في إطار حملة الشعراء الرومانسيين على النقّاد في إنجلترا، وصف زعيم الرومانسيين وليم وردزروث، الناقد بأنه شاعر فاشل، حمل ضغائنه معولا للهدم يعمله في إبداع الآخرين الذي عجز عن مثله، وخلص من ذلك إلى حكمه القيمي، أن «قصيدة رديئة خير من مقال نقدي حاقد». بقي النقد يترنح تحت ضربات الرومانسيين حتى أتى ماثيو أرنولد، الرجل الذي جمع بين الموهبة الشعرية التي لا يمارى فيها، والوظيفة النقدية، في آن، ليعيد للنقد مكانته التي كاد يفقدها. ولا يختلف الحال في العلاقة بين المثقف والسياسي.

ظهر مصطلح المثقف إبان قضية دريفوس الشهيرة في فرنسا بين 1894 و 1906؛ حيث عرف المدافعين عن براءة النقيب اليهودي في الجيش الفرنسي والمتهم زورا بالخيانة، وعلى رأسهم إميل زولا الأديب الفرنسي المعروف، بالمثقفين، في مواجهة القوميين وأعداء السامية. وارتبط المصطلح منذ ذلك الحين بالموقف النقدي تجاه السلطة والوضع القائم. وارتسمت على إثر ذلك صورة للمثقف في مخيلة الحالمين باعتباره قديسا لا يخوض بحر السياسة اللجي إلا في مركب الثورة ونقد السلطة.

ظهر مصطلح المثقف إبان قضية دريفوس الشهيرة في فرنسا؛ حيث عرف المدافعين عن براءة النقيب اليهودي في الجيش الفرنسي والمتهم زورا بالخيانة، بالمثقفين

ينتمي المثقف إلى عالم المطلق والحقيقة بينما ينتمي السياسي إلى عالم الممكن والواقعي؛ ولذا يصيب المثقف ما يصيب الأفكار حين تتجسد في العمل السياسي من تشويه وأخطاء تترفع عنها الحقيقة كما يترفع عنها المثقف. ولكننا عندئذ إذا رفضنا مقولة أن المثقف سياسي فاشل، باعتبار أنه لم يكن سياسيا فشل فصار مثقفا، فإن علينا أن نقبلها بمعنى أنه إذا ما احتاج إلى أن يكون سياسيا فلن يكون إلا فاشلا. المثقف الذي يلهم الثورة وربما يقودها يعجز لاحقا عن بناء ما لا يستطيعه سوى السياسي. ليست المسألة مسألة وعي؛ وإنما مسألة أدوات. قد يمتلك المثقف وعيا بالمسألة السياسية لكنه يفتقد أدوات السياسي في تناول الممكن والواقعي. إن تجربة السياسة لا يمكن أن تنتهي إذن بالمثقف إلا إلى فشل درامي، ينتهي بعده إما إلى عزلة صوفية ربما يختارها من بداية الطريق، يتوخّى فيها السلامة السهلة وسط إعجاب وتصفيق الأتباع على التفوق في اختبار لم يخضه أستاذهم، أو ينتهي إلى عدمية تجسد دراما الضلال بعد مثالية البراءة الأولى!

يحتاج المثقف أن يخرج أفكاره من عالم المعاني إلى عالم المباني؛ وهو مخاض يتم في عالم المادة وعليه أن يحترم قوانينها. يحتاج المثقف إذن إلى السياسة والسلطة. إن الموقف الأخلاقي للمثقف إذن ليس فقط أن يدين السياسي وصاحب السلطة، بل أن يتعاون معه في تحقيق غاياته «إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني». وهنا قد يتحول المثقف نفسه إلى سياسي حقيقي. والسياسي الحقيقي لا يمكن أن يكون سياسيا في الوقت نفسه ما لم يكن مثقفا يمتلك الوعي بما ينبغي أن يكون وليس فقط بما هو كائن. إن النظرية التي لا تستطيع أن تحيا وأن تتحمل أخطاء الممارسة نظرية وهمية لا وجود لها إلا في المخيلة؛ طوبيا تنكسر على صخرة التاريخ.

يمثل د. عزمي بشارة المفكر والمناضل الفلسطيني نموذجا لتلك الجدلية التي لم تكن الوحيدة على مدى حياته الممتلئة. فبشارة ليس فقط المثقف السياسي، وإنما هو أيضا المناضل الفلسطيني عضو الكنيست، وهو سليل الأسرة الماركسية المسيحية الذي تربى في المدرسة المعمدانية وحاز الدكتوراه عن كتاب رأس المال لماركس قبل أن ينفصل عن الحزب الشيوعي بعد خلاف حاد مع قياداته. جمع بشارة على مدى حياته بين المسارين النضالي السياسي والفكري، فقد برز كأحد أهم وجوه الحركة الطلابية العربية في السبعينات، قبل أن يرحل إلى ألمانيا الشرقية حيث حصل على الدكتوراه عن رسالة بعنوان: المنطقي والتاريخي في منهج البحث في كتاب رأس المال، عام 1986. ثم عمل بعد عودته أستاذا للفلسفة وللعلوم السياسية في جامعة بيرزيت قبل أن يؤسس حزبه التجمع الوطني الديموقراطي الذي خاض به انتخابات الكنيست وفاز بعضويته لأربع دورات متتالية: 1996، 1999، 2002، 2006. لكن مسيرته السياسية في الكنيست على الرغم من طولها لم تكن يوما هادئة أو مستقرة، وتكللت بنهاية مثيرة حيث انتقل بشارة إلى قطر وقدم استقالته من الكنيست بعد تهديده بتهمة التعاون مع حزب الله أثناء حرب تموز.

ينتمي المثقف إلى عالم المطلق والحقيقة بينما ينتمي السياسي إلى عالم الممكن والواقعي؛ ولذا يصيب المثقف ما يصيب الأفكار حين تتجسد في العمل السياسي من تشويه وأخطاء

وفي قطر منذ 2007 شارك بشارة في صناعة السياسات القطرية من خلال المؤسسات السياسية والبحثية والإعلامية التي قام بتأسيسها هناك، وأبرزها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2010، ومعهد الدوحة للدراسات العليا 2012، ثم أخيرا جريدة العربي الجديد وقناة التلفزيون العربي، التي أزعجت سريعا بعض الأنظمة العربية.

لعب الحس الأخلاقي دورا كبيرا في مسيرة بشارة الفكرية والسياسية على السواء؛ وربما كانت لنشأته في المدرسة المعمدانية بالناصرة أثرا كبيرا في ذلك. فقد رفض بشارة التنكر الماركسي للأخلاق باعتبارها نسبية طبقية، خاصة عند تعرفه عليها في دراسته بألمانيا، ورؤيته تجسيدها في الأنظمة الشيوعية التي صدمته في أوروبا الشرقية. إن غياب الأخلاق يعني كارثة حضارية، ولا فلسفة بلا أخلاق، حسبما يصرح بشارة نفسه. اكتملت خيوط نقد الماركسية عند بشارة، فالنقد الأخلاقي صاحبه نقد سياسي للنزوع اللاقومي عند الشيوعيين الفلسطينيين. لم يذكر الشيوعيون حق العودة، كما أنهم راهنوا على المشروع الصهيوني باعتباره مشروعا تقدميا! كما أيدوا قرار التقسيم بعد أن قبله السوفييت وكانوا ضده قبل ليلة واحدة! وكان أبوه ممن شاركوا في توزيع منشور التأييد حتى قبض عليه جيش الإنقاذ العربي ولكنه أطلق سراحه فيما بعد. لقد كان بشارة أخلاقيا بقدر ما كان واعيا بطبيعة اللعبة السياسية، وكان صاحب أفكار واضحة بقدر ما رفض التشوهات الأيديولوجية في الماركسية والقومية والتي حولتهما إلى أيديولوجيات شمولية فاسدة؛ مما دفعه إلى التمسك بالأخلاق والديموقراطية والبعد الديني في الحضارة كخيارات لا تقبل المساومة جنبا إلى جنب مع الوعي الماركسي والقومي.

لم تمنع بشارة علاقاته الطيبة بالنظام السوري من تأييد الثورة السورية، الأمر الذي دفع اليسار القومي إلى اتهامه بالسقوط في الظلامية الإسلامية وإلى حد التساؤل عن حقيقة اعتقاده الديني بشكل هزلي!

في ورقته التي نشرتها مجلة تبين الصادرة عن المركز العربي في مايو 2013 بعنوان «عن المثقف والثورة» (حمل الورقة) يعرف بشارة المثقف باعتباره من يمتلك القدرة على اتخاذ مواقف استنادا إلى قاعدة معرفية تمكن من التوصل إلى أحكام قيمية ومعيارية. وإذا ارتبطت الثقافة بالموقف النقدي فإن بشارة لا يرى أن الموقف النقدي القيمي والمعياري هو فقط الموقف الثوري، بل قد يكون الموقف المحافظ الذي يؤكد إمكانات الإصلاح والتغيير في الدولة وتقاليدها والإطار السائد موقفا نقديا أخلاقيا بنفس القدر. ليس شرطا أن يكون المثقف ثوريا يساريا، بل قد يكون المثقف متدينا ويمينيا يدافع عن القيم السائدة ويوجه نقده إلى الممارسة التي لا تتشبث بها.

يمثل د.عزمي بشارة المفكر والمناضل الفلسطيني نموذجا لتلك الجدلية، حيث جمع على مدى حياته بين المسارين النضالي السياسي والفكري

وينتقد بشارة نزعتين منتشرتين بين المثقفين العرب عن المسافة التي يجب أن تفصل المثقف عن السلطة: النزعة الأولى التي عبر عنها إدوارد سعيد وهي أن المثقف الحقيقي يجب أن يفرض على ذاته المنفى وأن يكون على هامش المجتمع، والنزعة الثانية هي توقع النقدية من الفنانين والأدباء. فالمسافة التي يتخذها المثقف من المجتمع لا ينبغي أن تكون مسافة قسرية يفرضها على نفسها، بل أن تكون مسافة طبيعية نابعة من أدوات المثقف النظرية التي يوظفها، والتي قد يتبناها مثقف محافظ أو ثوري كما سبقت الإشارة.

لعب كتاب إدوارد سعيد «المثقف والسلطة» أو «صور المثقف» دورا كبيرا في ترسيخ الصورة الرومانسية التي تحدثنا عنها عن المثقف في الأوساط العربية. ويوجه بشارة نقده إلى نزعة سعيد التي يتبناها من ينتمون إلى المؤسسة الأكاديمية الغربية ويعتبرون جزءا من خطابها. إن المثقف الذي يفرض على نفسه العزلة، ويريد أن يقدمها كصورة مثالية كما قدمنا، ينسى أنه ليس فقط عاجزا عن الإصلاح الحقيقي ولكنه يتحول إلى جزء من النظام القائم، يحتويه ويدجنه، ويتعايشا معا، كما نصح جوزيف شومبيتر المؤسسة الليبرالية بضمان حرية المثقف المعارض لضمان حرية الرأسمالية نفسها!

ينسى الشباب المثقفون العرب أن هذه المسافة التي يطالب بها المثقف الغربي بين المثقف والسلطة بل والسياسة كذلك، إنما يطالب بها ضمن دولة راسخة ذات تقاليد سائدة، وأن المثقف العربي في المقابل يتعامل مع أنظمة مهترئة تقوم على العنف المباشر، ومن ثم فهو يحتاج إلى المشاركة الفعالة في بناء الدولة والسياسة لا مجرد إدانة ونقد الواقع.

يلعب الاتزان النفسي الشخصي دورا كبيرا في صناعة هذا المثقف السياسي؛ لم يقفز عزمي بين الأيديولوجيات جراء صدماته الفكرية المبكرة والمفارقات التي أحاطت به وبجيله كله وأدت إلى تشوهات عميقة في أبنائه انتهت بهم على موائد الأنظمة؛ وإنما نجح في استيعاب الفكر ونقده والخروج برؤاه الخاصة. إن هذا الاتزان هو ما يحتاج إليه جيلنا من المثقفين الشباب ليدرك أن الموقف النقدي ليس فقط في رفض السياسي وإنما في الوقوف بجانبه ودفعه للتغلب على ثقافة وسياسة الفساد، وأن ثمة فارق كبير بين مثقف السلطة وفقيه السلطان الفاسد وبين المثقف السياسي الفعّال الذي يشارك سياسيا في الإصلاح، وأن يخرج هذا الجيل من الخطابات الحماسية إلى العقلانية الواقعية التي لا تنسى المبادئ والغايات الأخلاقية؛ حتى لا نكون جيلا من «المبتسرين».