لقد نما الإنتاج الصناعي وكذلك التلوث، ما إن تقوم بتعليق ملابسك بالخارج لتجف حتى تتحول للون الأسود.

تصف هذه الكلمات لأحد أصحاب المحال التجارية في مقاطعة سيتشوان الصينية علاقة التنمية الاقتصادية بالتدمير الحادث للبيئية.

والواقع أن العالم الذي يشهد تزايدًا حادًّا في معدلات الاحتباس الحراري وذوبان الجليد بصورة تهدد الحياة على سطح الأرض، لا يتحرك بما يكفي لمواجهة هذه الأزمة التي تعد سببًا مباشرًا لتزايد الفقر وموجات الهجرة في العالم، نتيجة لما تحدثه من فيضانات وجفاف وتغير في خصوبة الأرض وارتفاع مستوى مياه البحر.

ليس هذا فحسب بل كان نصيب أولئك الذين يرفعون صوتهم في مواجهة الشركات الجشعة، التي لا ترى في الأرض سوى كرة يجب أن تعتصر لآخر قطرة، السخرية والاستهزاء من أكبر رئيس في العالم الحر المستنير.

الصين تحارب الطبيعة

ستحارب الصين كل من يقف في طريق بناء شيوعيتها الخاصة، بما فيهم الطبيعة نفسها.
ماو تسي تونغ

كانت حربًا بحق، تضخمت الصين ونما اقتصادها بمعدلات تفوق الـ 7% سنويًّا، في المقابل دفعت البيئة ثمن تشغيل آلة الإنتاج الصينية بأطنان الوقود.

يمد الفحم الصين بـ 62% من احتياجاتها من الطاقة وفقًا لبيانات 2016، وخلال الفترة من 1990 – 2015 تضاعف استهلاكها من الفحم أربع مرات من 1.05 إلى  3.97 مليار طن، لك أن تتخيل أن الصين وحدها استهلكت كميات من الفحم تفوق تلك التي استهلكتها باقي دول العالم مجتمعة خلال الفترة منذ 2011 حتى الآن، فكانت النتيجة خسارة الاقتصاد الصيني 227 مليار دولار  ووفاة 1.1 مليون مواطن وتدمير 20 مليون طن من القمح والأرز والفول الصويا والذرة سنويًّا بسبب تلوث الهواء.

أدركت الصين فداحة الأمر، وبدأت في إنفاق مليارات الدولارات لمكافحة تأثير الأنشطة الاقتصادية على الاستدامة البيئية من خلال الاستثمار بكثافة في الطاقة المتجددة، ورفع كفاءة استهلاك الطاقة بمصانعها، وتبني واحد من أنجح برامج إعادة بناء الأنظمة الحيوية للغابات في العالم، وغيرها من الإجراءات.

احترس الولايات المتحدة ترجع إلى الخلف

في ناحية أخرى من العالم يبدو أن دولًا كالولايات المتحدة لم تتعلم الدرس جيدًا.

فقد راجعت إدارة ترامب منذ استقراراها في البيت الأبيض في 2017، 15 قانونًا وقرارًا واتفاقية بيئية وضعتها إدارة أوباما، كان أبرزها انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ.

يرى ترامب أن هذه القواعد مضادة للنمو الاقتصادي، ولا حاجة للشركات إلى قضاء الوقت وإنفاق المال في سبيل الالتزام بالمعايير البيئية التي وضعتها إدارة أوباما بعد الآن؛ كونها تعيق قدرة الشركات الأمريكية على المنافسة، قائلًا في أحد خطبه: «لا بد للحرب على الفحم أن تنتهي».

ويبقى السؤال قائمًا: هل أخذت إدارة ترامب في اعتبارها تأثير قراراتها على صحة الأمريكيين؟ ألا تدرك تأثير هذه القرارات سلبًا على الاقتصاد الأمريكي على المدى البعيد، كما هو الحال تمامًا في الصين؟ لماذا لم تُصغِ إدارة ترامب إلى طلبات كبرى الشركات الأمريكية مثل جوجل وأبل بعدم الخروج من اتفاقية باريس للمناخ كونها تؤثر سلبًا على أعمالها المرتبطة بالتكنولوجيا النظيفة؟

انسلاخ الولايات المتحدة من التزاماتها البيئية لا يؤثر عليها فقط، ولكن على معظم الدول النامية الأكثر تضررًا من تبعات التغير المناخي، فالولايات المتحدة مسئولة عن 15% من مجموع الانبعاثات الكربونية المسببة للاحتباس الحراري عالميًّا، وتعاني الدول النامية من العبء الأكبر لآثاره المدمرة على البيئة، في صور موجات الجفاف والفيضانات وتدمير الأراضي الزراعية، التي تضيع سدى جهود التنمية ومحاربة الفقر في تلك الدول.

شركات النفط: وبال على النيجيريين

نيجريا، مثال آخر، ليس فقط عن تدمير البيئة لأسباب اقتصادية، ولكن عن أن تعيش فقيرًا في دولة غنية!

يعد تسرب نفط إكسون فالديز 1989، واحدة من أسوأ الكوارث البيئية في التاريخ، حينما اصطدم خزان نفطي تابع لشركة إكسون موبيل بأحد جزر ولاية ألاسكا الأمريكية بالمحيط الهادي، متسببًا في تسرب 11 مليون جالون من النفط! وهو ما أدى إلى تدمير الحياة البحرية في هذه المنطقة.

شهدت دلتا نهر النيجر، الواقعة في نيجيريا، تسريبًا مماثلًا كل عام لمدة 50 عامًا، وهو ما يجعلها واحدة من أكثر المناطق تلوثًا على سطح الأرض! هنا تصل معدلات التلوث 900 ضعف المعدلات الطبيعية التي توصي بها منظمة الصحة العالمية، وتتجه أصابع الاتهام بشكل كامل إلى شركات النفط العاملة في المنطقة، وتحديدًا شل البريطانية وإيني الإيطالية.

تعمدت الشركتان الكذب أكثر من مرة بشأن عدد مرات التسرب سنويًّا، وكذلك بشأن التأثيرات السلبية والإجراءات المتبعة. تفيد تقارير الأمم المتحدة بأن حجم التسريبات الحقيقية أكبر 60 مرة مما تدعيه تقارير شركة شل! وأن ضعف الأطر المؤسسية في نيجيريا مكن الشركة من تحقيق مليارات الأرباح على حساب البيئة وصحة المواطنين.

لا تكذب الشركتان بشأن حجم التسريبات وحسب، ولكن أيضًا بشأن الأسباب الحقيقية خلف هذه التسريبات، وهي إخفاق معدات الشركة في معظم الحالات، بهدف تجنب أي تعويض للسكان المحليين عن تدمير البيئة وتعريض صحتهم لأخطار جسيمة، منها على سبيل المثال ارتفاع معدلات وفيات المواليد إلى الضعف في الأماكن القريبة من التسريبات، حيث ترتفع معدلات تلوث المياه ألف مرة عن المسموح به من قبل الحكومة النيجيرية!

ترامب البرازيلي يحرق الأمازون عن عمد

تمامًا كترامب، خاض جايير بولسونارو الانتخابات الرئاسية بالبرازيل استنادًا إلى وعود غير بيئية، مؤكدًا رسالة مفادها: «فتح الأمازون للأعمال التجارية»، وهو ما فعله بالضبط منذ تولي الرئاسة.

يشير معهد البرازيل القومي لبحوث الفضاء أن معدلات الإزالة بالأمازون في صيف 2019 فقط فاقت ما تم إزالته منها خلال السنوات الثلاث الماضية مجتمعة، معرضًا أكبر غابة استوائية تحتوى أعقد نظام بيئي في العالم للخطر، وهو ما يمثل ردة عن عقود طويلة جاهدت فيها حكومات البرازيل المتعاقبة للحد من إزالة الغابات.

زادت حرائق الأمازون بنسبة 80% في العام الحالي مقارنة بالعام الماضي، فالنار هي الوسيلة الأسهل لإزالة الغابات، بهدف الحصول على الخشب المنشور timber الذي يستخدم في صناعات الإنشاءات والورق من ناحية، وكذلك بهدف التعدين وزراعة فول الصويا وتربية الماشية من ناحية أخرى.

هنا تظهر الصين في الصورة مرة أخرى كأكبر مستورد للصويا في العالم، فقد توجهت شهيتها ناحية الصويا البرازيلية بدلًا من الأمريكية في ظل الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة. في أغسطس/آب الماضي كشفت وكالة بلومبرج عن قيام شركات صينية عامة وخاصة باستيراد حوالي مليوني طن متري صويا من البرازيل خلال أسبوع واحد فقط بشكل سري.

لنشوِ اللحوم على رماد الغابات!

إلا أن تربية الماشية كنشاط اقتصادي شديد الربحية هو الأكثر خطورة على الإطلاق، وهو السبب في 80% من عمليات الإزالة بالأمازون. وفقًا لجامعة ييل الأمريكية فإن حوالي 450 ألف كيلومتر من الغابات التي تم إزالتها تستخدم حاليًّا كمراعٍ للماشية، وقد أدى ارتفاع الطلب على اللحوم البرازيلية من قبل كل من هونج كونج والصين وإيران ومصر وروسيا والولايات المتحدة إلى نمو صادرات البرازيل من لحوم الأبقار بنسبة 25% خلال الفترة من 2010 حتى 2017، متسببًا في مزيد من تدمير الأمازون من قبل المزارعين المتعاملين مع الشركات المصدرة.

كل ذلك يعني أن جزءًا كبيرًا مما يحدث في الأمازون يعود بشكل أساسي إلى الشركات الدولية المستوردة للصويا واللحوم البرازيلية، وأن هذه الشركات يمكنها ممارسة الكثير من الضغط على الحكومات المحلية.

على سبيل المثال رُصِدَ تورط شركة سويف أند كومباني، أحد أكبر معالجي اللحوم البرازيلية في العالم، في قضايا فساد مع مسئولين حكوميين لتسهيل شراء الأبقار من مزارعي الأمازون، الجدير بالذكر هنا أن هذه الفضائح لم تحل دون انتعاش أسهم الشركة في البورصة الأمريكية وتضاعف أسعارها ثلاث مرات منذ انتخاب بولسونارو حتى الآن، وهو ما يعني تفاؤل المستثمرين الأمريكيين بسياسات الرئيس البرازيلي الجديد وثقتهم في توسع أعمال الشركة في الفترة القادمة.

يقع جزء كبير من العبء أيضًا على المواطنين في مختلف أرجاء العالم، ليس فقط من خلال الضغط الشعبي وتوحيد المطالب بضرورة اتخاذ إجراء عاجل بشأن الاحتباس الحراري في واحدة من أكبر الاحتجاجات الشعبية التي شهدها العالم، ولكن أيضًا من خلال تفعيل دورهم كمستهلكين والامتناع عن منتجات تتضمن تدميرًا للبيئة من أجل الضغط على الشركات العاملة في هذه المجالات.

في مصر على سبيل المثال في كل مرة تشتري فيها لحمًا برازيليًّا من أحد المنافذ تذكر جيدًا أن 40% من الأبقار التي استخدمت في إنتاجه رُبِّيَت على أنقاض الأمازون المشتعل!