تشغل المعجزات مكانة رئيسية في الديانات التوحيدية، مع تميز نوعي للإسلام الذي جعل معجزته الكبرى بيانية وجدانية بالأساس لا معجزة مادية/حسية. مع وفاة النبي ومضي عصر المعجزات الكبرى التي ورد أكثرها برهنة على صدق الدعوة والتأييد الإلهي، أخذ الواقع يستعيد عاديته تدريجيًا. حين شرع المؤمن المبكر في رحلته لفهم العالم وتفسير المشاهدات واستنباط النواميس الحاكمة، كان مؤمنًا قريب عهد بالمعجزات الكبرى، معاصرًا للكرامات الناشئة، ومعتقدًا بالتدخل الإلهي في العالم، فاعترضته إشكالية المعجزة.

في حالة النبي إبراهيم على سبيل المثال، كانت معجزته الأبرز أن ألقي في نار موقدة، الإحراق من أخص خصائصها، فجعلها الله بردًا وسلامًا عليه. يرى المؤمن عادات الأشياء وقوانين الطبيعة المطردة في أوقات المعجزات قد تخلفت، فيتساءل عن موضع المعجزات من تلك القوانين: هل كانت خرقًا لها، أم جزءًا منها، أم غير ذلك؟ وهل النار تحرق بذاتها لقوة أودعها الإله فيها، ثم عطلها لحظة المعجزة؟ أم أن الإله هو من يخلق الإحراق في جميع الأوقات، وما للنار في حقيقة الأمر من دور فاعل فيها؟

تتداخل إشكالية المعجزة بوضوح مع الموقف من السببية، وهي المبدأ القائل بأن لكل حدث سببًا، حتى يصير لزامًا أن تختلف مواقف الفرق من ذلك المبدأ مع اختلاف مواقفها من الإشكالية الأصلية.

كان للأشاعرة (جمهور أهل السنة) معالجتهم الخاصة التي أسهم بالقدر الأكبر من تأصيلها الإمام أبو حامد الغزالي (ت. 1111) الملقب بحجة الإسلام، ظهر جانب مهم منها في كتابه «تهافت الفلاسفة»، أحد طرفي معركة النقل والعقل العربية المتصورة، في مقابل كتاب «تهافت التهافت» الحاوي لردود الفقيه والفيلسوف الأندلسي أبي الوليد محمد بن رشد (ت. 1198).

أعلن الغزالي في «تهافت الفلاسفة» أن الأسباب لا تؤثر بنفسها، فالنار مثلًا لا تحرق بنفسها، وليس في الاقتران المشاهد بين النار والإحراق إلزام عقلي على مسؤولية النار عن الإحراق. يقول الأشاعرة إن النار لم تحرق إبراهيم لأن الله الفاعل المطلق الأوحد في الكون، الذي يخلق الإحراق مع النار، لم يخلقه آنذاك فكانت المعجزة. ربط الأشاعرة موقفهم من السببية إيمانيًا بتوحيد الله، أي ألا ترى في الكون مؤثرًا ولا قوة ولا فاعلًا سواه، مع إثبات مسؤولية الإنسان عن فعله دنيويًا وأخرويًا.

اقرأ أيضًا:هل أنكر الغزالي أسس العلوم الطبيعية؟

يتشابه موقف الغزالي من السببية مع عدد من أعلام الفلسفة الغربية على طول التاريخ، أشهرهم الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم (ت. 1776) أحد كبار أعلام النهضة الأوروبية والفلسفة التجريبية. اقتصر تشابه هيوم والغزالي على جعل السببية نزوعًا نفسيًا سببه الاعتياد. قصر هيوم منهجه على التجربة وحصر المعرفة البشرية في الخبرة بالمحسوسات، رافضًا حتى الإقرار بمبدأ السببية المستنبط من المشاهدة، ورافضًا من قبله الإيمان بالمعجزات، ممثلًا في تلك الجزئية الروح المسيطرة على عصر التنوير إلى حد بعيد.


التنوير والمعجزة

تنامت على مدار عصر التنوير روح متعطشة إلى فهم العالم واكتشاف قوانينه، متوجسة من أي فكرة من شأنها تعطيل ذلك المسار، ورأى كثير من فلاسفة العصر في المعجزة إحدى تلك العقبات لما تتضمنه من إيمان بخرق لقوانين الطبيعة، وذلك الخرق عند هيوم ظن لا يجوز اعتقاده لضعف احتمالاته في مقابل قوانين الطبيعة التي عرفناها عبر خبرة ثابتة لا تتغير، بل من المستحيل أن يضع الإله الحكيم قوانين ثم يخرقها مثلما قال الفرنسي الشهير فولتير (ت. 1778) لاحقًا.

أما الهولندي باروخ سبينوزا (ت. 1677) المؤمن بنوع من وحدة الوجود، فاعتبر أن قوانين الطبيعة إرادة الله، وبما أن الإله لا يطرأ عليه تغير فكذلك إرادته وكذلك قوانين الطبيعة، ومن المحال أن يخرق الإله قوانينه لأنه بذلك يعارض ذاته، والمعجزات التي نتوهمها هي في الحقيقة أحداث طبيعية تسير وفق قوانين لم نحط بها تمام الإحاطة بعد. طرح سبينوزا معكوس المعالجة المسيحية لإشكالية المعجزة، فبينما قالت الكنيسة إن إنكار المعجزات نوع من القصور في فهم قوانين الطبيعة؛ قال سبينوزا، إن الاعتقاد بالمعجزات قصور في فهم قوانين الطبيعة بقصد نفي التدخل الإلهي في العالم.

مع إقرار القديس توما الأكويني (ت. 1274) بأن المعجزة تأتي حتمًا مفارقة لحال الطبيعة المعتاد، فإنه نزّهها عن شبهة خرق قوانين الطبيعة، لأن الاستجابة لإرادة الإله جزء من طبيعة المخلوقات، كما أن المعجزة لا تعكس تغيرًا في إرادة الخالق ولا تعد إفسادًا لنظام الكون. سار الأكويني في تناوله للمعجزة على درب سلفه القديس أوغسطين (ت. 430) الذي رفض التسليم بأن الرب خالق الكون قد يأتي فعلًا مخالفًا للطبيعة، بل غاية الأمر أن يخالف ما نعرفه عن الطبيعة، لأن أيًا مما يفعله واضع نظام الكون ونواميسه ومقاديره هو طبيعي على كل حال.


الإعجاز العلمي: النسخة الأصلية

استمر الزخم التنويري الغربي الرافض لفكرة المساس بقوانين الطبيعة إلى أن بلغ الشرق وبدأت بذرته تنبت خلال القرن التاسع عشر، إذ أعاد بعض المفكرين تقديم الإعجاز الديني في صورة إعجاز علمي، أي إعجاز منضبط بالمعايير العلمية الجديدة. كان الهندي السيد أحمد خان (ت. 1898)أحد أعلام التأويل المادي الجذري، إذ جعل الوحي تجليًا لعبقرية الرسول البشرية لا رسالة إلهية، كما جعل انفلاق البحر للنبي موسى حادثة مد وجزر.

أدت آراء خان ونهجه السياسي الداعم للمحتل الإنجليزي إلى تورطه في معارك حامية داخل الهند، انضم إلى الجبهة المقابلة فيها المصلح السيد جمال الدين الأفغاني (ت. 1897) حين قدم من مصر منفيًا عام 1879. اشتد الأفغاني في إنكار شطحات خان وألف في ذلك رسالة «الرد على الدهريين»، كما اتهمه بالزندقة والردة عن الإسلام.

كان الأفغاني يؤمن بالإصلاح السياسي ومحاربة الاستبداد المتسبب في تخلف المسلمين، باذلًا في سبيل دعوته عمره وراحته، لكن تلميذه الإمام محمد عبده (ت. 1905) عدل عن مسلك أستاذه لما أصابته غضبة الحكام، واتجه إلى الإصلاح الديني والفكري. راح محمد عبده يحث المسلمين على ترك التواكل والتكاسل والنهوض أسوة بالغرب، ورأى إزالة الحجب التي تمنعهم من استنباط قوانين الكون وسننه عبر التأكيد على ضرورة العلاقات السببية.


هل الأشاعرة السبب؟

كانت ردود محمد عبده موجهة بالأساس إلى الأطروحات العلمانية العربية والاستشراقية التي توسعت حتى شملت الدين بأكمله مثلما شملت العروبة ثقافة ولغة وجنسًا. في الصورة التي رسمها التنوير العربي للعقلية الخرافية السنية، كان الموقف الأشعري هو المسؤول عن تخلف المسلمين الحضاري والعلمي، وقد اشتبك محمد عبده مع ذلك الاتهام خلال سجاله الطويل مع الكاتب اللبناني فرح أنطون (ت. 1922)، حيث عرض محمد عبده موقف المعتزلة من السببية، المشابه لموقف الفلاسفة. يؤمن المعتزلة بأن الخالق قد وضع نظامًا للكون تنطبق أصوله على مصالح المخلوقين، وأن ذلك الخالق أودع في الكون ومخلوقاته قوى تؤثر بنفسها وفق قانون السببية، مع إرجاع جميع الأسباب إلى مصدرها الأول وهو الخالق.

على الجانب الآخر يرى الشيعة، وهم من أكبر الفرق الإسلامية حجمًا وتأثيرًا،وفق «تفسير الميزان» للعلامة الطباطبائي (ت. 1981)، أن الأصل في المعجزات عدم مخالفة فعل الطبيعة، بل هي أمور مألوفة مثل تبدل الأحوال كالموت بعد الحياة والعكس، غير أن الأسباب المادية المشهودة تؤثر وفق روابط خاصة وفي أماكن وأزمان خاصة، بينما تجري المعجزات بأسباب طبيعية أخرى مستورة عنا، فكأنما هناك قانون أعلى وأشمل مما أحاط به البشر.

كان الشيعة أنداد السنة في ساحات الفكر والسياسة على طول التاريخ، أي أنهم في منأى عن التأثر بتنظيرات الغزالي والأشاعرة، بل في حالة عداء أصيلة لها. لعل في تأمل مشاركة الشيعة لأهل السنة مصيرهم، رغم تمايز مواقفهم الفكرية بما فيها المعجزة والسببية، ما يغري بإعادة النظر في اتهام الفكر الأشعري بتقويض الحضارة والعلم في العالم الإسلامي، ومن ثم إعادة النظر في تغليب فاعلية الأفكار المجردة على المسيرة الحضارية واتخاذها ساحة إصلاح شبه متفردة (على نهج محمد عبده) في مقابل التأثير السياسي والسلطوي (مثلما رأى الأفغاني).

استدعى محمد عبده موقف الفرق الإسلامية المختلفة لينفي دلالة صريح القرآن على الجبر (أن الإنسان مجبور) أو حتى إنكار الضرورة السببية على طريقة الأشاعرة، وإن أبدى تفهمًا لمقصد الأشاعرة التنزيهي المحض، حيث إنهم قصدوا نسبة القدرة المطلقة والإرادة المطلقة لله. أنكر محمد عبده أن يكون مقصد الأشاعرة قطع العلاقة بين الأسباب الظاهرة ومسبباتها، وأكد أنهم يؤمنون بأن الله يخلق المسبب حين يوجد السبب، بمعنى أن الله هو من يحدث الإحراق عند ملامسة النار ولا تحدثه النار بنفسها.


النزوع المادي المعتدل

رغم ما سبق، أبدى محمد عبده وأتباعه على اختلاف مشاربهم توجسًا من فكرة المعجزة الخارقة للطبيعة، تأثرًا بالسياق الثقافي، وإن بدرجة لا تقارن بمسلك خان. ظهر تحفظ تيار محمد عبده على المعجزات في الآراء التي انتصرت لها كتاباتهم من بين نصوص التراث، وميلهم إلى الصرف عن ظاهر النص ما وسعهم المقام.

انتصر محمد عبده للقول بأن هلاك أصحاب الفيل كان بداء الجدري المنقول عبر البعوض (الطير الأبابيل)[1]، كما جعل قصة بقرة بني إسرائيل تشريعًا لا معجزة تضمنت إحياء ميت حقيقة[2]. تبنى اللبناني محمد رشيد رضا (ت. 1935) صاحب «مجلة المنار»، آراء أستاذه محمد عبده، كما ذكر في تفسيره أن انشقاق القمر الوارد في القرآن لم يكن حدثًا تاريخيًا مشاهدًا، بل يُقصد من الآية ظهور الحق وتمام وضوحه.

مع الجدل الذي أثير حول كتاب «حياة محمد» للأديب والصحفي المصري «محمد حسين هيكل» (ت. 1956)، وقف عدد من تلاميذ محمد عبده مناصرين للكاتب. انتقد هيكل في كتابه توسع كتاب السيرة في نسبة المعجزات المادية للرسول، وأوّل الوارد في القرآن منها مثل حادثة الإسراء والمعراج، فجعل نفس الرسول ساحتها، إذ اجتمع فيها الكون ساعتها من أزله إلى أبده في شبه إشراقة روحية. في معرض مساندة هيكل،أعلن رشيد رضا أن نبوة محمد قد ثبتت بالبرهان العلمي والعقلي الذي لا ريب فيه لا بالآيات والعجائب الكونية، إذ وردت الأخيرة رحمة وعناية بالمؤمنين في الشدائد لا دلالة على صدق الدعوة.

حتى حين أكد محمد عبده وجوب الإيمان بالخوارق الجائزة عقلاً، التي وقعت بقدرة الله على يد نبي من الأنبياء، حرص على نفي تعارض ذلك مع الاهتداء بسنن الله في الخلق، والاعتقاد بعدم تبدلها ولا تحولها، مشيرًا إلى بعض آيات القرآن الكريم التي رآها ختمًا لزمن المعجزات وإعلانًا لدخول الإنسان سن الرشد.

تماشيًا مع القول بانتهاء زمن المعجزات، استشهد محمد عبده باتفاق أهل السنة وغيرهم على عدم وجوب الاعتقاد بوقوع كرامة معينة على يد ولي ما بعد ظهور الإسلام، ليؤكد للمسلمين أن إنكار الكرامات لا يعد مخالفة لأصل في الدين ولا انحرافًا عن الصراط المستقيم.

هكذا تبدت حساسية تيارات سنية من فكرة خرق قوانين الطبيعة، تأثرًا بتدافعات حضارية عامة وخاصة، وهو تأثر لا ينجو منه تيار على مدار التاريخ. لقد استمر التوجه التحجيمي لمساحة المعجزة الخارقة في التشعب والتمدد على مستوى الكتابات النظرية والخطابات الجماهيرية، ما استثار ردود رموز أخرى.

كان شيخ الأزهر محمود شلتوت (ت. 1963) من المعارضين لتفسير القرآن على مقتضى النظريات العلمية، وهو ما نص عليه في مقدمة تفسيره. كذلك اعترض الشيخ محمد متولي الشعراوي (ت. 1998) على نهج تيار محمد عبده واختياراتهم في مواقع متفرقة، منها تفسيره لسورة الفيل.

المراجع
  1. محمد عبده، الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده/ تحقيق وتقديم: محمد عمارة، ج2، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009، ص531
  2. محمد عبده، الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده/ تحقيق وتقديم: محمد عمارة، ج1، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009، ص201