الدراما في مصر هي أقرب الفنون والأدوات الثقافية للتأثير في مصر. كل بيت مصري به تلفزيون، وعبر سنوات طويلة، تشكلت الأسر المصرية ثقافة تجعل المشاهدة الجماعية للتلفزيون ممارسة شعائرية للاجتماع الأسرة. حتى مع ظهور الأجهزة الرقمية الشخصية، الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية واللاب توب، التي كان يفترض أن تكسر تلك الثقافة، لم تقد إلى ذلك لأن هذا هذه الفردية التكنولوجية صاحبها سريعاً بشكل جدلي أدوات قولبة تكنولوجية تكسر التذرير الفردي المتسارع من خلال منصات الفيديو حسب الطلب كنتفليكس التي يشاهد الجميع منتجاتها وتخلق لغة للحوار والتواصل على مواقع التواصل الاجتماعي.

يعني ذلك أن إنتاج مسلسل عن شخصية تاريخية سيعني مباشرة طرح تلك الشخصية للنقاش العام وتشكيل خطابات متصارعة يمثل النقاش حول الشخصية مادة لها. يأتي مسلسل «رسالة الإمام» في هذا الإطار. هو نفسه محاولة يواصل خطاً عاماً في خطاب السياسي للسلطة في مصر خلال السنوات الأخيرة يتحرك على محورين: الأول هو إعادة تعريف الوطنية المصرية كامتثال لمؤسسة الدولة أو السلطة التي تجسد تلك الوطنية، والثاني هو إدراج الانتماء الديني ضمن تلك الوطنية المصرية عبر إعادة تعريف الدين نفسه كممارسة روحانية شخصية (من هنا التركيز على الاتجاه الصوفي في التعاطي مع الدين) وكممارسة خاضعة سلطة النص وليس متمردة عليه كما ربما يبدو أحياناً، لكن بعد تأويل النص من قبل المؤسسة الدينية الخاضعة للدولة، أي تأميم النص الديني من قبل الدولة.

الشافعي أو الليث بن سعد أو صلاح الدين الأيوبي أو أي شخصية إسلامية عاشت في مصر هي فرصة لدعم هذه الصيغة: إدراج الانتماء الديني في الوطنية المصرية، وإخضاع النص الديني لسلطة المؤسسة المعترف بها رسمياً.

لكن الشافعي مثله مثل أي شخصية تاريخية كبيرة ليس شفافاً بشكل كامل، أي لا يمكن المرور به أو استعماله أو توظيفه دون أن تترك سيرته المركبة ندبات على الخطاب الذي يحاول أن يمر من خلالها. هنا تعيد الدراما فتح معضلة الشافعي والنقاش حوله الذي شكل في التسعينيات مثلا إحدى حلقات المعركة مع نصر حامد أبو زيد.

تشكل الفقه الإسلامي بأسره حول معضلة محددة: تناهي النصوص ولانهائية الموضوعات. النصوص الدينية المقدسة محدودة، بينما الأسئلة الحياتية عن الأحكام الدينية لا تنتهي. هذه المعضلة لم تطرح في عصر الخلفاء الأوائل لأن هؤلاء الخلفاء تمتعوا هم أنفسهم بسلطة توازي سلطة النص، وهو الأمر الذي بقي أثره في أصول الفقه بعد ذلك في اعتبار قول الصحابي دليلاً في ذاته مستقلاً عن الاستناد إلى نص.

لكن بانتهاء تلك الحقبة التأسيسية برمتها ظهرت المعضلة وتشكلت عليها إجابتان أساسيتان. الإجابة الأولى حاولت حل الموضوع من ناحية النصوص: محاولة توسيع النصوص بجمع مزيد من المرويات النبوية، هذا الحل هو ما شكل ما عرف بمدرسة أهل الحديث. الحل الثاني تعلق أكثر بالشق الثاني، وهو الموضوعات والمسائل الحياتية، وهو التوسع بالفتوى اعتماداً على خبرة الفقيه بالنصوص وعللها والقواعد العامة أو الأصول التي تتحرك في إطارها الأحكام الشرعية، وهذا الحل هو ما تبنته مدرسة أهل الرأي.

بجانب هذين الحلين تشكلت حلول جانبية. اعتمد مالك بن أنس مثلا على عمل أهل المدينة باعتباره تقليدا ممتدا من العصر النبوي، إلى جانب توسعه في جمع المرويات على طريقة أهل الحديث، وقبوله بالقياس والاستحسان على طريقة أهل الرأي، إلى درجة وصفه الاستحسان بأنه تسعة أعشار العلم. جعفر الصادق اعتمد سنة آل البيت عوضا عن القياس، وبقي هذا التقليد قائما لدى الشيعة الإمامية.

تركزت مدرسة أهل الحديث في البصرة، لأن البصرة كانت معقل الصراع مع المعتزلة لذلك اتجه خصوم المعتزلة في البصرة إلى التوسع في جمع الحديث النبوي والتمسك بظاهره، حيث نجد في البصرة أئمة السنة والحديث كحماد بن زيد، وإلى جانب البصرة نجد مجموعات متفرقة وأقل حدة في تمسكها بموقفها ذلك. الفقه في مدرسة الحديث في ذلك الوقت ممارسة محدودة تماما، فهو عمليا مجرد ناقل حصيف، يجمع المرويات ويفتي بها. أقصى دور يمكن أن يقوم به هو الموازنة بين المرويات المتعارضة، وغالبا ما تكون تلك الموازنة متعلقة بثبوت الرواية أكثر من تعلقها بمضمونها.

مدرسة الرأي تركزت في المقابل في الكوفة، المدينة الإسلامية الجديدة التي نشأت في عهد عمر بن الخطاب، وقطن فيها واحد من أبرز فقهاء الصحابة، وهو عبد الله بن مسعود، واجتمع حوله فيها عدد كبير من طلاب العلم كالشعبي والنخعي. اعتمدت مدرسة الرأي على أداتين أساسيتين في الفقه: القياس على النص والاستحسان.

القياس عند أهل الرأي لم يقتصر على محاولة البحث عن نص يتعلق بمسألة أو حكم قريب من الموضوع الذي يحاول الفقيه الفتوى فيه لمحاولة البحث عن علة مناسبة مشتركة بين المسألتين، وإنما عنى أيضا محاولة تخريج (استنباط) حكم في مسألة على (بالعودة إلي) أصل أو قاعدة عامة أو علة معتبرة في الشريعة استقرأها الفقيه عبر خبرته بالنصوص.

الاستحسان تحديداً عنى قدرة الفقيه الخاصة عبر خبرته وملكته (مهارته) الفقهية على إجراء الأقيسة والمفاضلة بينها وانتقاء المرويات التي يصح العمل بها والمرويات التي يجب إغفالها لعدم التيقن من ثبوتها ومن دقتها ومن أولوية الحكم فيها (العمل بخبر الواحد، وهو نوع من المرويات لا يرويها في القرون الأولى التالية للنبي سوى واحد، مشروط عند الأحناف وليس مطلقا).

الفقيه في مدرسة الرأي ليس مجرد قناة سلبية كل دورها هو التمرير الآمن للمروية على طريقة أهل الحديث، بل هو يلعب دورا نشيطا لا يتمرد على النص، ولكن يضعه في عملية نقدية أوسع، وبالتالي قد يقدم الفقيه القياس أو ما استحسنه على النص.

مشكلة أهل الحديث رغم تسلحهم بسلطة المرويات النبوية كانت ضعفهم الشديد آنذاك في أدوات الاستدلال والمناظرة على نحو كان فيه من السهل على فقهاء الرأي إيقاع المكتفي بالروايات في تناقضات وإشكالات يعجز عن حلها منطقيا، على نحو يظهره مجرد نصوصي عاجز عن فهم ما يحمل والتعامل معه.

لم يكن الشافعي وريث مدرسة أهل الحديث البصرية، بل قادماً من مدرسة الحجاز إلى بغداد في ظل نفوذ متغلغل لأهل الرأي بفعل المكانة التي حظي بها تلميذا أبي حنيفة، القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني. التلميذان أجريا مصالحة تاريخية مع السلطة العباسية التي مات شيخهما أبو حنيفة تحت سياطها بسبب دعمه لتمرد النفس الذكية في المدينة، وأخذ العراق يخضع لسلطتهما الفقهية.

الشافعي لم يحاول أن يوفق بقدر ما حاول أن يمأسس الخلاف، أن يضع قواعد محددة وواضحة للممارسة الفقهية تحترم النص كما يريد أهل الحديث، لكنها تنظم هذا الموروث الهائل من المرويات وطريقة استعماله. هكذا جرى ترتيب الأدلة، وإعطاء أولوية مطلقة للنصوص النبوية وكل أشكال السنة، ورفع مكانتها إلى مكانة النص القرآني نفسه بحيث تصير السنة ليست مجرد تفسيرا للقرآن، بل نص موازي مكمل في العملية التشريعية. يمكن بعد ذلك ممارسة القياس الجزئي في بيئة نصية آمنة، وبعيدا عن دهاليز الاستحسان.

الشافعي هنا له وجهان: وجه حديثي ونصوصي، هو الوجه الذي احتفى به البصريون والبغداديون. عبد الرحمن بن مهدي البصري أحد من ورثوا تقاليد أهل الحديث في البصرة من طلب من الشافعي أن يضع كتابه «الرسالة» لأول مرة. أما أحمد بن حنبل فقد اعتبر الشافعي إنقاذاً تاريخياً للسنة والحديث أمام الهجوم المزدوج من أهل الرأي في الكوفة والمعتزلة في البصرة، وكلتا الطائفتين في بغداد.

الوجه الآخر للشافعي هو الوجه العقلاني المؤسسي. فقه الشافعي يقدم وصفة واضحة وآمنة للفقيه لكي يمارس نشاطه الفقهي لكن في إطار النص بعد أن جرى تنظيم تلك الشبكة الهائلة من النصوص المتقاطعة والمتداخلة والمتضاربة أحيانا عبر علاقات توازن واضحة بينها. هذا سر انتشار فقه الشافعي وسطوته حتى على غير الشافعية لاحقا: مأسسة الممارسة الفقهية.

اختيار الشافعي موضوعاً لمسلسل يسمح إذن بتمرير الخطاب السياسي المصري بشقيه: الشق الوطني الذي سيتعامل مع الشافعي كأيقونة شعبية في التراث المصري تمثل تدين المصريين الملتزم بسلطة الدولة المصرية، والشق الديني الذي سيتعامل مع الشافعي كشيخ أزهري يحترم النصوص الدينية لكنه يضع قواعد صارمة للممارسة الفقهية تخضع الجمهور الديني لسلطة المؤسسة الفقهية التي تتعامل مع النصوص بطريقة منهجية وعقلانية.

هل سينجح المسلسل في تقديم تلك الخلطة؟ من الواضح إلى الآن أن المسلسل لا يتحرك في كل تلك الفضاءات، وهذه هي المشكلة بالضبط: المسلسل إلى الآن لا يدرك، ولا يحاول أن يقيم أي صلة نقدية أو حتى تاريخية مع، قيمة الشافعي ودوره التاريخي، ويقدم عوضا عن ذلك صورة تقليدية لشخصية الحكيم الموهوب. الشافعي فضاء واسع للتأويل والخطابات، لأنه كأي شخصية عظيمة في التاريخ يمثل تركيبا معقدا من الأوجه الخطابية التي يمكن توظيفها. المرور على ذلك دون حتى مجرد وصفه تاريخيا بشكل احتفائي، دعك من النقد وإعادة رسم الصورة من أحد وجوهها، هو عيب قاتل في أي عمل فني تاريخي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.