إذا استمرت الأغاني الشعبية هي النوع الأساسي الذي يفضل الأطفال المصريون سماعه في الموسيقى، وكذلك تفسيرها لاختيار إسرائيل أغاني أم كلثوم وعبد الحليم ليسمعها أبناؤها.

قالت هالة حماده إن زرع فكرة امتلاك إسرائيل أغاني الست أو عبد الحليم بكلماتها هي صعبة للغاية، والسبب هو الاختلاف الكبير بين اللغة المصرية والعبرية، ولكن من المؤكد أن الكيان الصهيوني يسعى للارتقاء بذوق الأطفال لكي ينشأ جيل له أُذن موسيقية يعرف الموسيقى والأغاني الجيدة ويسمعها كي يقلدها.

وأشارت أن ما يمكن أن يحدث هو زرع فكرة امتلاك الألحان وليس الكلمات، من خلال تأليف أغانٍ عبرية تتماشى مع ألحان الأغاني المصرية، متابعةً أن هذا الأمر ليس جديدًا، حيث حدث من قبل في أغاني عمرو دياب، عندما استعانوا بـ ألحان أغانيه في أغانٍ أخرى من كلماتهم، كي يرتقوا بذوق أطفالهم، وليظن الأطفال أنهم من يمتلكون الألحان وهي أصل بناء الأغنية، ونحن قلدناهم وتنعكس الآية.

وفي مصر، أكدت هالة حماده أن الجميع يجب أن يتكاتف ليرتقي بذوق الأطفال، من خلال تعريفهم بالأغاني الكلاسيكية مثل أغاني أم كلثوم وعبد الحليم، وزرع فكرة امتلاكنا الكلمات واللحن في أذهانهم، أما بالنسبة للأغاني الشعبية، ترى استشارية الطب النفسي أنها ظاهرة وستفنى، مثلما كانت هناك أغانٍ مصرية وصفتها بالهابطة في الثمانينيات والتسعينيات ولا يعرف بها الجيل الحالي.

وفكرة ظن الأطفال أن تلك الأغاني فقط هي التراث الفني المصري بعد عدة سنوات، هي فكرة صعبة لأننا ما زلنا حتى اليوم نسمع أم كلثوم وعبد الحليم ونتعلم من ألحان أغاني عبد الوهاب، لذلك يجب على الآباء والأمهات الاهتمام بما يسمعه أبناؤهم، وكذلك في المدارس يجب الاهتمام بدروس الموسيقى والنشاطات بشكل عام، لخلق جيل واعٍ بتاريخه.