أُضيف بعدٌ جديد للاجتياح الروسي لأراضي أوكرانيا، بعدما تكاثفت التقارير الإعلامية التي وثّقت استهداف الجيش الروسي للمتاحف الأوكرانية عبر التدمير أو الاستيلاء على محتوياتها ونقلها إلى أماكن خاضعة للسيطرة الروسية، وهو ما وصفته أوكرانيا بأنه محاولة كاملة لمحو الهوية الأوكرانية من الوجود.

بعض المؤسسات الراعية للثقافية، مثل منظمة أمريكية والتي تُدعى «مختبر مراقبة التراث الثقافى» يقع مقرها في فيرجينيا، وتنشغل بتتبّع الأحداث في أوكرانيا عبر تحليل صور الأقمار الصناعية، أعلنت أن خطة تدمير الثقافة الأوكرانية وتحويلها إلى «أرض محروقة» تسير على قدمٍ وساق.

وهو ما دفع أوكرانيا لاتّهام موسكو علنًا بأنها تسرق آلاف القطع الفنية من متاحفها تمهيدًا لعرضها لاحقًا داخل روسيا، فصرّح إيهوري بوشيفيلو، مدير متحف الميدان في أوكرانيا، بأن الهدف من تلك العمليات هو القضاء على «ذاكرتنا التاريخية، وتقاليدنا الثقافية، وهويتنا الوطنية والفردية».

وهو ما يتعارض مع اتفاقية لاهاي التي وقعتها دول العالم- منها روسيا وأوكرانيا- عام 1954م، والتي تعتبر أن «الضرر الذي يلحق بالممتلكات الثقافية يعني الإضرار بالتراث الثقافي للبشرية كلها».

لذا صرّح لازار إلوندو مدير مركز التراث العالمي لليونسكو، بأنه يشعر بالقلق البالغ من أن أعمال الحرب تلك تُفقد أوكرانيا تراثها الثقافي تدريجيًا، فيما حثّت أودري أزولاي رئيس اليونيسكو موسكو على الالتزام باتفاقية لاهاي.

وقالت أزولاري في رسالتها:

أؤكد الحاجة إلى تقديم ضمانات ناتجة عن التزامات الاتحاد السوفييتي باتفاقية 1954م وغيرها من قواعد القانون الإنساني ذات الصِلة.

وهو ما يعيد للأذهان الاتهامات الغربية لروسيا بأن تدخلها العسكري في سوريا أدّى إلى تدمير العديد من مُدن العصور الوسطى والمراكز الثقافية والآثار، ما نتج عنه نهب مئات القطع الأثرية من المتاحف السورية، كما أن روسيا سبق وأن صادرت قطع أثرية كانت موجودة في متاحف شبه جزيرة القرم وعرضتها في روسيا.

في ميليتوبول: أين الذهب؟

فور اندلاع الغزو الروسي، اتّبعت ليلى إبراهيموفا مديرة متحف التاريخ المحلي في مدينة ميليتوبول التي تقع في جنوب شرق أوكرانيا، اتّبعت خطة طوارئ اقتضت إخفاء أهم المجموعات الأثرية التي يعرضها متحفها، وعلى رأسها مشغولات ذهبية تنتمي إلى عصر مملكة سكيثيا، وهي مملكة سادت أراضي شرق أوروبا خلال الفترة من القرن الـ8 وحتى القرن الثاني قبل الميلاد.

وعقب دخول الروس المدينة، فوجئت ليلى بأنهم يستهدفون ذلك الكنز الذهبي تحديدًا بعدما أُلقي القبض عليها، وجرى استجوابها لمعرفة مكان المشغولات السكيثية ولما رفضت التعاون معهم، هُددت بالموت فاضطرت لكشف مكان المخبأ حيث استولى مسلّحون روس على القطع الذهبية ونُقلت إلى مدينة دونيتسك الأوكرانية، والتي تقع تحت سيطرة القوات الروسية.

وبحسب تقرير «نيويورك تايمز»، فإن الجيش الروسي عيّن مديرًا جديدًا للمتحف، هو إيفجيني جورلاتشيف الذي ظهر على التلفزيون الروسي واعترف بالاستيلاء على تلك القطع بدعوى أنها «تمثّل قيمة ثقافية كبيرة للاتحاد السوفيتي بأسره، وليس لأوكرانيا وحدها».

في تعلق «الجارديان» على هذا التصريح، اعتبرت أن هذه الكلمات «صُممت بعناية» ضمن معالم الخطة الروسية لمحو التراث الأوكراني واستبدال التراث الروسي بدلاً منه، في سعي حثيث على إعادة أوكرانيا إلى دائرة النفوذ الروسية من جميع الجوانب سياسة كانت أو حتى ثقافية.

مثّلت تلك الواقعة فصلاً جديدًا من وقائع تعرُّض المتاحف الأوكرانية للدمار على أيدي الجيش الروسي، كأحد توابع العملية الروسية في أوكرانيا، والتي لا يبدو لها نهاية حتى اليوم.

وتمثّل تلك القطع تحديدًا أهمية كبيرة وقديمة لروسيا، فقبل انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا، أعار المتحف- حين كان خاضعًا للسيطرة الأوكرانية- جانبًا من قطع الذهب السكيثي إلى أمستردام، وهناك أوعز بوتين لمتاحف القرم بأن تُطالب بإعادة تلك القطع إليها وليس إلى أوكرانيا، وخاض الجانبان معركة قضائية طويلة انتهت بخسارة القرم ومن خلفها روسيا، وحكم القضاء بأحقية أوكرانيا في تلك القطع.

ماذا يجري للمتاحف؟

وفقًا للجارديان، فإن الجيش الروسي ألحق اضرارًا جسيمة بـ250 متحفًا ومؤسسة ثقافية أوكرانية، من أشهر هذه المؤسسات: مكتبة إحياء الفنون في ماريوبول، ومتحف الفنون القوطية في تشيرنيهيف، ومجمع بابين يار المخصص لإحياء ذكرى الهولوكوست في كييف.

حُرقت 25 لوحة للفنانة الأوكرانية الشهيرة ماريا برماتشينكو عقب قصف متحف التاريخ المحلي في مدينة إيفانكيف بصاروخ خلال أعمال العصار المطبق الذي فُرض على مقاطعة ماريوبول.

وبخلاف ذلك، فإن 110 نصب تذكارية تعرضت للدمار على أيدي الروس، ليصل مُجمل القطع الأثرية الأوكرانية المُستولَى عليها ألفا قطعة، منها نسخة نادرة من الإنجيل مكتوبة بخط اليد، ونسخة إنجيل عتيق طُبعت بالبندقية عام 1811م.

وهو ما يُعيد للأذهان سلوكيات ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، والتي اعتادت الاستيلاء على آثار الدول التي احتلتها خلال الحرب، وكذا فعل نابليون بونابرت عقب نجاحه في اجتياحه إيطاليا وبلجيكا أمر بشحن العديد من معروضاتهم الفنية إلى باريس.

كما لُوحِظ أن اللوحات المستهدفة بالسرقة هي التي تنتمي إلى الهوية الأوكرانية تحديدًا بعدما تُركت أي أعمال فنية تنتمي لفناني أوروبا الغربية.

ومن أبرز أعمال الفنانين التي سُرقت هي لوحات للرسّام إيفان إيفازوفسكي الذي عاش في القرن التاسع عشر، والرسامة لتيتيانا يابلونسكا المولودة في بداية القرن العشرين، وكلاهما تتنازع روسيا وأوكرانيا إرثهما طوال السنوات الفائتة حتى اختارت موسكو حسم المعركة بطريقتها.

نتيجة لهذه الأفاعيل فإن بعض المتاحف سعت لاتخاذ إجراءات أمان أكثر صرامة بحق معروضاتها، مثلما فعلت فالنتينا ميزجينا مديرة متحف خاركيف للفنون، والذي تحطمت نوافذه في بداية شهر مارس تأثرًا بانفجارٍ مُجاور، لذا سعت لإخفاء معروضاتها من اللوحات الثمينة، تقول «أخفيناها في مكانٍ آمن، وإن كان تعريف الأمان في هذه الأيام أمر نسبي».

في المقابل، فإن المتحف الوطني في مدينة لفيف اختار العكس تمامًا، بعدما قرّر مسؤولوه عدم إزالة أي محتوياته التي يبلغ عددها 65 ألف قطعة، واستمرارهم في العمل بطريقة اعتيادية، وصرّح تارات فوزدياك مدير المتحف لصحيفة «التايمز»: بوتين يهدف إلى تحويل الأوكرانيين إلى لا شيء، ومن أجل إظهار أننا أحياء سنفتح المتحف.

أيضًا، دمّر قصف روسي المنزل التاريخي للشاعر الأوكراني الشهير هريوري سكوفورودا، الذي يقع في قرية صغيرة قريبة من خاركيف، في هجوم وصفته «سي إن إن» بأنه «متعمّد، ومن أعمال التخريب الثقافي التي تُداوم روسيا عليها منذ بدء الغزو».

سكوفورودا من أبرز الشخصيات الثقافية التي أنجبتها أوكرانيا خلال القرن الـ18، وتحلُّ في هذا العام الذكرى الـ300 لميلاده، وهو ما استدعى دعمًا متوقعًا من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بعدما اعتبر أن مواقف الرجل «خطر رهيب على روسيا الحديثة».

وفي ذات الخطاب أعلن زيلينسكي أن موسكو دمّرت ما يزيد على 200 موقع ثقافي أوكراني منذ بدء الحرب.

تمثال أوكراني تمت تغطيته لحمايته من أي قصف روسي
تمثال مقام في إحدى ساحات مدينة لفيف الأوكرانية، تمت تغطيته لحمايته من أي قصف روسي محتمل

المتاحف: تباهي الصمود

وتُشكّل المتاحف في أوكرانيا جزءًا من مساعيها للتفاخر بصمودها أمام الآلة العسكرية الروسية، فلقد دشّنت متحفًا في كييف لعرض بعض مخلّفات العملية العسكرية التي تجري حاليًا على أراضيها.

ويعرض المتحف في كييف أجزاءً من حطام المعدات الروسية التي جرى تحطيمها خلال الحرب، مثل بقايا طائرات هليكوبتر وأجزاء من صواريخ روسية مضادة للطائرات، وأيضًا مخلّفات تركها اللاجئون في الملاجئ خلال الحصار.

وهو ما يُضيف لاستهداف روسيا للمتاحف بُعدًا نفسيًا جديدًا للأوكرانيين، وهو أن القتال لم ينتهِ بعد، وألا تتباهوا أبدًا بنصرٍ لم تحرزوه بعد.