عندما تتعرض للسعة نار، أو وخز إبرة، أو تطأ قدمك مسمارًا دون أن تدري بشكلٍ مفاجئ، فإن ردة الفعل العكسية لديك تقوم بإبعادك عن موضع الخطر دون أي تفكير منك.

المسئول عن ردة الفعل هذه هو الجهاز العصبي، حيث يصدر أوامره بالابتعاد عن موضع الخطر دون تدخل أو تفكير منك. تنتقل هذه الأوامر في هيئة سيل من الإشارات العصبية التي تعتبر طريقة الاتصال بين الدماغ وباقي الأعضاء.

وإذا نظرنا لمكان آخر عن كثب، فسنجد أن جميع ما بداخل الكائن الحي يتواصل بلغة خاصة به، مثلما يتواصل الدماغ بباقي أعضاء الجسم، حتى البكتيريا.

تتواصل البكتيريا مع بعضها البعض بلغات خاصة، مثل لغة الكيمياء أو الإشارات الكهربية، لكن قبل أن نبدأ الحديث عن التواصل بين البكتيريا يجب أن نعي أولًا ما هي البكتيريا؟


عن البكتيريا

بكتيريا

البكتيريا هي كائنات حية وحيدة الخلية مستقلة لديها القدرة على أن تتشارك مع خلايا أخرى للقيام بمهمات عديدة بشكل جماعي. وإذا نظرنا لوجود البكتيريا في أجسادنا كبشر، فسنجد أنها موجودة بأعداد هائلة جدًا، بحيث تصل نسبتها 10:1 مقابل كل خلية بشرية.

اقرأ أيضًا: الميكروبيوم البشري، عندما يصبح جسدك فندقًا لملايين الجراثيم

في العالم البكتيري؛ كل خلية فردية تتكاثر بواسطة الانشطار الثنائي منتجة خلايا مستقلة جديدة، ومن ثم تبدأ رحلتها من أجل التكيّف والتعاون بين الخلايا الأخرى. وبما أن البكتيريا تتكيف وتتعاون؛ كان لابد من فهم طبيعة سلوكها في تلك العمليات، وهل هناك وسيلة ما تتيح لها القيام بتلك العمليات؟


لغة البكتيريا

تعمل البكتيريا بشكل جماعي من خلال مشاركة أو تقاسم المواد المغذية، والتنقل مع بكتيريا أخرى، وحتى الانتحار من أجل بقاء مستعمراتهم، ولهذا التواصل طرق مختلفة نستعرضها كالآتي:

استشعار النصاب – Quorum Sensing

يسهل رؤية البكتيريا على المستوى المجهري من خلال استخدام الأصباغ التي تتفاعل مع المكونات الموجودة في بعض الخلايا؛ وليس جميعها. استخدم هذه الطريقة «هانز كريستيان غرام – Hans Christian Gram»، حيث تستخدم صبغة الكريستال البنفسجي التي تعرف أيضًا باسم «كلوريد هيكسامثيل باراروسانيلين – Hexamethyl pararosaniline chloride»، وهو صبغ نسيجي يستخدم من أجل تصنيف البكتيريا؛ إما إيجابية الجرام، أو سلبية الجرام وفقًا للونها بعد صبغها بهذه الصبغة.

تظهر البكتيريا إيجابية الجرام باللون الأزرق الداكن أو البنفسجي، لأنها تحتفظ بتلك الصبغة داخلها بسبب وجود كمية من «الببتيدوجليكان – peptidoglycan»، وهو نوع من البوليمرات يتكون من السكريات والأحماض الأمينية التي تشكل طبقة تشبه شبكة خارج غشاء البلازما لمعظم البكتيريا، وتشكيل جدار الخلية. يوجد هذا البوليمر في جدار الخلية.

أما البكتيريا سلبية الجرام؛ فهي نوع من البكتيريا لا يحتفظ بالصبغة البنفسجية؛ بل تظهر باللون الأحمر أو الوردي بعد صبغها بسبب وجود آثار نوع من أصباغ «الكونتيرستين – counterstain» فيها، والذي يكون غالبًا «سافرانين – safranin».

يرجع اختلاف أنواع البكتيريا إما إيجابية الجرام أو سلبية الجرام إلى الهيكل المغلف الخاص بها؛ والذي يعرف بأنه غشاء وجدار الخلية، بالإضافة إلى الغشاء الخارجي إذا كان أحدهما موجودًا. هذه البكتيريا باختلاف أنواعهاتسلك سلوكًا يمكّنها من التحدث أو التواصل مع بعضها البعض.

هذا السلوك يظهر في عملية اتصال تحدث عبر إشارات كيميائية في ظاهرة تعرف باسم «استشعار النّصاب – Quorum sensing»، وهي بمثابة نظام تنبيه واستجابة مرتبط بالكثافة العددية، كان يعتقد سابقًا أنها تحدث في الكائنات متعددة الخلايا فقط.

اكتشفت عملية استشعار النصاب هذه منذ نحو خمسة عقود؛ من قبل فريق من العلماء يعتبرون الباحثين الرواد في هذا المجال، وهم: «مكفيتي – McVittie عام 1962، توماش – Tomasz عام 1965، خوكلوف – Khoklov عام 1967، ونيلسون – Nealson عام 1970».

اكتشف هؤلاء أن هناك نوعين من جزيئات الإشارات المشاركة في عملية استشعار النّصاب، أحدهما لاكتون يعرف باسم (acylhomoserine lactone (AHL الذي يُنْتَج من قبل بروتين يعرف باسم «acyl-ACP»، وإنزيم يدعى «S-Adenosyl methionine» بواسطة لاكتون يعرف باسم «acyl-homoserine lactone synthases»، وهو شائع في البكتيريا سلبية الجرام.

النوع الآخر هو ببتيد معروف باسم (autoinducing peptide (AIP، وهو شائع في البكتيريا موجبة الجرام.تتضمن الاتصالات الكيميائية عمليات متعددة مثل إنتاج وإطلاق، واكتشاف، والاستجابة لجزيئات تشبه هرمون صغيرة يطلق عليها اسم «Autoinducers»، وتتطلب عملية إنجاح الاتصال بين البكتيريا؛ القيام بها من خلال مجموعات بكتيرية كثيرة، حيث تكون العملية غير فعالة إذا قامت بها خلية بكتيرية بمفردها.

وبسبب تلك الأعداد الكثيرة من البكتيريا فإن عملية استشعار النصاب في بعض الأحيان لا تستطيع التمييز بين الكائنات بدائيات النوى وحقيقيات النوى، حيث تُعتَبر البكتيريا -في هذه الحالة- كائنات متعددة الخلايا.

يمكن أن يحدث الاتصال داخل أنواع بكتيرية متعددة، وبين البكتيريا والكائنات المضيفة لها (حقيقيات النواة) من خلال إعطائها فائدة على نطاقٍ واسع؛ حيث تسمح للبكتيريا بمراقبة بيئة بكتيرية أخرى، وملاحظة تغير سلوك أفرادها حتى تمكّنها من الاستجابة للتغيرات التي تحدث في البيئة.

بالإضافة إلى ذلك؛ أظهرت بعض الدراسات في مجالات الكيمياء الحيوية والوراثية أن البكتيريا يمكن أن تحتوي على نظم متعددة لاستشعار النصاب، ما يؤكد أهمية التواصل بين الخلايا البكتيرية.

تتميز الجزيئات التي تنطلق في عملية الاستشعار (autoinducer) ببعض المميزات كالآتي:

  1. إنتاج إشارة الاستشعار خلال مراحل محددة من النمو نتيجة ظروف فسيولوجية معينة، أو استجابة لتغيرات بيئية داخل المجتمع البكتيري.
  2. تتراكم هذه الإشارة في الجزء الخارجي للخلية؛ ويُتَعرَّف عليها بواسطة مستقبلات بكتيرية محددة.
  3. عند اقتراب التراكم لإشارة الاستشعار من الحد الحرج تتولد استجابة مشتركة بين البكتيريا.
  4. تمتد الاستجابة الخلوية إلى أبعد من التغييرات الفسيولوجية المطلوبة داخل البكتيريا؛ لتصل إلى إزالة السموم من الجزيء الذي يقوم بعملية الاستشعار.

الإشارات الكهربية – Electrical signals

تسمى البكتيريا داخل مجتمعاتها المتماسكة الضيقة بـ «الأغشية الحيوية – biofilms»، وتقوم بإرسال إشارات إلى بعضها البعض.

في عام 2010 درس عالم الأحياء الجزيئية في جامعة كاليفورنيا في سان دييجو الدكتور «جورول سويل – Gürol Süel» التواصل بين المجتمعات البكتيرية، حيث زرع مجموعتين من 1000 خلية لنوع من بكتيريا التربة تسمى «باسيلوس سوبتيليس – Bacillus subtilis»، وحاول فهم كيف تنمو مجتمعات ضخمة من البكتيريا تضم عددًا كبيرًا من البكتيريا. وجد هو وزملاؤه أنه بمجرد وصول المستعمرة إلى حجم حرج -كبير جدًا- من ملايين البكتيريا؛ تتوقف البكتيريا الموجودة على المحيط الخارجي للمستعمرة عن التكاثر، تاركة الخلايا الأساسية تعمل بإمدادات كافية من المواد الغذائية.

أدت هذه الملاحظة إلى طرح تساؤل حول كيفية معرفة البكتيريا الموجودة على السطح الخارجي بضرورة التوقف عن النمو.

حينها اكتشف سول أن الإشارات بين الخلايا كانت في الواقع إشارات كهربائية تتشابه مع الإشارات العصبية في الجسم البشري؛ حيث تنقل الرسائل عبر القنوات الأيونية والبروتينات على سطح الخلية التي تتحكم في تدفق موجات من الجسيمات المشحونة -أيونات البوتاسيوم- داخل وخارج الخلية. عملية فتح وإغلاق هذه القنوات الأيونية تستطيع تغيير شحنات الخلايا المجاورة دافعة إياها لإطلاق عدد من الجسيمات. بتلك الطريقة تنتقل الإشارات الكهربائية من خلية إلى أخرى.


أهمية التواصل بين البكتيريا

برغم أن عملية التواصل تتم بشكل معقد وبين أنواع مختلفة من البكتيريا، أو بين بكتيريا من نوع واحد؛ فإن هناك دوافع للقيام بتلك العملية كالآتي:

1. زيادة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية

أوضحت دراسة نشرت في جامعة ويسترن الكندية، لكل من الدكتور «ميجيل فالفانو – Miguel Valvano» والدكتور «عمر الحلفاوي – Omar El-Halfawy»، أن معظم الخلايا البكتيرية المقاومة للمضادات الحيوية حين تتواصل مع مجتمعات بكتيرية أخرى تشارك جزئيات صغيرة مع خلايا بكتيرية أقل مقاومة للمضادات الحيوية، ما يزيد من قدرتها على مقاومة المضادات الحيوية.

2. تكثيف مناعة المجتمعات البكتيرية ضد التهديدات الفيروسية

أظهر بحث بجامعة نيوزيلندا في أوتاغو أن البكتيريا لديها القدرة على تعزيز أو تكثيف قدرتها المناعية الخاصة بها ضد الهجمات الفيروسية. تم البحث تحت إشراف الدكتور «بيتر فينيران – Peter Fineran» في قسم علم الأحياء الدقيقة والمناعة في المجلة الدولية – Molecular Cell؛ ما يوضح أن البكتيريا على الرغم من أنها كائنات وحيدة الخلية، لكنها في كثير من الأحيان تمتلك مناعة تكيّفية تشبه مناعة الإنسان، لكنها تختلف عنها، وتسمى «أنظمة كريسبر-كاس – CRISPR-Cas systems» .

جاء هذا الحديث عندما اكتشف الباحثون أن البكتيريا لديها القدرة على قياس عدد الخلايا في مجتمعاتها؛ ما يمكنها من تعزيز قوة أنظمة المناعة «كريسبر-كاس» لمنع تفشي الفيروسات فيها.

يقول البروفيسور فينيران:

البكتيريا تشعر بكثافة مجتمعاتها من خلال التحدث مع بعضها البعض باستخدام نوع من الاتصال الكيميائي المعروف باسم استشعار النصاب. وكلما زادت الكثافة العددية داخل المجتمعات البكتيرية، زادت قوة التواصل بين الخلايا، ما يؤدي إلى تنسيق أكبر في كيفية الدفاعات المناعية.

ويضيف أن البشر قد فهموا مزايا العيش في مجتمعاتهم، وكذلك البكتيريا التي تعيش في أماكن ضيقة تبقيها قريبة من بعضها من أجل تبادل الموارد الغذائية.

وبجانب المميزات التي تتمتع بها المجتمعات البكتيرية؛ هناك أيضًا بعض الأضرار التي قد تلحقها البكتيريا بمجتمعاتها، على سبيل المثال انتشار الفيروسات، فبالطريقة نفسها التي يتعرض لها البشر في المجتمعات المكدسة للأمراض وانتشارها بسرعة، فإن المجتمعات البكتيرية الكثيفة قد تكون عرضة هي الأخرى لانتشار الفيروسات.

أما «أدريان باترسون – Adrian Patterson»، أحد المشاركين في الدراسة، فيقول إن الخلايا البكتيرية تقوم برفع مناعتها بشكل كبير عندما تتعرض لخطر انتشار الفيروسات في مجتمعاتها من خلال أنطمة «كريسبر-كاس».

تقوم أنظمة «كريسبر-كاس» بتصنيع ذكريات وراثية من عدوى فيروسية سابقة محددة تعرض لها أي مجتمع بكتيري، حيث تقوم باقتصاص أجزاء صغيرة من الحمض النووي للفيروسات وتخزينها في بنوك الذاكرة لديها للمساعدة في التعرف عليها، ثم تدميرها حين تتعرض لإصابات فيروسية مستقبلية.

عندئذ تقوم البكتيريا بزيادة قدرتها على توليد ذكريات مناعية جديدة، وتكثيف حصانتها من خطر الفيروسات، حيث تصل إلى 500 ضعف.

وأخيرًا؛ الحديث هنا مختصر جدًا ولا يتناسب مع عالم البكتيريا السحيق، وما تتم به من عمليات فسيولوجية متعددة، ومحاولة دراسة عملية لهذا التواصل تفتح المجال لفهم هذا العالم بشكل أكثر دقة، ومعرفة ما يمكن أن يقدمه للطب الحديث من معالجة والقضاء على العديد من الأمراض، ربما باستغلال التواصل بين البكتيريا بشكل ما مستقبلا، من يدري؟!