برغم ما قد ينتظر القارئ من المشتغل بالتاريخ أن يجيب عن الأسئلة، إلا أن هذا الأخير كثيرًا ما يكون عمله قائمًا على مجرد طرح تلك الأسئلة وعرض أسباب مراودتها الذهن، بل وإن مما يثري علم التاريخ كثرة الأسئلة التي لم توجد لها إجابات حاسمة.

من هذه المسائل محل التساؤل -والجدل أحيانًا- مسألة العلاقة بين شخصيتي النبي «إدريس» -المعروف في الكتاب المقدس باسم «أخنوخ» وفي المندائية (الصابئة) باسم «هرمس»- والإله المصري القديم «أوزيريس». فثمة تشابهات واضحة بين الشخصيتين فيما يتعلق بـ «الأعمال» و«النهاية»، فضلًا عن ارتباط كلٍ منهما بأرض مصر، وهو ما يلاحظه الباحث في كل من الكتاب المقدس والقرآن والتراثَين الإسلامي والمصري القديم.

وهذا استعراض لمواطن التشابه المذكورة.


إدريس والكتب الرسالية

جاء في الكتاب المقدس ما يلي:

وعاشَ أخنوخُ خَمسًا وسِتينَ سنَةً، ووَلَدَ مَتوشالَحَ. وسارَ أخنوخُ مع اللهِ بَعدَ ما وَلَدَ مَتوشالَحَ ثَلاثَ مِئَةِ سنَةٍ، ووَلَدَ بَنينَ وبَناتٍ. فكانَتْ كُلُّ أيّامِ أخنوخَ ثَلاثَ مِئَةٍ وخَمسًا وسِتينَ سنَةً. وسارَ أخنوخُ مع اللهِ، ولم يوجَدْ لأنَّ اللهَ أخَذَهُ.
سِفر التكوين-الإصحاح الخامس-الآيات من 21 إلى 24

جاءت هذه الآيات في سياق الحديث عن نَسل آدم من ابنه شيث، وتذكر «أخنوخ» حيث تقول أنه عاش 365 سنة ورزق بابنه متوشالح، و«سار مع الله» هي كناية عن أنه اتخذ طريق الله أو الطريق المستقيم والتزم تعاليم الله، ثم ينتهي الحديث بـ«لم يوجد لأن الله أخذه»؛ أي أنه رُفِعَ بشكل أو بآخر.

وجاء في القرآن:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا.
سورة مريم- الآيتان 56 و 57

يقول القرطبي في تفسيره للآية: «إدريس – عليه السلام – أول من خطّ بالقلم وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النجوم والحساب وسيرها. وسمي إدريس لكثرة درسه لكتاب الله تعالى، وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة».

وأمّا «ورفعناه مكانًا عليّا» فقد ذكر كل من الطبري والقرطبي وابن كثير في تفسيراتهم أقوالًا تفسرها بأنه قد رُفِعَ تحت جناح أحد الملائكة إلى السماء الرابعة-وفي قول آخر السادسة- وفيها كان قبض روحه.

وفي سِفر أخنوخ -وهو أحد الأسفار الموصوفة مسيحيًا بـ«غير القانونية» نظرًا لعدم اعتراف الأغلبية بضمها للكتاب المقدس-، تصف الآيات معراج أخنوخ/إدريس إلى السماء ورحلته فيها وحواره مع الرب الذي وعده أن يكون ممن يشهدون على الناس عند حساب الآخرة، ثم رجوعه للأرض وتعليمه أبناءه ما تعلمه في السماء، وأخيرًا حمل الملائكة له للسماء مرة أخيرة (الرَفع).


«إدريس» في التراث التأريخي الإسلامي

أما في تواريخ كل من الطبري، ابن كثير، ابن الأثير، والمسعودي، فإن إدريس هو أخنوخ من نسل شيث بن آدم، وتسميه الصابئة «هرمس» -ويفسرها المسعودي بـ«عطارد»- وهو على حد قولهم أول من خط بالقلم وعلّم الزراعة وتخطيط المدن ولبس المخيط والسكن في البيوت، ويضيف بعضهم القول بإنه أول من ركب الخيل وجاهد في سبيل الله، ويُجمعون أنه قد حذّر قومه من مخالطة نَسل قابيل، ولكن قومه عصوه وخالطوهم.

وتنتهي رواية كل منهم عن إدريس أنه قد وُلِدَ له ابنه «متوشالح»، وعاش نحو 300 سنة بعد ميلاد ابنه، ثُمَ رفعه الله إلى السماء بعد أن استخلف متوشالح على قومه.

اتفقت مصادر التأريخ الإسلامية على أن إدريس عاش في مصر وكان ملكًا عليها، وكان أول من بنى المدن وعلم الناس الزراعة والفلك.

في كتابه «حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة» يذكر السيوطي اسم إدريس بين من دخلوا مصر من الأنبياء، ويذكر رواية عنه أن أحد الملوك قد أراده بسوء ولكن الله عصمه، ثم دفع له أبوه العلوم المتوارثة عن جده، فطاف بالبلاد وبنى عشرات المدن في مختلف الأنحاء أصغرها «الرها» -بالأناضول حاليًا- ثم عاد إلى مصر وحكمها وزاد في مسار نهر النيل وقاس عمقه وسرعتة جريانه وكان أول من خطط المدن ووضع قواعد للزراعة وعلّم الناس الفلك والهندسة، ويربطه بالصابئة ويقول إن بعضهم يدّعي أن أحد أهرامات مصر قبره والآخر قبر جده شيث بن آدم.

وينقل المؤرخ ابن تغري بردي في كتابه «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» رواية عن بناء إدريس للأهرام، فيقول إنه قد استدل من فهمه لحركة الكواكب على قرب الطوفان، فبنى الأهرام وأودعها العلوم التي خشي من ضياعها.

أما أستاذه المقريزي فيذكر في كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» -المعروف باسم الخطط المقريزية- أن إدريس مَلَك مصر وكان أول من بنى بها بيوتًا للعبادة، وأنه أول من علّم الناس الطب.

ويذكره ابن إياس الحنفي بين من دخلوا مصر من الأنبياء ومن حكموها من الملوك في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور».

وتقول بعض الروايات -التي ينقلها لنا ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان» عن اسم «بابليون»- إن إدريس كان يعيش في أرض بابل، لكنه تعرض لبعض المضايقات فدعا الله أن يرسله إلى أرض مشابهة فأرسله إلى مصر، فلما رأى النيل قال «بابليون» (ومن هنا -حسب الرواية-تحمل مصر هذا الاسم ضمن أسمائها) وهي تعني «مثل نهر بابل»، وصار ملكه بمصر.

هذا عن إدريس، فماذا عن أوزيريس؟.


«أوزيريس» في الموروث المصري القديم

آمن المصريون بأوزيريس كواحد من أهم آلهة «التاسوع» الإلهي، وهو بمثابة مجلس سماوي يضم الآلهة الأعلى في مصر.

في مصادر التأريخ الفرعونية، كان أوزيريس من الملوك الآلهة، وعلّم الناس الزراعة والبناء وسائر فنون الحياة.

ووفقًا لبردية تورينو -التي تعتبر المصدر الرئيسي لقائمة حكام مصر القديمة- فإن ملوكًا من الآلهة قد حكموا مصر قبل الملوك البشر، كان أوزيريس هو الملك قبل الأخير منهم، وكان هو من علّم الناس الزراعة ومختلف فنون الحياة وأشهرها لبس المخيط والكتابة، وهو في الرسوم والنقوش المصرية يظهر مرتبًا بالزراعة من خلال تصويره راقدًا وعيدان الزرع تبرز من جسده.

وفي كتاب «الجبتانا» الذي وضعه المؤرخ المصري مانيتون السمنودي ودوّن فيه قصة الخلق المصرية القديمة وأحداث أول الزمان حتى تكليف الآلهة لـ«مينا نارمر» بتوحيد مصر التي مزقتها حرب «سِت» مع «أوزيريس وحورس وإيزيس»، فنرى فيها وصفًا لأوزيريس أنه يتلقى من حين لآخر دعوة الآلهة فيصعد إلى السماء ويتعلم منها فنون البناء بالحجر والخط بالقلم والزراعة والحكمة وتخطيط المدن، وتصفه بأنه أول من جعل الجبتيين (المصريين) يسكنون البيوت بعد أن كانوا يسكنون الكهوف خوفًا من الوحوش والمسوخ، كما تنوه بأنه أول من شيّد المعابد الضخمة، واهتم بتعليم الطب، وابتكر أدوات الزراعة والري مثل المحراث والشادوف، وازدهرت في عهده المدن والصناعات وعرف الناس لبس الأثواب الكتانية، وكان يتلقى وحي الآلهة ويرى الرؤى في نومه، وقد حكم مصر بالعدل حتى اغتاله سِت ثم عاد إلى الحياة ثم رفعته الإلهة إلى تاسوعها المقدس، وهو -وفقًا للعقيدة المصرية القديمة- قاضي قضاة محكمة الآخرة.

وجدير بالذكر أن أوزيريس إن كان قد عُثِر على تمائم أو آثار بهيئته ترجع للأسرة القديمة، إلا أن وجوده في الموروث المصري بدأ بشكل أشبه بـ«السيرة الشعبية» التي التقطها الكهنة في عصر الدولة الوسطى وصاغوها لتأخذ شكلها الحالي؛ مما يطرح سؤالًا: هل كان ما توارثه الناس قصة ملك حقيقي أضافوا لها مع الوقت أبعادًا أسطورية؟.


بين «إدريس» و«أوزيريس»

رجلان، كلاهما تربطه المصادر – على تنوعها- بمصر، وتضع كلا منهما في مكان «المَلِك العادل الملهَم من السماء»، وتنسب لكلّ منهما تعليم الناس أمور بعينها هي الزراعة والتخطيط والكتابة والطب والحكمة ولبس المخيط، وكل منهما أقام المدن وعمّر البلاد وترك الدنيا مرتين، فإدريس عرج إلى السماء ليتعلم ثم هبط ليعلم الناس ثم رُفِعَ أخيرًا، وأوزيريس قُتِلَ ثم بُعِثَ ثم رُفِعَ إلهًا.

وكلا من الجبتانا وسفر أخنوخ يتلقى بطله وعدًا إلهيًا بأن يقوم شهيدًا على الناس يوم الحساب، وأورث إدريس مُلكَه ومكانته لابنه متوشالح، بينما أورث أوزيريس نفس التركة لابنه حورس.

بل وإن تأملنا شخصية «سِت» – الذي تقول بعض النظريات إن اسمه هو مصدر كلمة «ساتان/Satan» التي تعني «الشيطان»- سنجده ملائمًا لنمط «أعداء الأنبياء» في القرآن الذي يقول «وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا من المجرمين». (سورة الفرقان – آية31).

فـ«سِت» لا يمثل الشر كشيء معنوي مبهم – كما يعتقد كثيرون-، بقدر ما يمثل «المكروهات» مثل العدوان، الفوضى المجتمعية، الكراهية، الحسد، العنف، وفي فترة ما جُعِلَ قرينًا للحرب وضواري الصحراء، ونلاحظ هنا أن الرواية القائلة بهجرة إدريس من بابل إلى مصر ترجع السبب لانتشار أذى أبناء قابيل قاتل أخيه (الذي تسميه بعض المصادر قايين)، وفي قصة أوزيريس نجده يصطدم مباشرة بأخيه الذي يصبح قاتله بعد ذلك.

كل تلك التشابهات – فضلًا عن تشابه الأسماء- يجعل رأس الباحث في التاريخ والمتأمل فيه يدور، ولكن تبقى لدينا مشكلة انعدام الأدلة القاطعة التي يمكن أن تدعم تلك الفرضية، فتتركها في منطقة «النظرية التي تستحق التفكير»، دون حسم.


ختامًا

إدريس النبي وأوزيريس الإله، كلاهما عاش بأرض مصر وحكمها، وعلّم الناس فنون الحياة، وصعد إلى السماء.

يقول الأستاذ المؤرخ د.قاسم عبده قاسم «إنه بما أن عمر الإنسان على الأرض هو خمسمئة ألف سنة، وأن المدوّن هو تاريخه بدايةً من خمسة آلاف سنة مضت، بالتالي فإن ما نعرفه عن تاريخ الإنسان هو مجرد 1% فقط من هذا التاريخ». هذا يجعل من وظيفة التاريخ ليس أن يقدم الإجابات دائمًا بل أن يطرح الأسئلة ويستفز الفضول.

ومن هذه الأسئلة: هل إدريس هو أوزيريس؟، هل حكم إدريس مصر كملك ونبي – في نموذج مزدوج سابق لنموذجَي داوود وسليمان- وأوحى له الله أن يعلم البشر أولى العلوم الحياتية، ومع مرور الوقت رفعه الناس لمرتبة الآلهة وحاكوا له أسطورة تخلده؟، ما سر تشابه الموروث الشعبي/التأريخي عن كل منهما مع الآخر؟.

ما يؤيد ضرورة طرح هذا السؤال هو أن التناول الشعبي لتاريخ الأشخاص والدول والأحداث هو أمر واقع مستمر، ونجده حتى الآن في السير الشعبية كسيرة سيف بن ذي يزن وسيرة الظاهر بيبرس وغيرها، تلك السير التي تشط عن الواقع وتخترق حاجز المعقول مكانًا وزمانًا وتُدخِل الخوارقي مع الواقعي من الأمور.

كذلك فإن ديانات العالم القديم – كمصر والشام والعراق- تحمل في موروثاتها تشابهات قوية مع موروثات الأديان الرسالية الثلاث:اليهودية والمسيحية والإسلام. وليس نموذج «إدريس – أوزيريس» هو الوحيد، فلدينا قصة الطوفان العراقية دليلًا على هذا التشابه.

وإن كان من المستحيل حاليًا حسم الشك، فمن يدري ماذا قد يطرأ مستقبلًا من تطور لوسائل البحث التاريخي أو من اكتشافات تاريخية. فلهذا يستمر علم التاريخ في عملية طرح الأسئلة حتى وإن لم تكن لها إجابات حاضرة.

المراجع
  1. أطلس القرآن: د.شوقي أبوخليل
  2. الديانة المصرية القديمة: د.عبدالحليم نورالدين
  3. الجبتانا.. أسفار التكوين المصرية: مانيتون السمنودي – تحقيق علي الألفي
  4. الفراعنة في مملكة مصر.. زمن الملوك الآلهة: كلير لا لويت
  5. الخروج في النهار"كتاب الموتى":ترجمة شريف الصيفي
  6. ديانة مصر القديمة: أدولف إرمان
  7. الأساطير المتعلقة بمصر في كتابات المؤرخين المسلمين: د.عمرو عبدالعزيز منير
  8. تراثنا الروحي من بدايات التاريخ إلى الأديان المعاصرة: سهيل بشروئي – مرداد مسعودي