محتوى مترجم
المصدر
the conversation
التاريخ
2018/09/18
الكاتب
محمد أوزالب

لفهم أسباب الثورة الإيرانية علينا تناول الصراع المستمر بين مؤيدي العلمانية ونماذج الحكومات الإسلامية في المجتمعات المسلمة.بدأ كل هذا مع الاستعمار البريطاني للهند عام 1858، ما أدى لانهيار الحضارة الإسلامية القديمة. وببداية القرن العشرين كان العالم الإسلامي بأكمله مستعمرًا من القوى الأوروبية.انهارت الإمبراطورية العثمانية – آخر ممثل للحضارة الإسلامية القديمة – بعد الحرب العالمية الأولى عام 1918. وهكذا، شهد النصف الثاني من القرن العشرين كفاح الشعوب المسلمة لاستعادة استقلالها. كانت النخب العلمانية الوطنية الغربية المثقفة هي التي قادت هذه الحركات بدايةً، واكتسبت السيطرة السياسية والقيادة في دولهم. أراد هؤلاء القادة تقليد قفزات التقدم الأوروبية التي حدثت بعد تقليص قبضة الكنيسة على المجتمع والسياسة، وآمنوا أن تقدم المجتمعات المسلمة مرهون بإصلاح الإسلام وتقليل تأثيره على المجتمع، من خلال فصل الدين عن الدولة. فمثلًا، كان أحد الإصلاحات الرئيسية التي فرضتها الجمهورية التركية العلمانية الجديدة عزل الخليفة العثماني – القائد الديني والسياسي الذي يعتبر خليفة النبي محمد – من منصبه عام 1924، ما شكَّل صدمةً للعالم الإسلامي. تسبب هذا في ظهور حركات إحياء إسلامي بديلة، بقيادة العلماء المسلمين، ممن اعتقدوا أن الوجود الإسلامي نفسه في خطر. كانت هذه الحركات غير سياسية بداية ظهورها، واكتسبت دعمًا جماهيريًّا في وقت كان فيه المسلمون بحاجة إلى سلوان روحي ودعم اجتماعي. وبمرور الوقت طوروا رؤيةً إسلاميةً للمجتمع، ونشطوا أكثر فأكثر في المشهد الاجتماعي والسياسي.


تأثير الحرب الباردة

بنهاية الحرب العالمية الثانية كانت الدول المسلمة قد نجت بشكل كبير من قيود الاستعمار الغربي، لتقع ضحيةً للحرب الباردة.كانت إيران وتركيا دولتين أساسيتين تكثفت فيهما جهود التوسع السوفيتي. وفي المقابل، زودت الولايات المتحدة كلا الدولتين بدعم اقتصادي وسياسي مقابل عضويتهما في الكتلة الغربية الديمقراطية. قبلت تركيا وإيران هذا الدعم، وأصبحتا ديمقراطيتين في عامي 1950 و 1951 تباعًا. بعد فترة وجيزة أصبح محمد مصدق – زعيم الجبهة الوطنية – رئيس أول حكومة إيرانية منتخبة ديمقراطيًّا في 1951، والذي كان قائدًا عصريًّا علماني النزعة تقدميًّا، وكان قادرًا على تلقي الدعم الواسع من كل من النخبة العلمانية والعلماء الإيرانيين. كما ساعده السخط المتزايد على الشاه رضا بهلوي، والغضب الإيراني من استغلال حقولهم للنفط. بينما استخدمت بريطانيا وروسيا النفط الفارسي للنجاة بعد الهجوم النازي أثناء الحرب العالمية الثانية، وساعدت كثيرًا في إنعاش الاقتصاد البريطاني؛ كان الإيرانيون يتلقون 20% فقط من الأرباح.خطى مصدق خطوة جريئة لمعالجة هذه المسألة من خلال تأميم شركة النفط الأنجلو-إيرانية المملوكة سابقًا لبريطانيا، ما لم يكن في مصلحته، حيث اجتذب العقوبات الاقتصادية البريطانية والأمريكية، ما أعاق الاقتصاد الإيراني. في 1953، استُبدل خلال انقلاب عسكري خططت له وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والمخابرات البريطانية، وعاد الشاه إلى السلطة، وأصبحت شركة النفط الأنجلو-إيرانية، هي شركة بريتيش بتروليم مع توزيع الأرباح بالتساوي. لم يترك هذا الإيرانيين مع شعور بالإذلال المرير والخيانة والعجز فقط، بل تردد صدى تأثيره في العالم الإسلامي الأوسع. حيث كان مفاد رسالته هو إسقَاط أي حكومة منتخبة ديمقراطيًّا، إذا لم تتناسب مع مصالح الغرب. لا تزال هذه الرواية هي المسيطرة على النشطاء الإسلامويين حتى يومنا هذا، وتستخدم لشرح الأحداث التي تؤثر على الشعوب المسلمة. بتدقيق النظر في التطورات في إيران بين 1953 و1977، اعتمد الشاه كثيرًا على الولايات المتحدة في جهوده لتحديث الجيش والمجتمع الإيراني والبنية التحتية والاقتصاد، من خلال ما أسماه الثورة البيضاء. على الرغم من أن برنامجه الاقتصادي أسدى الرخاء وقوَّى الصناعة في إيران، ورفعت المبادرات التعليمية من مستويات محو الأمية، فإن كل هذا جاء بتكلفة باهظة، حيث قُسِّمت الثروة بشكل غير متساوٍ، فهناك تقدم في الطبقة الدنيا من الفلاحين، حيث يهاجرون إلى المراكز الحضرية، وهناك قمع سياسي واسع النطاق للمعارضة. شعر علماء الدين المخذولون بالقلق من فرض أسلوب الحياة الغربي، معتقدين أن الإسلام أزيل تمامًا من المجتمع.


الثورة، وماذا حدث؟

رد المعارضون الإيرانيون أخيرًا على قمع الشاه السياسي بالعنف، فبدأت منظمتان مسلحتان هما فدائيي خلق الماركسيين ومجاهدي خلق الإسلاميين، في شن هجمات على المسئولين الحكوميين في الستينيات. وظهرت معارضة أكثر تدعيمًا ومواربة، من الأوساط الدينية بقيادة آية الله الخميني، والأوساط الفكرية بقيادة علي شريعتي. شريعتي المثقف الفرنسي، نتاج الثورتين الجزائرية والكوبية، والذي دعا إلى نضال فعَّال للمطالبة بالعدالة الاجتماعية، وأصرَّ على أهمية التراث الثقافي الإسلامي، بدلًا من نموذج المجتمع الغربي. كما انتقد العلماء الشيعة لتمسكهم بعقيدتهم القديمة القائمة منذ قرون، وهي التهدئة السياسية، والتي تعتبر حاجزًا كبيرًا للحماسة الثورية. حطَّم آية الله الخميني الحاجز، حيث برز لدوره الواضح في احتجاجات 1963، ما أدى لنفيه، وكانت خطبه المسجلة التي ينتقد فيها الشاه، واسعة الانتشار في إيران. متأثرًا بالفكرة الجديدة حول الدولة الإسلامية، التي يمكن فيها تطبيق الإسلام برمته، وبالتالي إنهاء إمبريالية الاستعمار الغربي، أكد الخميني أنه يتعين على المسلمين إنشاء حكومة إسلامية مرجعها القرآن، ومثالها النبي محمد. في كتابه «الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه» أصرَّ الخميني على أنه في غياب الإمام العدل – القائد الشرعي الوحيد في كتاب النبي محمد في اللاهوت الشيعي – يجب على العلماء الموكلين الوفاء بالتزاماتهم بحكم معرفتهم بالقرآن. كانت هذه الفكرة بدعة جديدة أعطت تصريحًا للعلماء للمشاركة في السياسة. بتهيؤ الأوضاع تصاعدت الاحتجاجات المستمرة التي يحرض عليها أتباع الخميني، لتشمل جميع المدن الرئيسية، ما انتهى إلى الثورة في مستهل فبراير/شباط 1979، عندما عاد الخميني منتصرًا إلى إيران.


تأثير الثورة

كانت الثورة الإيرانية حدثًا كارثيًّا، فلم تكن تحولًا كاملًا في تاريخ إيران فحسب، بل كان لها نتائج بعيدة المدى على العالم أيضًا، حيث تسببت في تحول عميق في الحرب الباردة والجغرافيا السياسية العالمية، فلم تفقد الولايات المتحدة حليفًا استراتيجيًّا رئيسيًّا ضد التهديد الشيوعي فقط، بل اكتسبت عدوًّا جديدًا أيضًا.بعد التطورات الإيرانية المشجعة غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان في 1979، وأعقبه اندلاع الحرب الإيرانية العراقية في 1980، لإسقاط النظام الديني الإيراني الجديد. دعمت الولايات المتحدة صدام حسين بالأسلحة والتدريبات، ما ساعده على فرض سيطرته في العراق.


الأحداث المتزامنة

شكَّل هذان الصراعان، وسلسلة الأحداث التي أعقبتهما –غزو صدام حسين للكويت عام 1991، و حربا الخليج، وظهور تنظيم القاعدة، وهجمات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية على مركز التجارة العالمي، والحرب اللاحقة على الإرهاب – الجغرافيا السياسية على مدى العقود الثلاث الماضية، وما زالت حتى يومنا هذا. كما غيَّرت الثورة الإيرانية سياسات الشرق الأوسط كثيرًا، فأشعلت الحرب الطائفية الباردة بين إيران والمملكة العربية السعودية، وتحدت الملكية السعودية وزعمها قيادة العالم الإسلامي. تستمر الحرب الدينية والأيديولوجية الباردة بين إيران والمملكة العربية السعودية حتى يومنا هذا، بمشاركتهما في الصراعين السوري واليمني.التأثير الآخر للثورة هو انعاش الإسلام السياسي في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فأظهر النجاح الإيراني أن تأسيس دولة إسلامية ليس مجرد حلم. كانت السيطرة على الغرب وملوكهم المتعاونين والديكتاتوريين والفوز ممكنًا.

خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي انتشرت أحزاب الإسلام السياسي في جميع أنحاء العالم الإسلامي، بهدف أسلمة المجتمعات باستخدام أدوات الدولة، فأعلنوا أن النموذج العلماني فشل في تحقيق التقدم والاستقلال التام، وأن البديل الوحيد هو النموذج الإسلامي، ورأوا أن الثورة الإيرانية هي دليلٌ على إمكانية تحقيق الحلم.


هل نجحت الثورة؟

من منظور الأقدمية ما زالت الثورة مشتعلة، حيث تمكنت من الاستمرار لأربعة عقود، متضمنة الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت ثماني سنوات، بالإضافة إلى عقود من العقوبات الاقتصادية. وبالمقارنة، استمرت محاولة طالبان لتأسيس دولة إسلامية خمس سنوات فقط. من منظور آخر، وعد الخميني ورجاله بإنهاء الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتحقيق تقدم اقتصادي واجتماعي. واليوم، الاقتصاد الإيراني في حالة سيئة، على الرغم من عائدات النفط التي أنقذت الاقتصاد من حافة الانهيار. الشعب غير راضٍ عن ارتفاع معدلات البطالة، والتضخم الفج، لكن لديه أمل ضئيل في تغيُّر الثروات الاقتصادية. فشل الافتراض الأهم للإسلاموية – جعل المجتمع أكثر تدينًا باستخدام القوة السياسية – في تحقيق النتائج المرجوة، ورغم أن 63% من الإيرانيين ولدوا بعد الثورة، إلا أنهم لم يكونوا أكثر تدينًا مما قبل الثورة. رغم استمرارية الدعم الكبير للنظام الحالي، فإن نسبة كبيرة من الإيرانيين يطالبون بالمزيد من الحريات وأن تزدري الحكومة الدين، وتطالب الاحتجاجات المتزايدة بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية، ووضع حد للجمهورية الإسلامية. يلقي معظم الإيرانيون باللوم على فشل الثورة في العقوبات الأمريكية التي لا تنتهي، ورغم تجارة إيران مع القوى الأوروبية كالصين وروسيا، إلا أنهم يعتقدون أن الغرب لا يريد نجاح إيران بأي ثمن. أخيرًا، الجغرافيا السياسية العالمية هي عمل تنافسي مدفوع بالمصالح الوطنية، والتحدي الذي يواجه المجتمعات المسلمة، هو تطوير نماذج تجمع الإسلام والعالم الحديث بطريقة جذابة، وتساهم في الإنسانية، بدلًا من اعتبارها تهديدًا. لدى الظروف السياسية والاجتماعية الصعبة وقوى الوقت قدرة خارقة على اختبار وصقل الأيديولوجيات. بينما يستمر الصراع بين النموذجين العلماني والإسلامي في المجتمع من أجل المجتمع في إيران والعالم الإسلامي الأكبر، من المحتمل أن تتطور إيران كمجتمع معتدل في القرن الحادي والعشرين.