نحن جميعًا نرى انخفاض أسعار النفط، هناك عدة أسباب قد تكون خلف ذلك؛ فهل يمكن أن يكون هناك اتفاق ما بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لمعاقبة إيران والتأثير على اقتصاد روسيا وفنزويلا؟ من المحتمل ذلك.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتن

بلغت أسعار النفط في يونيو/حزيران 2014 أوج ارتفاعها، إذ سجل خام برنت 115 دولارا للبرميل الواحد، إلا أن هذا الازدهار لم يدم طويلًا، فقد بدأت أسعار الذهب الأسود تترنح ببطء تحت وطأة تراجع الطلب العالمي من ناحية وتخمة الأسواق العالمية بالمعروض النفطي من ناحية أخرى.

الحديث عن أسباب انخفاض أسعار النفط على هذا النحو الدراماتيكي لتصل اليوم إلى 46 دولارا للبرميل يطول، ولم تقتصر التفسيرات على هذا التأصيل الأكاديمي الذي يتحدث بلغة العرض والطلب فحسب، ولكن أيّد البعض أن ثمة ذرائع سياسية تقف خلف المشهد برمته.

أيًا كانت الأسباب، فنحن الآن أمام أمر واقع، وهو تدهور غير مسبوق في أسعار النفط يستوجب انتهاج الآليات التي من شأنها أن تعالج الخلل وتستعيد توازن سوق النفط مرة أخرى، إلا أن ذلك لم يحدث حتى الآن!

بالرغم من أن الاقتصاد السعودي هو أكبر المتضررين من خفض أسعار النفط، إلا أن السعودية رفضت تخفيض الإنتاج ليستمر بمعدل 30 مليون برميل يوميًا

كثر الحديث على مدى ثلاثة أعوام مضت خلال اجتماعات أوبك (منظمة الدول المصدرة للبترول) عن ضرورة كبح جماح المعروض النفطي لتعزيز الأسعار مرة أخرى، ولكن تلك الاجتماعات لم تسفر عن أي تقدم يذكر في هذا الصدد! وهو ما يثير علامات استفهام عديدة حول فاعلية المنظمة ومدى قدرة أعضائها على التنسيق فيما بينهم.

إلا أن الموقف السعودي – أكبر منتج للنفط في العالم – على وجه التحديد جاء غريبا، مناقضًا للعقل منافيًا لأبسط قواعد المنطق،فقد حالت المملكة العربية السعودية دون تخفيض سقف إنتاج أوبك من النفط ليستمر الإنتاج بمعدل 30 مليون برميل يوميًا، جاء ذلك على هامش اجتماع أوبك المنعقد في فيينا في نوفمبر/تشرين الثانى 2015، ولو كانت السعودية أيدت التخفيض الذي طالب به أعضاء أقل ثراءً في أوبك لاختلف الوضع كثيرًا، خاصة أن الاقتصاد السعودي هو أول المتضررين من انخفاض أسعار النفط، كونه اقتصادا ريعيا يُشكّل النفط 81% من إيراداته.


أوضاع الاقتصاد السعودي في ضوء انخفاض أسعار النفط

يبدو أن السعودية وهي في صدد حيلولتها دون تخفيض إنتاج أوبك من النفط قد راهنت على قوة احتياطاتها النقدية التي بلغت 737 مليار دولار في أغسطس/آب 2014، إلا أن البساط قد سُحب من تحت قدم الاقتصاد السعودي بوتيرة سريعة منذ نهاية 2014 وحتى الآن.

فقد انخفض الاحتياطي النقدي السعودي بمقدار 120 مليار دولار في عام واحد ليسجل 616.4 مليار دولار بنهاية 2015،مواصلًا الانخفاض ليصل إلى 487 مليار دولار خلال الشهر الجاري سبتمبر/أيلول 2017، أي أن احتياطي السعودية من النقد الأجنبي قد انخفض بنسبة 34% منذ 2014 وحتى الآن.

جاء هذا الانخفاض في الاحتياطي النقدي لتمويل عجز الموازنة العامة للدولة، والذي بلغ 98 مليار دولار عام 2015 جراء انخفاض أسعار النفط، وهو ما دفع النظام السعودي إلى اتخاذ عدد من الإجراءات التقشفية للسيطرة على هذا العجز كرفع أسعار الوقود والمياه والكهرباء، وتخفيض مرتبات الوزراء بنسبة 20%، وفرض رسوم إضافية على العمالة الوافدة بالسعودية، وتأجيل عدد من المشروعات الكبرى في المملكة.

وكنتيجة لتلك الإجراءات تتوقع المملكة العربية السعودية انخفاض عجز الموازنة العامة خلال 2017 إلى نحو 52.8 مليار دولار، بانخفاض قدره 46% عن عام 2015، إلا أن العجز ما زال قائمًا بأي حال، وما دام العجز قائمًا سيظل السحب من الاحتياطي النقدي مستمرًا، خاصة في ظل استمرار انخفاض أسعار النفط.


رؤية 2030 في ضوء انخفاض أسعار النفط

تحاول المملكة حاليًا بقيادة الأمير محمد بن سلمان تنويع اقتصادها وفقًا لرؤية 2030 التي تسعى السعودية من خلالها إلى تنويع مصادر إيراداتها بعيدًا عن النفط، إلا أن ذلك الهدف – إن سار كل شيء كما هو مخطط له – لن يتحقق قبل 13 عاما من الآن، أو ربما يستغرق أكثر من ذلك، فكم من خطط طموحة لم يتحقق منها إلا النذر اليسير، والتاريخ العربي مليء بمثل هذه الخطط التي لا يتسع المقام لذكرها هنا.

حتى وإن نجحت السعودية في تحقيق رؤيتها الطموحة بقيادة محمد بن سلمان، سيظل النفط أهم مورد في الموازنة السعودية، وبدونه لن تستطيع المملكة المضي قدما في استثماراتها الطموحة التي ستقوم بالأساس على خصخصة 5% من شركة أرامكو، أكبر شركة في العالم من حيث القيمة السوقية، والتي تعمل في مجال النفط والغاز الطبيعي والبتروكيماويات، واستخدام حصيلة الخصصخة في استثمارات تخدم الأهداف الأساسية لرؤية 2030، وهي تنويع مصادر دخل المملكة.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو إذا كان النفط بهذه الأهمية للاقتصاد السعودي، لماذا إذن لا تقوم أوبك بقيادة السعودية بخفض إنتاجها من النفط لمحاولة إنعاش الأسعار من جديد؟ ولماذا رفضت السعودية تخفيض الإنتاج في اجتماع فيينا 2015 رغم اعتماد الاقتصاد السعودي بشكل شبه كلي على إيرادات بيع النفط؟ لماذا قبلت السعودية بعجز الموازنة العامة وانخفاض احتياطاتها النقدية، ومن ثم الاتجاه نحو تطبيق سياسات تقشفية ولم تقبل بتخفيض الإنتاج؟

هذه الأسئلة تطرح نفسها بقوة في ضوء ما أسلفنا ذكره عن رفض السعودية تخفيض الإنتاج في مؤتمر فيينا 2015، وكذلك في ضوء البيانات الصادرة عن أوبك في آخر تقرير لها، والتي تشير إلى ارتفاع إنتاج المنظمة ككل بنحو 173 ألف برميل يوميًا خلال يوليو/تموز مقارنة بيونيو/حزيران الماضي، وإذا قارنا إنتاج المنظمة في شهر يوليو بإنتاجها عام 2015 نجده قد ارتفع بنحو مليون و158 ألف برميل يوميًا بارتفاع قدره 3.7% كما هو موضح في الجدول التالي.

أما إنتاج المملكة العربية السعودية فقد ارتفع بنحو 32 ألف برميل يوميًا خلال يوليو/تموز مقارنة بيونيو/حزيران الماضي، وإذا ما قارنا ذلك بمستوى الإنتاج عام 2015، نجد أن الإنتاج قد انخفض بشكل طفيف لا يؤثر بأي حال من الأحوال على الأسعار في ضوء ارتفاع الإنتاج الكلي للمنظمة.


رفض السعودية تخفيض إنتاجها النفطي بين المعلن والخفي

يعزو البعض عدم تخفيض السعودية إنتاجها من النفط إلى رغبتها في الحفاظ على حصتها في السوق، وعدم خسارة هذه الحصة لمنتجين آخرين كإيران خاصة بعد رفع العقوبات عنها واستعادة عافيتها الإنتاجية من جديد،ومما يؤيد هذا الرأي ما حدث عام 1986 من حرب أسعار، حرصت السعودية خلالها على الحفاظ على حصتها من السوق غير آبهةٍ بانخفاض الأسعار، حينها أغرقت السعودية الأسواق بالنفط، وبالفعل انخفض سعر البرميل إلى ما دون الـعشرة الدولارات، ولم تستعد الأسعار عافيتها من جديد إلا مع غزو العراق للكويت 1990 لترتفع إلى 23 دولارا للبرميل.

إلا أن الأوضاع السياسية التي تمر بها المنطقة من ناحية وطبيعة التغييرات الحادثة داخل بيت آل سعود من ناحية أخرى تفرض تفسيرًا آخر قد يُصدق وقد لا يُصدق، إلا أن ذلك التفسير يظل حاضرًا بقوة خاصة مع وجود قرائن تدعمه وتقوي صحته.

فهناك من الآراء ما يشير إلى أن التطور الحاصل في سوق النفط ليس له علاقة بالاقتصاد، ولكنه تحرك جيوسياسي يسعى لتحقيق أهداف إقليمية وعالمية للضغط على روسيا وإيران، فقد كشفت صحيفة الجارديان عن لقاء تم بين الملك عبدالله وجون كيري وزير الخارجية الأمريكي في سبتمبر/أيلول 2014، اتفقا خلاله على زيادة إنتاج النفط وبيعه بسعر أقل من سعر السوق لإلحاق الضرر بروسيا وإيران وإجبارهما على التخلي عن دعم نظام الأسد في سوريا.


قرصان الاقتصاد يؤصل للأزمة

السعودية، أسعار النفط، البترول، أوبك

ما يؤيد هذا الطرح من وجهة نظرنا هو ما ذكره جون بركنز في الفصل الخامس عشر من كتابه الاغتيال الاقتصادي للأمم عن الصفقة التي تمت بين الولايات المتحدة الأمريكية وبيت آل سعود خلال سبيعنيات القرن الماضي، جاءت هذه الصفقة عقب حظر الدول العربية بقيادة المملكة العربية السعودية تصدير البترول إلى أمريكا وكل الدول المؤيدة لإسرائيل في حربها ضد مصر وسوريا 1973.

أدركت الولايات المتحدة منذ أزمة 1973 أهمية الطاقة ومن ثم أهمية السيطرة على دوائر صنع القرار في المملكة العربية السعودية كونها أكبر مملكة نفطية في العالم.

أدركت الولايات المتحدة منذ ذلك الوقت أهمية الطاقة ومن ثم أهمية السيطرة على دوائر صنع القرار في المملكة العربية السعودية كونها أكبر مملكة نفطية في العالم، وعليه جرى الاتفاق بين آل سعود والولايات المتحدة الأمريكية على أن تلتزم المملكة بإمداد الولايات المتحدة بالنفط في أي وقت وتحت أي ظروف، وإذا ما قام منتجون آخرون للنفط كفنزويلا والعراق وإيران بتخفيض الإنتاج فإن السعودية تقوم بزيادة إنتاجها لتعويض ذلك النقص، كما تلتزم السعودية بحدود معينة لتذبذات الأسعار تقرها الولايات المتحدة الأمريكية.

في المقابل تلتزم شركات البناء الأمريكية بتعمير تلك المملكة الصحراوية البدائية من ناحية، ومن ناحية أخرى تضمن الولايات المتحدة استمرار آل سعود في الحكم، وتؤمن ملكهم ضد أي اضطرابات داخلية وخارجية، وتقدم لهم دعمًا سياسيًا بل عسكريًا عند الضرورة.

بهذه الصفقة المربحة تحولت المملكة العربية السعودية من دولة تملأ شوارعها الأغنام وأكوام القمامة إلى دولة ذات طرز معمارية حديثة تشبه نظيراتها في أوروبا والدول المتقدمة، أما بالنسبة للولايات المتحدة، فقد ضمنت الحصول على البترول في أي وقت وتحت أي ظروف وبالأسعار التي تفرضها هي، بالإضافة إلى أن الأموال التي ستدفعها الولايات المتحدة ثمنًا للنفط ستعود للخزانة الأمريكية مرة أخرى من خلال شركات البناء الأمريكية التي ستتولى إعمار المملكة العربية السعودية.

يبدو أن الواقع السياسي الآن في السعودية يعضد ما ذكره بركنز في كتابه ويؤكده، فمحمد بن سلمان ولي العهد الجديد الذي تولى المنصب بعد إعفاء محمد بن نايف يحتاج إلى الدعم الأمريكي لتوطيد قدمه داخل رواق الحكم السعودي.

خاصة أن الشاب الطموح قد أقحم نفسه في عدد من الملفات التي يصعب عليه إدارتها دون مساندة ودعم أمريكي؛ كحربه باليمن، والمقاطعة القطرية، فضلًا عن خطته الطموحة لإعادة هيكلة الاقتصاد السعودية بشكل يجعله أكثر انفتاحًا، وهو ما سيؤلب عليه الداخل السني المتشدد وأتباع الوهابية في جميع أنحاء الوطن العربي.

ومن ثَمَّ تزداد حاجة ابن سلمان إلى إعادة إحياء الاتفاق الأمريكي الذي عقد في السبيعينيات، على النحو الذي ذكره بركنز في كتابه، مرة أخرى، ويبدو أن المقابل وفقًا للاتفاق هو الإبقاء على سقف إنتاج البترول دون تخفيضه، لمعاقبة روسيا وإيران بسبب موقفهما من الأزمة السورية، وكذلك أزمة شبه جزيرة القرم.

أخيرًا، ربما لم تخفض السعودية إنتاجها من النفط حفاظا منها على حصتها في السوق، وربما كان الأمر برمته مجرد اتفاق أمريكي، بموجبه تدعم الولايات المتحدة ابن سلمان في مقابل تثبيت الإنتاج، وربما كل ذلك مجتمعا! فعندما يمتزج ما هو سياسي بما هو اقتصادي يصعب على الباحث إصدار أحكام يقينية خاصة في ظل حالة الغموض التي تشوب عملية اتخاذ القرار داخل بيت آل سعود.